تتزايد الأنشطة العسكرية في منطقة القطب الشمالي الغنية بالموارد الطبيعية، بالإضافة إلى ظهور ممرات بحرية مهمة لحركة التجارة العالمية بعد ذوبان الثلوج، في ظل تنافس روسي أميركي للهيمنة عليها ما ينذر بسباق تسلح
– يحذر إيليا كرامنيك، الخبير بالمجلس الروسي للشؤون الدولية، من تزايد الأنشطة العسكرية في منطقة القطب الشمالي خلال السنوات المقبلة، معتبرا أنه لم يتراجع سوى لفترة قصيرة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء “الحرب الباردة”، وهو ما يقتضي التمييز بين المصالح الاقتصادية مثل الملاحة البحرية وإنتاج موارد الطاقة في الجرف القاري (يمتد لما يتراوح بين 200 و350 ميلا بحريا) ، وأخرى عسكرية للقوى الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة ضمن التنافس على نشر صواريخ بالقرب من حدود إحداهما الأخرى، بحسب إفادة الخبير في معهد الجغرافيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أركادي تيشكوف، وهو ما يؤكده تقرير بعنوان “أركتيك – 2024” صادر عن المجلس الروسي للشؤون الدولية (منظمة غير ربحية معنية بدعم اتخاذ القرار في مهام السياسة الخارجية) والذي حذر من إغلاق المنطقة أمام التعاون الدولي واسع النطاق لاعتبارات أمنية حتى في حال لم يبدأ فيها سباق التسلح في الأفق المنظور.
تشكل منطقة القطب الشمالي استثناء نادرا في مشهد تصاعد التوتر بين روسيا الغرب، إذ لم تتم التضحية بالتعاون رغم التوتر الراهن. ومن بين أوجه هذا التعاون التي أشار إليها تقرير “أركتيك – 2024″، التنسيق في إطار المجلس الأركتيكي (يضم روسيا والدانمرك وإيسلندا وكندا والنرويج والولايات المتحدة وفنلندا والسويد)، وإبرام اتفاقية لتعزيز التعاون العلمي في منطقة القطب الشمالي، التي تشكل آفاقا واعدة لتحول الشرايين البحرية الشمالية إلى ممرات هامة لحركة التجارة العالمية، مع استمرار ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الثلوج في منطقة القطب الشمالي، بحسب إفادة فلاديمير خارلوف، نائب رئيس اتحاد تنسيق استخدام الممر البحري الشمالي، (منظمة غير ربحية معنية بدعم الملاحة التجارية)، والذي توقع أن السفن التجارية لن تحتاج إلى مرافقة كاسحات الجليد بحلول منتصف القرن، ما سيترجم إلى انخفاض تكلفة الملاحة.
ازدادت الفعاليات العسكرية الغربية في القطب الشمالي بمقدار الضعف
يشير خارلوف إلى أهمية الممر البحري الشمالي، قائلا لـ”العربي الجديد”: “يشكل هذا الممر شريانا بحريا جديدا يربط بين روسيا وبلدان جنوب شرق آسيا واليابان والصين وغيرها، وازدادت حركة التجارة السنوية عبره في السنوات الماضية من 5 ملايين طن إلى نحو 32 مليون طن بحلول نهاية عام 2020 ويتوقع أن تصل إلى 80 مليونا بحلول عام 2024. صحيح أن هذه الأرقام لا يمكن مقارنتها مع الشرايين التجارية العالمية مثل قناة السويس، ولكن الممر الشمالي لا يزال في مرحلة الانطلاق، ما يزيد من تفاؤلنا بآفاقه المستقبلية”.
الصورة
القطب2
ولا تزال تكلفة الملاحة البحرية بالمناطق الشمالية أعلى كثيرا منها بقناة السويس بسبب ضرورة الاستعانة بمرافقة كاسحات الجليد خلال الجزء الأكبر من العام باستثناء الصيف وبداية الخريف، ولذلك يقتصر استخدام الممر الشمالي على نقل شحنات عاجلة وذات أهمية قصوى، كما يقول خارلوف مضيفا أنه في حال استمرار الاحتباس الحراري بنفس الوتيرة، لن تكون هناك ضرورة لمرافقة كاسحات الجليد للسفن التجارية بحلول عام 2050. وتابع: “في المرحلة الحالية، يمكن الاستفادة من تجربة قناة السويس في استخدام النظم الملاحية وتقاليدها العريقة في مجال الملاحة البحرية. وهناك مخاطر ملاحية بصرف النظر عن اختيار شريان بحري على حساب آخر، مثل الظروف الجوية القاسية في المحيط المتجمد الشمالي وهناك القراصنة الصوماليون في البحر الأحمر”.
منافسة مؤجلة بين شريان الملاحة عبر القطب الشمالي وقناة السويس
وبلغ إجمالي حمولات السفن العابرة لقناة السويس 1.21 مليار طن في العام المالي (2019/2020)، وفق ما جاء على الموقع الإلكتروني للقناة، بفارق نحو 40 ضعفا مقارنة بالأرقام المتوقعة للممر البحري الشمالي. وحول دور التغير المناخي في تغيير خريطة التجارة العالمية، يتابع خارلوف: “صحيح أن الاحتباس الحراري يأتي بتهديدات خطيرة مثل احتمال غمر مدن وموانئ كاملة كميناء أمستردام، ولكنه زاد أيضا من الإمكانيات الملاحية بالخطوط العرضية الشمالية خلف الدائرة القطبية الشمالية وأتاح تقليص المسافات”.
استخدام التنقيب عن النفط والغاز بطريقة سياسية أكثر منها اقتصادية (Getty)
تحقيق
موارد “المتوسط” الهيدروكربونية…كيف حجزت روسيا نصيبها من حصة دمشق؟
فصل بين المصالح الاقتصادية والعسكرية
يحظى تطوير الملاحة عبر منطقة القطب الشمالي باهتمام القيادة الروسية، إذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، أثناء افتتاحه أكبر كاسحة جليد غير نووية في العالم “فيكتور تشيرنوميردين” في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنها ستستخدم لمرافقة سفن الشحن عبر الممر البحري الشمالي.
وتشكل رئاسة روسيا للمجلس الأركتيكي في الفترة ما بين 2021 وحتى 2023 فرصة للحصول على استثمارات في الممر البحري الشمالي تقدر بـ 200 مليون دولار لتحديث الموانئ شمال روسيا وإجراء أعمال على أعماق كبيرة وبحوث التغير المناخي، كما يقول خارلوف، وهو ما يؤيده تيشكوف داعيا إلى التفرقة بين المصالح الأمنية والاقتصادية في منطقة القطب الشمالي، موضحا لـ”العربي الجديد” أن منطقة القطب الشمالي تعد أقصر طريق إلى كندا والولايات المتحدة، كما أنها منطقة غنية بالموارد الطبيعية، ولكنها ظلت على الرغم من ذلك خارج السياسة ولم تلتف إليها حتى الدول المطلة عليها لفترة طويلة. “وبحلول بداية التسعينيات من القرن الماضي، وضعت الأطراف الدولية خطة تأسيس “منطقة القطب الشمالي المفتوحة”، ولكن الغرب بدأ في وضع خطط لعسكرة هذه المنطقة”.
وحول أبعاد التنافس بين روسيا والغرب ومصالحهما في منطقة القطب الشمالي، يضيف: “تملك روسيا أكبر أسطول من كاسحات الجليد، وتطل أراضيها على 40 في المائة من امتداد منطقة القطب الشمالي، ومن الطبيعي أنها تشكل موضع اهتمام من جهة تحقيق المصالح الاقتصادية والعسكرية”.
وتمتلك روسيا 40 كاسحة جليد مقابل كاسحتين فقط للولايات المتحدة، وسبع لفنلندا، وست لكل من كندا والسويد، وفق بيانات موقع صحيفة “إزفيستيا” شبه الرسمية الروسية. وفيما يتعلق بالمصالح الاقتصادية الروسية في منطقة القطب الشمالي، يتابع: “يحتوي الجرف القاري المطل على منطقة القطب الشمالي على حقول الهيدروكربونات، ولكن إنتاجها صعب تقنيا وعالي الكلفة، وبالتالي، غير مجد في الظل التغييرات التي تشهدها سوق الطاقة حاليا (أي تراجع أسعار النفط من 115 دولارا للبرميل في منتصف عام 2014 إلى 60 دولارا حاليا). ولذلك يقتصر الاستخدام التجاري لمنطقة القطب الشمالي حاليا على إنتاج الغاز الطبيعي المسال ونقل بعض الشحن دون إمكانية منافسة قناة السويس بسبب تكلفة الملاحة المرتفعة”.
وعلى الصعيد العسكري، يقلل تيشكوف من واقعية استخدام القطب الشمالي لأغراض عسكرية مباشرة مثل نشر الصواريخ، قائلا: “من وجهة النظر التكنولوجية، يصعب في المرحلة الراهنة نشر صواريخ بالقرب من القطب الشمالي، ولكن هذا الاحتمال وارد في حال تصاعد حدة المواجهة. بالإضافة إلى ما سبق وأثاره ترامب عن شراء جزيرة غرينلاند من الدانمرك لنشر صواريخ بالقرب من الحدود الروسية”.
أعلنت روسيا في عام 2019 عن نشر أحدث المنظومات للدفاع الجوي “إس-400” (“تريومف”) بإحدى جزر أرخبيل الأرض الجديدة (يقع في المحيط المتجمد الشمالي)، وهي خطوة بررتها وزارة الخارجية الروسية في وقت لاحق بأنها منظومة دفاعية بامتياز وأن “نشرها في أي مكان يجب ألا يثير قلقا”.
وعلى الرغم من بقاء منطقة القطب الشمالي بعيدة نسبيا عن التوترات الجيوسياسية الروسية الأميركية، إلا أن كرامنيك يتوقع ألا يدوم هذا الوضع طويلا، قائلا في حديث لـ”العربي الجديد”: “يمكنني أن أقول إن منطقة القطب الشمالي كانت دوما ساحة للتنافس، ولكن كثافة الاختبارات والنشاط العسكري بشكل عام في المنطقة تراجعت بعد انتهاء “الحرب الباردة” لفترة ما”.
ويضرب الخبير الروسي مجموعة من الأمثلة على الأنشطة العسكرية الروسية والأميركية في منطقة القطب الشمالي، مضيفا: “نشهد تدريبات مكثفة بمشاركة القوات البحرية الأميركية، بما فيها تدريبات ICEX للغواصات للتدرب على استخدامها تحت طبقات الجليد والقصف بالطوربيد وصيانة الغواصات في القواعد القطبية. في حين تجري القوات الجوية الفضائية الروسية والأسطول البحري الحربي الروسي، تدريبات على نقل القوات واختبارات منظومات للدفاع الجوي والمروحيات وغيرها من المعدات المصممة خصيصا للاستخدام خلف الدائرة القطبية الشمالية”.
ويخلص إلى أن “هذا النشاط سيزداد في السنوات المقبلة مع الأخذ بعين الاعتبار أن منطقة القطب الشمالي تشكل جغرافياً منطقة للتماس المباشر بين الولايات المتحدة وروسيا”. وبحسب تقديرات قيادة أسطول الشمال الروسي الصادرة نهاية عام 2019، فإن عدد الفعاليات العسكرية التي أجرتها الدول الأجنبية في منطقة القطب الشمالي، ازداد خلال السنوات الخمس الماضية بمقدار الضعف، وسط توقعات بزيادة الحضور العسكري في المنطقة في السنوات المقبلة.
إلا أن روسيا نفسها، ليست بمنأى عن تعزيز مواقعها في منطقة القطب الشمالي، ونفذت في إبريل/نيسان الماضي، أول عملية إنزال في منطقة القطب الشمالي، شملت نزول قوات المظليين من ارتفاع عشرة كيلومترات في منطقة أرخبيل أرض فرانز جوزيف بالمحيط المتجمد الشمالي. كما صادق بوتين في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على استراتيجية تنمية منطقة القطب الشمالي حتى عام 2035، شملت بنوداً اجتماعية واقتصادية، وتزويد القوات المرابطة في المنطقة بالأسلحة الحديثة وتطوير البنية التحتية العسكرية.
رامي القليوبي
العربي الجديد