بحلول عام 2020، كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران قد انخرطت في حملة من الهجمات بالصواريخ والقذائف التي استهدفت عناصر أمريكيين. إن انسحاب الولايات المتحدة من العراق سيقضي على جهود كبح تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتقويض الثقة في بغداد، وتفاقم الأزمة الاقتصادية في العراق، وتسليم البلاد بالكامل إلى طهران.
عندما كنتُ أشغل منصب “مساعد وزير وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى” في أوائل عام 2020، سألني عدد من المحللين عما أراه من “بجعات سوداء” في المنطقة – أي الأحداث التي تبدو غير مرجحة ولكنها قادرة على ترك تبعات فائقة الأهمية. والفكرة التي برزت على الفور إلى ذهني هي إمكانية – احتمال ضئيل آنذاك – أن ينجح مصطفى الكاظمي، وهو مواطن بريطاني مزدوج الجنسية وذو توجه غربي، في شق طريقه وتجاوز معارضة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ليصبح رئيساً للوزراء في العراق. وشعرت حينذاك أن هذه الإمكانية قادرة على تغيير قواعد اللعبة في العراق والمنطقة.
وخلال عملي في وزارة الخارجية الأمريكية، زرت العراق أكثر من أيٍّ دولة أخرى من بين الدول الثماني عشرة في المنطقة. وفي ما يقرب من اثنتي عشرة رحلة، التقيت بقادة البلاد في محاولة لتشجيع بغداد على استلام زمام المبادرة والقيام بدورها لترسيخ السيادة العراقية، أو على الأقل، الوفاء بالتزاماتها الدولية بموجب اتفاقية فيينا لحماية الدبلوماسيين. وبحلول عام 2020، كانت الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، انطلاقاً من عزمها على إخراج القوات العسكرية والعناصر الدبلوماسية الأمريكية من البلاد، قد انخرطت في حملة من الهجمات بالصواريخ والقذائف التي استهدفت عناصر أمريكيين، مهددةً بذلك استدامة الوجود الأمريكي في العراق.
لكن محادثاتي مع رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي، الذي شغل منصبه بين عامَ 2018 و2020، كانت عقيمة. وكلما تم الضغط على عبد المهدي لاتخاذ الخطوات اللازمة لحماية أرواح الأمريكيين، اعتاد المراوغة والتلاعب بالكلمات، حيث كان يردد على مسمعي أكثر من مرة قولاً مأثوراً هو المفضل لديه: “إيران جارتنا، وأنتم [أي الولايات المتحدة] أصدقاؤنا”.
ومع ازدياد الهجمات على العناصر الأمريكيين والمصالح الأمريكية – التي بلغت أوجها في كانون الثاني/يناير 2020 بـ الاقتحام المدبّر لسفارتنا في بغداد، ومن ثم مقتل قائد «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني قاسم سليماني، والتصويت غير الملزم في مجلس النواب على قرار طرد القوات الأمريكية من الأراضي العراقية – تدهورت العلاقة مع عبد المهدي.
ومع انتخاب رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء في أيار/مايو 2020، ظهرت بوادر تبشر بمستقبل أفضل. فالكاظمي معروف للولايات المتحدة، وهو عراقي وطني قدّر فوائد علاقة العمل الوثيقة مع واشنطن وأبدى رغبة حقيقية في السيادة. لكن الكاظمي واجه تحديات مماثلة لتلك التي واجهها عبد المهدي.
وبعد شهر واحد فقط من استلامه منصبه، اتخذ الكاظمي خطوة إيجابية غير مسبوقة باعتقال العناصر التابعين لميليشيا «كتائب حزب الله» المدعومة من إيران، المسؤولين عن هجوم صاروخي استهدف السفارة الأمريكية في بغداد. وكما كان متوقعاً، احتشد رجال المليشيات المسلحة خلال ساعات وحاصروا قصر الكاظمي في المنطقة الخضراء ومكاتب “جهاز مكافحة الإرهاب”، مطالبين بالإفراج عن المعتقلين.
وفي رأيي، ربما يكون الكاظمي أفضل رئيس وزراء عراقي منذ انقلاب عام 1958 الذي أوصل البعثيين في النهاية إلى السلطة. فهو رجل شجاع ووطني أثبت استعداده لاتخاذ قرارات صعبة لمصلحة العراق. وبخلاف سلفه، يعي الكاظمي أن عناصر الميليشيات المدعومة من إيران والبالغ عددهم100,000 عنصر، فضلاً عن التدخلات السياسية والفساد الذي تشجعه إيران، يدمرون بلاده.
وأمام التهديد الحقيقي الآتي من إيران، لا تتوفر أمام الكاظمي سوى خيارات محدودة، ذلك أن “الجارة” تميل إلى قتل خصومها السياسيين. وعلى الرغم من التهديدات، واصل الكاظمي اعتقال عناصر الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران ممن يشتبه بضلوعهم في استهداف الأمريكيين. ولكن ثمة حدود لما يستطيع فعله. وفي نهاية المطاف، حتى في ظل رئاسة الكاظمي للحكومة، لا تستطيع بغداد الوفاء بالتزامها بحماية الأمريكيين، ومن غير المرجح أن تكون يوماً في وضع يمكنها من القيام بذلك، طالما أن وكلاء إيران الإرهابيين يسيطرون على الدولة.
وعلى الرغم من هذه التحديات، يبقى الوجود الأمريكي في العراق مصلحة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة. فالجيش الأمريكي انتشر في العراق مع تحالف كبير من الدول بناءً على دعوة الحكومة العراقية لهزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» ومنع عودة ظهوره. وفي غياب القدرات الأمريكية – لا سيما قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المسلحة أو الطائرات المسيرة – ستبوء المهمة بالفشل. وفي الوقت نفسه، من شأن الانسحاب الأمريكي أن يقلل من القدرات العسكرية العراقية، ويقوض الثقة في الدولة، ويؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة أساساً. ولعل الأهم من ذلك، من شأن الرحيل الأمريكي أن يسلّم بغداد تماماً إلى طهران، ويقضي على كل الآمال في عراق ذي سيادة، ويزيد من جرأة طموحات الهيمنة الإيرانية في المنطقة.
ومنذ تنصيب بايدن رئيساً للولايات المتحدة، تصاعدت الهجمات التي تستهدف الوجود الأمريكي وأصبحت أكثر فتكاً. وجاءت الضربات الجوية الانتقامية ضد «كتائب حزب الله» في سوريا في 25 شباط/فبراير بسبب مقتل اثنين من المتعاقدين العسكريين الأمريكيين، بمثابة تصريح لا لبس فيه بأن واشنطن لن تدع هذا العدوان يمر دون رد. ومع هذا، لا يخطئنّ أحد الظن بأن ذلك سيردع المزيد من الهجمات. وبالفعل، في الثالث من آذار/مارس – أي بعد أقل من أسبوع على القصف الأمريكي لسوريا – تم إطلاق عشرة صواريخ على القوات الأمريكية في قاعدة “عين الأسد”. والواقع أن استهداف هذه الميليشيات وحده لن يردع الهجمات المستقبلية لأن هذه الجماعات تتلقى تدريبها وتجهيزاتها وتمويلها وتوجيهها إلى حدّ ما من طهران. وإيران مستعدة لمحاربة الولايات المتحدة حتى آخر رمق شيعي عراقي.
وخلال الأشهر الأخيرة من إدارة ترامب، حصلت واشنطن لنفسها على فترة راحة من الهجمات الفتاكة في العراق من خلال تهديدها بتحميل إيران المسؤولية المباشرة عن أعمال وكلائها عبر استهداف إيران عسكرياً بشكل مباشر. وكان الهجوم القاتل على القاعدة الأمريكية في أربيل في شباط/فبراير هو الأول من نوعه منذ 11 آذار/مارس 2020، وينذر بالعودة إلى فترة خطيرة. لذلك، وفي سبيل كسر هذه الحلقة ومنع سقوط المزيد من القتلى في صفوف الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين، يتعين على إدارة بايدن إعادة إرساء قوة ردع موثوق بها. ومن أجل حماية العناصر الأمريكيين والحفاظ على الوجود الأمريكي في العراق، على واشنطن الذهاب إلى أبعد من الوكلاء والبدء بمحاسبة طهران.
ديفيد شينكر
معهد واشنطن