الجزائر – تراهن تركيا على الدبلوماسية الفكرية للتغلغل في المجتمع الجزائري بهدف توجيه الرأي العام المحلي نحو إرساء صداقة تتعدى الدوائر الرسمية إلى الأوساط الشعبية والنخب الثقافية، وهو ما يعكسه تزايد الحضور التركي في مختلف التظاهرات الثقافية والفكرية والفنية.
وهيمنت الكتب والمنشورات المروجة للتاريخ والثقافة العثمانيّيْن على معرض الجزائر الوطني للكتاب، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول ضبط الدوائر الرسمية في أنقرة برنامجا لإحياء ما يشبه “الأيديولوجيا العثمانية” للجزائر، والعمل على دعم شركاء لها في مجال دور النشر والكتابة.
وكانت الحقبة العثمانية في الجزائر التي استمرت من 1515 إلى 1830 حاضرة بقوة في أجنحة المعرض الوطني للكتاب، بشكل يوحي باستعداد ودراسة دقيقة تترصد مختلف المناسبات والتظاهرات الثقافية لتسجيل الحضور التركي.
ويستعد عاملون في المجال الفني والسينمائي بتركيا والجزائر لتصوير مسلسل “بربروس” بالجزائر في إطار شراكة بين الطرفين، في خطوة تستهدف إحياء أمجاد العثمانيين عبر الدراما وتقديمها للرأي العام على أنها رموز تاريخية استثنائية.
وتقدم روايات تاريخية خيرالدين بربروس وبابا عروج كقائدين عسكريين بارزين تكفلا برد العدوان الإسباني على الجزائر عندما استنجد حاكم الجزائر آنذاك بالدولة العثمانية لحماية بلاده من العدوان الأوروبي.
وتدرك تركيا أن المراهنة على التراث الإسلامي العام ليست في صالحها، وأن الاهتمام بالقضايا النظرية في الكتب الإسلامية والتي راجت خلال العقدين الماضيين قد استنفد دوره وأن الرواية التاريخية أكثر جذبا واستقطابا.
وهذه المؤلفات في معرض الجزائر للكتاب موزّعة في عدة دور نشر محلية خاصة مثل “دار الخير الإسلامية” (فرع الجزائر/ مقرها الرئيسي إسطنبول) التي تعرض كتابا لبلال أبوالخير عنوانه “101 من عمالقة آل عثمان: شيوخ الإسلام علماء ومخترعين، السلاطين الأقوياء، قادة الأساطيل البحرية، ولاة ووزراء وأطباء ومفكرون”، وتقدم منشورات “الأصالة للنشر والتوزيع” مؤلف “الدخول العثماني للجزائر ودور الإخوة بربروس (عروج وخيرالدين) 1512 ـ 1543” للكاتب الجزائري محمد دراج، كما تعرض “دار الكتاب العربي” كتابا تحت عنوان “تركيا من الخلافة إلى الحداثة (من أتاتورك إلى أردوغان)” للباحث المصري منصور عبدالحكيم.
وتتيح “دار البشير للنشر والتوزيع” أمام القراء كتابي “تواريخ آل عثمان” للطفي باشا وترجمة محمد عبدالعاطي محمد إلى العربية، و”مذكرات السلطان عبدالحميد الثاني” للكاتب المصري محمد حرب، وفي منشورات “دار المعارف” يكتشف القارئ مؤلفين مترجمين إلى العربية للكاتب ياوز بهادر أوغلو تحت عنوان “السلطان محمد الفاتح” و”السلطان سليم ياوز”.
وتكفلت تركيا بترميم عدة معالم تاريخية عثمانية في الجزائر العاصمة ووهران لعل أبرزها جامع “كتشاوة”، بهدف استقطاب المزيد من النخب المحلية لتأييد محتوى أفكارها وتصوراتها الإستراتيجية، في إطار توجهها نحو المزيد من التغلغل في أفريقيا انطلاقا من الجزائر.
وتولي الأذرع الإعلامية للرئاسة التركية الشأن الجزائري أهميةً، حيث تركز في تغطياتها على شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والعمرانية، عكس الوكالات الأجنبية الأخرى التي تهتم في الغالب بالقضايا السياسية.
غير أن العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين يشوبها نوع من الحذر الذي ظهر أول مرة عندما رفضت الجزائر أن يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتدشين جامع “كتشاوة” عام 2018 وتم السماح لزوجته أمينة أردوغان بزيارة الموقع في حي القصبة العثمانية بالعاصمة الجزائر.
وكشف الرفض الجزائري حينئذ أن التغلغل التركي لا يحظى بالإجماع داخل مركز القرار الجزائري. ويبدو أن الزيارات المتتالية للمسؤولين الأتراك إلى الجزائر لم تنجح في تبديد المخاوف الجزائرية التي تعمقت بعد التدخل العسكري التركي في ليبيا.
وفي أغسطس الماضي كشف موقع “أفريكا أنتليجنس” عن لوبي يتكون من رجال أعمال أتراك وجزائريين في قصر “المرادية” الرئاسي يوظفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقيق مصالح أنقرة في الجزائر.
ووصف التقرير أعضاء اللوبي بأنهم “كتيبة صغيرة من المليارديرات الأتراك والجزائريين يمهدون الطريق أمام أردوغان لتنفيذ مخططاته في الجزائر”.
وإذ يحظى التقارب الجزائري التركي بدعم القوى الإخوانية التي تعتبره تكريسا للثوابت والقيم التاريخية والقومية والدينية بين البلدين والشعبين، إلا أن قطاعا عريضا من النخب الفكرية والسياسية الجزائرية لا يخفي اعتراضه على التمدد التركي.
وتعتبر منشورات هؤلاء وكتاباتهم الحقبة العثمانية “استعمارا” للجزائر وأن “الحكام العثمانيين هم من سلم الجزائر لفرنسا عام 1830 دون أي مقاومة منهم، مقابل الحفاظ على مصالحهم وعائلاتهم”، فضلا عن تصويت تركيا الأتاتوركية لصالح الفرنسيين في الأمم المتحدة، لمّا عرض الملف الجزائري على لجنة تقرير المصير.
العرب