لسنوات، منحت واشنطن الأولوية لمكافحة الإرهاب ولم تتحول سوى الآن إلى منافسة القوى العظمى، لكن موسكو لم تغفل عن السياسة الجغرافية، وينبغي النظر إلى أفعالها في المنطقة من خلال تلك العدسة.
قد يبدو التحدي الروسي في الشرق الأوسط محدوداً. ونظراً للضغط القوي في الداخل لإنهاء “الحروب الأبدية” وسحب القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، قد يكون من غير الواقعي توقع أن يشكل هذا التحدي أولوية قصوى. وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الأمريكي توني بلينكين الأسبوع الماضي في أول خطاب رئيسي له في هذا المنصب: “لقد تلاشت ببساطة الفروق بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية أكثر من أي وقت آخر في حياتي المهنية – وربما في حياتي كلها”.
في هذا السياق، يتعيّن على إدارة بايدن النظر إلى الصورة الكبرى عندما يتعلق الأمر بروسيا في الشرق الأوسط – أي إلى أهداف موسكو الكبرى وكيفية توافقها مع أنشطتها في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن علاقة روسيا مع الصين، تلك الدولة التي تشكل، وفقاً لبلينكن، “أكبر اختبار جيوسياسي للقرن الواحد والعشرين” بالنسبة الولايات المتحدة.
ولطالما كان الشرق الأوسط جزءاً من المنطقة الجنوبية الضعيفة لروسيا، وهي منطقة سعت الدولة الروسية إلى تأمينها في الوقت الذي دفعت فيه إلى لعب دور رئيسي في السياسة الأوروبية واكتساب اعترافٍ بمكانتها كقوة عظمى. ولا تقتصر أسباب أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للكرملين على مصلحة هذا الأخير، ولكن لأن السيطرة في تلك المنطقة تمنح أيضاً المزيد من الفرص لروسيا لتقويض الغرب على جبهات أخرى. فاكتساب نفوذ أكبر في الشرق الأوسط سيجعل الكرملين أقرب إلى تحقيق أولى أولوياته، وهي إضعاف النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ فانتصار روسيا يتطلب خسارة الولايات المتحدة.
وتشكل سوريا جزء أساسي في هذا اللغز الأكبر، ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى موقعها الاستراتيجي. فالبحث عن موانئ المياه الدافئة، بما فيها موانئ شرق البحر الأبيض المتوسط، بقي أولوية ثابتة لدى الحكّام الروس منذ عهد بطرس الأكبر على أقل تقدير. وليس فلاديمير بوتين مختلفاً من هذه الناحية، وقد سمح له تدخله في سوريا بالنجاح حيث فشل أسلافه القيصريون والسوفييت – أي إقامة وجود عسكري دائم يمكنه من خلاله إبراز قوته في اتجاهات متعددة. ولا تزال سوريا المسرح الرئيسي لمصالح الكرملين. وربما أكثر ما يوضح ذلك هو النصب التذكاري لقديس الجيش الروسي، الأمير ألكسندر نيفسكي، الذي تم كشف الستار عنه مؤخراً في قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا. ويجسّد وسام ألكسندر نيفسكي الدفاع عن أرض الأجداد.
وإذا تُركت روسيا تتصرف بدون عراقيل في الشرق الأوسط، فسوف تواصل تقاربها العميق بالفعل مع إيران (ووكلائها) وستكون لها في النهاية الكلمة الأخيرة بشأن مستقبل سوريا، مما سيؤدي إلى ظهور رابطة مؤلفة من روسيا وإيران والأسد. من هنا، ينبغي على إدارة بايدن التعامل مع المنطقة من هذا المنظور الأوسع، علماً بأن ذلك لن يجدي نفعاً إلا في نطاق الهدف الحالي المقتصر على منع عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» من تهديد المصالح الأمريكية – حيث لم يُظهر الأسد ولا بوتين رغبة حقيقية أو قدرة على محاربة التنظيم بشكل ثابت. وستساعد هذه الرؤية الأوسع أيضاً على فهم السبب الذي يدفع موسكو إلى إضافة طبقة أخرى من التعقيدات بدلاً من التعاون بشأن أولوية رئيسية لدى بايدن في المنطقة – وهي العودة إلى الاتفاق الإيراني.
وقد يؤدي التقارب بين روسيا وإيران إلى منح روسيا، بمرور الوقت، قدرة أكبر على الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في الخليج العربي، الذي هو أحد الممرات المائية الأكثر استراتيجية في العالم – وتحقيق حلم آخر بعيد المنال من أحلام بطرس الأكبر الذي كانت رؤيته للتوسع الروسي تمتد إلى حدود بعيدة تصل إلى المحيط الهندي. وسيؤدي أي خط مفتوح لروسيا إلى الخليج العربي إلى إضعاف النفوذ الأمريكي إلى حد كبير. وبالطبع يفخر الإيرانيون باستقلالهم، ويحظر الدستور الإيراني منح حقوق إقامة قواعد دائمة لدول أخرى. لكن الحكومة الإيرانية موالية للكرملين أكثر من شعبها. وفي آب/أغسطس 2016، وفقاً لبعض التقارير، استخدمت القاذفات الروسية قاعدة “شهيد نوجه” الجوية بالقرب من مدينة همدان الإيرانية لقصف أهداف تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا – وأثارت هذه العملية غضباً داخلياً في إيران، ولكنها أغضبت طهران في النهاية ليس بسبب استخدام موسكو للقاعدة بل لأنها جاهرت علناً بذلك. وفي أواخر عام 2019، خلال المناورات البحرية المشتركة الأولى بين روسيا وإيران والصين، أفادت بعض التقارير أن سفينة حربية روسية وصلت إلى ميناء تشابهار في جنوب إيران. وأفادت تقارير أخرى أكثر حداثة أن طهران عرضت على موسكو استخدام ثلاث قواعد – هي تشابهار وبندر عباس وبندر بوشهر. وفي حين أن الكثير لا يزال غير واضح بشأن هذا العرض الذي تناقلته التقارير، فمن المؤكد أنه يثير مخاوف [بشأن ما قد تتطور به الإمور].
كيف يستطيع بايدن التصدي
لا يحتاج بايدن إلى إرسال وحدة عسكرية كبيرة إلى سوريا، ولكن بإمكانه فعل المزيد لدعم «قوات سوريا الديمقراطية» في شرق سوريا من خلال بصمة عسكرية خفيفة وجهود دبلوماسية إضافية. وسيساهم هذا الاستثمار القليل التكلفة في عرقلة الجهود الروسية في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لفريق بايدن أيضاً مواصلة الضغط على الحلفاء العرب لعدم الاعتراف بالأسد، كما فعل سلفه.
ولا يُخفى أن العقوبات مهمة وتسببت بالألم، لكنها لم تنجح لوحدها في إجبار بوتين (أو الأسد) على تغيير سلوكهما بشكل جذري. لذلك لا بد من الاستمرار بالتهديد بشكل معقول ومتواصل من خلال استخدام القوة ضد وكلاء إيران وروسيا. ولم تؤد ضربات ترامب المحدودة ضد الأسد بعد استخدام نظامه للأسلحة الكيماوية، ولا اشتباك الولايات المتحدة مع الشركات العسكرية الخاصة الروسية، إلى حرب شاملة مع روسيا.
وفيما يتخطى النطاق السوري، يجب على الولايات المتحدة أن تبقى منخرطة في المنطقة ضمن إطار المنافسة الاستراتيجية الكبرى بين القوى العظمى وليس كوسيلة الهاء عنها. وفي حين لدى الولايات المتحدة مشكلة في السردية في الشرق الأوسط، إلّا أن روسيا تقدّم رؤية واضحة وغير اعتذارية للمنطقة في ظل تردد الغرب. فضلاً عن ذلك، تمارس روسيا القوة الناعمة في الشرق الأوسط ربما بفعالية أكبر مما كانت تستخدمها في مجال ما بعد الاتحاد السوفيتي. بإمكان الولايات المتحدة أن تفعل المزيد لمواجهة موسكو بمجرد تعزيز تواجدها. وليس من الضروري أن تكون هذه الجهود جوهرية أو مكلفة، لكنها ستؤتي ثمارها على المدى الطويل.
وإذا تنامت مكانة روسيا في الشرق الأوسط، فلن تكون مهتمة بالمساعدة على مواجهة الصين – بل على العكس من ذلك فقد تساندها فقط. لقد بدأ التقارب الروسي الصيني منذ حوالي ثلاثين عاماً، وهو أكثر بكثير من مجرد تحول تكتيكي قصير الأمد. وكما كتب المحلل الروسي فلاديمير فرولوف، “ترى النخبة الحاكمة في روسيا أن التقارب مع أوروبا يشكل تهديداً أكبر لقدرتها على الاحتفاظ بالسلطة من أي تحالف ضمني وغير متكافئ مع الصين”. وقد مالت الدولتان إلى العمل جنباً إلى جنب في الشرق الأوسط – والعمل سوياً مع إيران. كما أن موسكو أكثر قلقاً من تجاوزات الصين على حدودها الشرقية من توسعها في المحيط الهادئ الذي يقلق الولايات المتحدة. وإذا كانت الحدود الجنوبية والشرقية لروسيا مستقرة بشكل عام، فلن يؤدي ذلك سوى إلى إتاحة إمكانية أكبر للانتقال إلى أوروبا، حيث لا تزال روسيا قوة انتقامية [تسعى إلى تحقيق ما يدور في خلدها].
وفي حين منحت الولايات المتحدة الأولوية لمكافحة الإرهاب على مدى العشرين عاماً الماضية، ولم تنتقل سوى الآن إلى مضمار المنافسة بين القوى العظمى، إلّا أن موسكو لم تغفل مطلقاً عن السياسة الجغرافية، التي تعتبرها مسألة دائمة. وسوف ترسم روسيا وإيران والصين الشرق الأوسط وفقاً لقيمها ومصالحها، والتي تتعارض مع القيم والمصالح الغربية وستضر بالولايات المتحدة في مناطق أخرى. من هذا المنطلق، لا يفترض أن تكون مواجهة التحدي الروسي في الشرق الأوسط مسألة رئيسية ومحورية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل جزءاً من هذه الرؤية الجغرافية الاستراتيجية الأوسع نطاقاً.
آنا بورشيفسكايا
معهد واشنطن