ركزت “الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني” لعام 2018 على التنافس مع الصين وروسيا كأولوية قصوى، وقد يتمكن البنتاغون أخيراً من تحقيق هذه النية في ضوء إطار العمل الراهن في الشرق الأوسط ورغبة إدارة بايدن في تحويل التركيز بعيداً عن المنطقة. ومن خلال تعديل تناوبات حاملات الطائرات، وقدرات فرق الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الأمريكية، يمكن لإدارة بايدن المساهمة في الأمن الإقليمي والاكتفاء الذاتي مع الاستمرار في التحوّل نحو منافسة القوى العظمى.
في الرابع من شباط/فبراير، أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن وزارته ستباشر بمراجعة وضع القوة العالمية للبصمة العسكرية الأمريكية ومواردها واستراتيجيتها ومهامها. وفي السابق، ركزت “الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني” لعام 2018 لإدارة ترامب على التنافس مع الصين وروسيا كأولوية قصوى، وقد يتمكن البنتاغون أخيراً من تحقيق هذه النية في ضوء إطار العمل الراهن في الشرق الأوسط ورغبة إدارة بايدن في تحويل التركيز بعيداً عن المنطقة. كما أن تدمير خلافة تنظيم «الدولة الإسلامية»، والتعاون الأمني العربي-الإسرائيلي المعزز الذي بدأته “اتفاقيات إبراهيم”، والجهود السعودية-الإماراتية لرأب الصدع مع قطر، ورغبة الرئيس بايدن في تخفيف التوترات مع إيران، توفر جميعها فرصة لإعادة التفكير في الموقف العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.
ويوفر مشهد التهديدات المتغير في المنطقة فرصاً مماثلة. وعوضاً عن إبقاء مسألة مكافحة الإرهاب في طليعة أهداف القوة الأمريكية كما كانت منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر، يجب على واشنطن أن تعطي الأولوية الآن لمهام ملحة أخرى – وتحديداً طمأنة الحلفاء وردع إيران ودعم الديمقراطية وتقليص درجة الانكشاف وخفض التكاليف، مع الهدف الرئيسي المتمثل في تحرير الموارد اللازمة من أجل التحوّل الاستراتيجي للإدارة الأمريكية إلى منافسة القوى العظمى. وقد بدأت بالفعل الجهود لزيادة الخيارات غير العسكرية لواشنطن، مثل تعزيز السلك الدبلوماسي، وإصلاح العلاقات مع الشركاء، وإعادة تأكيد التزام الولايات المتحدة بالمنظمات الدولية. لكن لا يزال من الضروري أن يفكر البنتاغون في كيفية تطوير وضع قوته من أجل تحقيق جميع الأهداف الأخرى.
وفيما يلي عدة توصيات لتحقيق هذه الغاية. ويشار إلى أن كل واحدة من هذه الأفكار تأخذ بوجود مخاطر متأصلة، بعضها أكبر من الآخر. ومع ذلك، تتطلب محدودية الموارد اتخاذ بعض المخاطر من أجل التوفيق بين وضع الولايات المتحدة وأولوياتها الاستراتيجية.
الانتقال إلى تناوبات قصيرة المدى وغير متوقعة لحاملات الطائرات
يجب إعادة النظر في حسابات التكلفة والفوائد لعمليات الانتشار المستمرة لـ “مجموعة حاملات الطائرات الضاربة” في الخليج العربي. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة لإعادة توجيه الاهتمام نحو التهديدات الصينية والروسية، إلّا أن عمليات الانتشار البحرية الأمريكية في منطقة الخليج شهدت ارتفاعاً العام الماضي، حيث تم في بعض الأحيان إرسال مجموعتين من حاملات الطائرات في الوقت نفسه. وجاءت تلك الخطوات كرد مباشر على العدوان الإيراني المتزايد (على سبيل المثال، الهجمات الصاروخية على أهداف أمريكية في العراق)، لكن هناك القليل من الأدلة على أن عمليات الانتشار هذه تردع طهران بالفعل. ومع ذلك، فإنها تضع ضغطاً كبيراً على استعداد البحرية الأمريكية، بينما تخفف أيضاً الضغط عن بكين وموسكو عبر إزالة التواجد العسكري غير المتوقع من مسارح أوروبا والمحيط الهادئ.
ووفقاً لذلك، يجب على البحرية الأمريكية استبدال الانتشار المستمر لحاملات طائراتها بعمليات انتشار أقصر وأقل توقعاً. وهنا تستطيع حاملات الطائرات المتمركزة في المحيط الهادئ وأوروبا الخروج من مناطق العمليات هذه وقضاء بعض الوقت في الخليج بناءً على النموذج الديناميكي لنشر القوات المدرج في “الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني” لعام 2018. ومن المرجح أن تؤدي عدم القدرة على التنبؤ هذه إلى تعقيد عملية صنع القرار في إيران. وفي الوقت نفسه، ستبقى البحرية الأمريكية قادرة على إبقاء مقاتلات سطحية أصغر حجماً في الخليج للحفاظ على وجودها هناك وتوفير الأمن البحري. بالإضافة إلى ذلك، من خلال استمرار الولايات المتحدة في تعزيز روابطها مع الشركاء، بإمكانها مشاركة هذه المسؤوليات البحرية وتقليل وجودها البحري في الخليج.
نقل أصول “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الأمريكية” إلى أوروبا، وتحسين القدرات الإقليمية
من أجل المساهمة في إعادة تركيز القدرات الأمريكية على منافسة القوى العظمى، يجب على البنتاغون تحويل أصول “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع” بعيداً عن الوجود الدائم في منطقة الشرق الأوسط. فالأقمار الصناعية وغيرها من الأدوات الوطنية تتيح بسرعة جمع معلومات جوهرية عن النقاط التي تهمّ الولايات المتحدة في المنطقة، وتستطيع القوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا التعويض عن أي معلومات استخباراتية قد تفوتها، حيث تمكّن إمكانيات “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع” الحالية في أوروبا هذه القوات من التحليق فوق أيٍّ من مناطق الشرق الأوسط وجمع المعلومات منها. إن وضع هذه الأصول بشكل دائم في أوروبا من شأنه أن يقلل أيضاً من التكاليف والبصمة الكبيرة للبنية التحتية الداعمة وعناصر الموظفين الداعمين للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وفي الوقت نفسه، يجب على البنتاغون مساعدة الدول الشريكة على تطوير قدرات مماثلة من أجل تخفيف مخاوفها بشأن هذا التحول وتحسين عملية تبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف. فبعد أن أعلنت إسرائيل والإمارات العربية المتحدة عن اتفاق التطبيع التاريخي بينهما العام الماضي، اقترحتا تعزيز التعاون في المجالين الدفاعي والعسكري. وفي الواقع، تتمتع إسرائيل بالفعل بقدرات متطورة في مجال “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع” ويمكنها العمل مع دول الخليج لتطوير قدرات إقليمية أكثر قوة. وعند اقتران أعمال البحث والتطوير هذه بالأصول الأمريكية الموجودة في أوروبا وأماكن أخرى، سيسمح هذا البحث والتطوير للأصول الإقليمية بالحفاظ على تغطية شبه مستمرة للمناطق المهمة والعمل معاً ضد التهديدات المشتركة.
على سبيل المثال، يمكن لأصول “الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع” الأمريكية المعززة مواجهة أنشطة تهريب الأسلحة الإيرانية بشكل أفضل من خلال كشف الشحنات المتجهة إلى وكلاء إيران واعتراضها. كما يمكنها أيضاً تحسين الإشارات والتحذيرات من الأنشطة الصاروخية الإيرانية قبل انطلاقها، والتي يمكن بدورها أن تساعد هذه الدول على التخفيف من مثل هذه التهديدات داخل حدودها.
وبالنسبة للولايات المتحدة، سيكون هذا الاستثمار مفيداً على جبهتين رئيسيتين، هما تسهيل تقاسم التكاليف/الأعباء، ودعم إنشاء شبكة “القيادة والتحكم المشترك في جميع المجالات” التابعة للقوات الجوية الأمريكية، وهذا أمر ضروري للانتصار في أي معارك مستقبلية متطورة. ومع ذلك، إذا كان لهذا الجهد أن ينجح، فمن الضروري أن تتخذ إدارة بايدن بعض المخاطر المحسوبة في سماحها باستمرار مبيعات أسلحة أمريكية معينة إلى المنطقة أو حتى توسيعها.
نقل المقرات الأمامية إلى الوطن
ربما يتضمن التغيير الأكثر جذرية لتقليل البصمة العسكرية الأمريكية تقليص عدد موظفي المقرات الرئيسية في الشرق الأوسط وإعادة دمجها في الولايات المتحدة خلال العقد المقبل، مع الحفاظ على عدد كافٍ من الأفراد لتلبية الاحتياجات االعملياتية. فالتحسينات الراهنة على مستوى تبادل المعلومات والتكنولوجيا تسمح للمحاربين وعناصر الدعم بمشاهدة الصور التشغيلية لساحة المعركة في وقتها الفعلي تقريباً مهما كان موقعها. ولا تترك هذه القدرة سبباً يُذكر للاحتفاظ بعدد كبير من الموظفين المنتشرين في المراكز الأمامية في قطر أو الكويت أو البحرين – خاصةً عندما يَعتبر المرء أن وجود قوة كبيرة في الخليج معرض دائماً للهجوم الإيراني، وأن التهديدات الوجودية المحتملة للولايات المتحدة تلوح في الأفق في أماكن أخرى.
ولهذا التحول عدة فوائد ممكنة. فالمقرات الرئيسية بوضعها الحالي تتضمن تمركز عشرات الآلاف من القوات وأفراد أسرها في الخليج، مما يعني أن إعادتهم إلى الوطن ستقلل إلى حد كبير التهديد الإيراني على أرواح الأمريكيين وستلغي فائض المهام المنجزة في المقرات الأمامية والخلفية، في حين أن دمج مراكز التحليل والمراقبة من شأنه أن يسمح ببناء قوة أصغر وأكثر فعالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نقل القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية من البحرين يعني أن جميع القيادات الفرعية المركزة على الشرق الأوسط ستصبح ضمن المنطقة الزمنية نفسها – وهذا عامل لا يُستهان به عند محاولة الحفاظ على الكفاءة وإبقاء جميع القوات على اتفاق وتفاهم أثناء العمليات العادية والأزمات المحتملة على حد سواء.
وفي أفضل الأحوال، يفترض أن تتوَّج هذه المقاربة باحتفاظ البنتاغون بالحد الأدنى من عناصر الموظفين الأساسيين في المنطقة، بحيث يعمل هذا الطاقم، بالتنسيق مع الوجود الدبلوماسي الأمريكي، على التواصل مع المنظمات العسكرية والحكومية المحلية لتحقيق هدفين هما الحفاظ على الشراكات الثنائية، وضمان مهمة الإشراف على البنية التحتية العسكرية القائمة للسماح بإعادة الانتشار السريع خلال الأزمات. ومن المؤكد أن هذا التحول قد يُعتبر ضربة كبيرة لشراكات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حتى لو كان هذا التحول تدريجياً. ومع ذلك، فهي الطريقة الممكنة الوحيدة لتخصيص المزيد من الموارد لأولوية الولايات المتحدة المتمثلة في المنافسة بين القوى العظمى. ولطمأنة الشركاء الذين لا يشاركون إدارة بايدن هذه الأولوية، قد يتعين على الإدارة أن تخبرهم – والأهم من ذلك أن تبيّن لهم – أن واشنطن ملتزمة بالحفاظ على قدرات إعادة الانتشار السريع ومساعدتهم على تعزيز قدراتهم الخاصة من خلال مبيعات الأسلحة وغيرها من الوسائل الملموسة بغض النظر عن الخلافات السياسية الداخلية حول مثل هذه الخطوات.
الحد من عمليات النشر المستمر للأصول القتالية، وتكثيف التمارين والمناورات
يجدر بالبنتاغون النظر في إمكانية تحمل مخاطر إضافية من خلال سحب بعض القدرات القتالية الهجومية بعيداً عن عمليات الانتشار الدائمة في الشرق الأوسط واستبدالها بتمارين نشر قتالية متكررة ومتعددة الأطراف. وسيستلزم ذلك بناء برامج شراكة وإجراء استشارات وتدريب ومساعدة، خاصة في العراق ومع «قوات سوريا الديمقراطية» في شمال سوريا.
وبالإضافة إلى مساعدة القوات الأمريكية في الحفاظ على المهارة والإتقان داخل منطقة العمليات وإبقاء المحاربين على استعداد لمواجهة مشاكل اليوم، يمكن لمثل هذه التمارين أن تحرر الوحدات القتالية بما يكفي لتغيير النموذج والاستعداد لمعارك مستقبلية محتملة في أوروبا والمحيط الهادئ – وصقل مفهوم نشر القوة الديناميكي خلال العملية. وبالنسبة للشركاء في الشرق الأوسط، ستوفر التمارين الجديدة تواجداً أمريكياً متكرراً في المستقبل يخدم مصالح متعددة، هي: ردع العدوان، وتعميق قابلية التشغيل البيْني، وزيادة التعاون الإقليمي، وطمأنة الحكومات المحلية، وتعزيز قدرتها على حماية حدودها، وبالتالي تخفيف العبء الأمريكي.
الاستثمار في الدفاع الصاروخي في المنطقة
تواصل إيران توسيع برنامجها للصواريخ الباليستية من حيث العدد والمدى والدقة. كما أن النظام ووكلاءه استخدموا الطائرات المسيرة المسلحة لضرب السعودية والإمارات. ولردع هذه القدرات منخفضة التكلفة نسبياً، يجب على الولايات المتحدة العمل مع الشركاء لتحسين دفاعاتهم ضد الضربات الجوية والصواريخ الباليستية.
إن النهج الحالي، المتمثل بنشر منظومات الصواريخ أرض – جو من نوع “باتريوت” في المواقع الحرجة، لا يعتبر مثالياً. فهذه الصواريخ ليست متوفرة إلا بأعداد محدودة، وكل واحد منها يكلف ما بين مليونين و4 ملايين دولار بحسب نوعها – أكثر بكثير من تكلفة الطائرات بدون طيار والصواريخ الإيرانية. لذلك يجب على الولايات المتحدة إعطاء الأولوية القصوى لأعمال البحث والتطوير والتعاون التي تمكّن دول الخليج من الحصول على منظومة متوفرة بسهولة أكبر وبسعر معقول لمواجهة إيران. وفي كانون الأول/ديسمبر، أشار رئيس منظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية موشيه باتيل إلى أن بلاده ستكون منفتحة على العمل مع الإمارات والبحرين بشأن التعاون في مجال الدفاع الصاروخي. وفي الواقع، مع توسع التطبيع العربي-الإسرائيلي، يجب أن يتوسع هذا التعاون.
الخاتمة
لقد تقلص الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط على مر السنين مع توقف العمليات القتالية الرئيسية. ومع ذلك، نظراً للوقائع الجديدة المحيطة بالتهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة وأولويات إدارة بايدن خارج الشرق الأوسط، أصبح من المناسب إجراء عمليات انسحاب إضافية.
ومثل هذه التحركات ستثير قلق الشركاء وتتطلب مخاطر مدروسة من واشنطن. وستستلزم أيضاً ردوداً ثابتة وحاسمة من الولايات المتحدة على الهجمات الإيرانية خلال المرحلة الانتقالية لإظهار أن تقليص الوجود الأمريكي لا يعني انخفاض الالتزام، كما ستتطلب حملة عمليات إعلامية مدروسة تسلط الضوء على هذه النقطة. ومن خلال هذه الجهود، يمكن للإدارة الأمريكية أن تُطمئن الحلفاء بأنها ستنفّذ شراكاتها على الرغم من قيود الموارد والأولويات المتغيرة – مع حفاظها على القدرة على نقل الموارد بسرعة إلى الشرق الأوسط إذا دعت الحاجة.
اللفتنانت كولونيل كريستين ماكفان
معهد واشنطن