انعزالية المسلمين في الغرب هي التي أحاطتهم بسور العنصرية فاختاروا العيش في غيتوهات مغلقة.

انعزالية المسلمين في الغرب هي التي أحاطتهم بسور العنصرية فاختاروا العيش في غيتوهات مغلقة.


العنصرية جزء من طبيعة الغرب. ولكن الانتصار عليها ممكن. يتطلب الأمرُ فهما، أولا، ثم عملا على أساس ذلك الفهم.

عندما يُحذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن التمييز والكراهية ضد المسلمين “ارتفعا إلى مستويات وبائية”، فذلك يعني أن العنصرية باتت في أضعف حالاتها. فالخوف الذي يتحول إلى هستيريا معادية للمسلمين، يكاد يقول إنه تجرّد من أسلحته، وبات عاجزا عن إيجاد التبرير المناسب للموقف الثقافي أو الاجتماعي الذي ينطلق منه.

ولكن، لاحظ، أن المسلمين يفعلون الشيء نفسه، في دلالةٍ على أنهم اختاروا الهزيمة حيال المهزوم. وفي ذلك ما يكفي من الأدلة على حجم التعاسة الذي نحن فيه.

العنصرية سلوك دفاعي قبل كل شيء. تبدو ترفعا وتعاليا وشعورا بالتفوق، إلا أنها تخفي ضعفا من وراء ذلك كله.

أحد أهم مصادر الضعف هو أنها تأخذ بالقوة ما لا تستحقه بالنقاش. التصوّر المتعلق بتفوق “العنصر الأبيض” لا يستقيم مع أي مقومات علمية، ولا ثقافية ولا أخلاقية، ولا تاريخية أيضا. هذا العنصر الأبيض المتفوق، لم يستخدم الصابون إلا منذ بضع مئات من السنين. قبل ذلك، ظل وسخا على طول الخط.

وهو همجي أيضا. الجزء الأكبر من تاريخه، قائم على مسالك وحشية حيال النفس والآخر، وظل الكسب المادي، باعتباره مصدر القوة، هو الدافع الرئيسي من وراء تلك الهمجية.

أقصى مسافة يمكن بلوغها في فكرة الغرب عن الطبيعة والوجود، وتاليا عن نفسه، لا تذهب أبعد من سقراط وأفلاطون وأرسطو. وهي مسافة قصيرة من الزمن. ولكنها أقصر بكثير من حيث القدرة على مقاومة الانشغالات المادية التي صنعت القوة والتفوق العلمي، وأهملت المعنى الأخلاقي من الوجود. وحيثما كان يمكن للمسيحية أن توفر بعض السبيل، إلا أنها هُزمت مرتين. الأولى عندما أصبحت سلطة قائمة على الدجل والتزوير. والثانية، عندما فشلت في بناء المعايير الإنسانية والأخلاقية للمسيحية نفسها. وهي معايير ترتبط، بالأساس، بأسئلة الفلسفة الأولى؛ أسئلة التأمل والبحث عن تفسير ومعنى للوجود.

الهزيمة إذن، كانت ولا تزال موجودة في لبّ التكوين الحضاري للغرب. وكلما زاد قوة وتفوقا ماديا، اتسعت الهوة مع تلك المعايير.

الآن يبلغ عود القوة الحضارية للغرب أشده. ولكنه عودٌ منخورٌ بالخوف؛ عودٌ بات يدرك أن الهوة الأخلاقية التي تفصل بين الثقافة وبين الاقتصاد اتسعت إلى حدود الانهيار التام.

الدولة حاولت أن تبني جسورا لردم هذه الهوة. هذا هو مصدر القوانين التي سعت إلى تجريم العنصرية والكراهية وانعدام المساواة والتمييز على أساس الجنس أو العرق أو اللون.

ولكن لا أحد يجب أن ينسى حقيقة أن ذلك ترافق مع توسع الاقتصاد الرأسمالي نفسه، الذي “اكتشف” حاجته إلى أسواق خارجية، ليرى أنها شديدة التلوّن والاختلاف وتصدر عن مفاهيم اجتماعية وأخلاقية وأديان، صار من الضروري استيعابها وقبولها لكي يمكن التعامل معها.

القوانين، كسلطة زجر، لا تفضي إلى تغيير ثقافي بنفس سرعة التطبيق. والأفكار العنصرية القائمة على الخوف من الآخر، تزداد تفشيا في قاع المجتمع، كلما ارتفعت سلطة الزجر. ولهذا السبب، فإن العنصرية متفشية أكثر بين أولئك الفقراء أنفسهم الذين عجزت الفلسفة عن أن تصل إليهم بأجوبتها. الآخر عدو، لأنه “يأكل غدائي”، بحسب التعبير السائد في الولايات المتحدة، والذي يفلت من حين إلى آخر من لسان الرئيس جو بايدن عندما يتحدث عن الصين. العنصرية موجودة في دفين الفكرة عن النفس؛ في الخوف من تقدم الآخر، كما في الطمع. ولكنها عنصرية لم تطلها القوانين عندما انحسرت إلى القول العابر، والنكتة، والسلوك العمومي، إلا أنها تزداد فشلا وتنحدر إلى الهامش الاجتماعي؛ هامش اليمين الذي يراهن على الجهل والخوف ممن “يأكل غدائي”.

هذا كله جانب واحد من المشكلة. نحن الجانب الآخر. وبمقدار ما يتعلق الأمر بـ”الإسلاموفوبيا”، فنحن نفعل الأسوأ. ولكن ليس لأننا لم نقدّم نموذجا حضاريا، أو فشلنا في إثبات صلاحيته، وقدرته على صنع التقدم، بل لأننا اخترنا الهزيمة أمام المهزوم.

المسلمون في أوطانهم فشلوا إلى حد كبير في بناء نموذج قادر على الصمود أمام التحديات السياسية والاقتصادية والأخلاقية المعاصرة. وهم ينشغلون بقتل بعضهم البعض في العديد من البلدان بأسوأ مما يفعل الهمّج. وكلما زادت أوضاعهم الحياتية تدهورا زادوا تطرفا، ولاذوا أكثر بالبحث عن جواب ديني بعيد. إنما من دون يدركوا الحاجة إلى تجسير معانيه وأدواته، لكي تجعله جوابا غير مفارق.

الفشل الحضاري هو الذي صنع موجات الهجرة إلى الغرب، ليقع المهاجرون بين فكي رحى.

الانكفاء على النفس كان خيارا لمجموعات كبيرة من المهاجرين، ليس بسبب الخوف، وإنما بسبب مشاعر تفوق أخرى، فارغة ماديا، وتتخذ من صواب الدين ستارا لتعويض عقدة النقص.

الإسلاموفوبيا لم تندلع فقط بسبب أعمال الإرهاب التي نفذها مسلمون، وليس فقط بسبب الوحشية التي حرص تنظيم داعش على تقديمها كصورة للإسلام، وإنما لأن المهاجرين أنفسهم قدموا لها التبرير بعجزهم عن الانخراط في المجتمع الذي هربوا من فشلهم إليه.

الغالبية العظمى من مجتمعات المهاجرين تعيش في غيتوهات مغلقة. وهي غيتوهات خوف بالدرجة الأولى.

انعزالية المسلمين في الغرب هي التي أحاطتهم بسور العنصرية. وعجزهم عن تجسير الجواب الديني البعيد، مع القيم الإنسانية المعاصرة، جعلهم عاجزين حتى عن الاستفادة من سلطة القانون.

بدعوته إلى “الضغط من أجل سياسات تحترم حقوق الإنسان والهوية الإنسانية الدينية والثقافية”، لدى إحيائه أول يوم عالمي لمكافحة رهاب الإسلاموفوبيا، استشهد غوتيريش بالآية القرآنية الكريمة “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”.

فهل لاحظت المفارقة؟

المسلمون أنفسهم، بعزلتهم، هم أول من نسي هذه الآية.

في ثمانيات القرن الماضي، انتفض حي بريكستون في لندن، الذي يغلب على سكانه السود، لسببٍ هو بالضبط عكسُ السبب الذي يجعل المسلمين لا ينتفضون.

سود بريكستون واجهوا ما تفرضه عليهم العنصرية من عزلة. أرادوا أن ينخرطوا في المجتمع، وأن يحظوا بنصيب عادل من الوظائف، وأن تعامل الشركات مدينتهم كما تعامل أي مدينة أخرى، فتفتح لها فروعا، وتعيّن موظفين من أبنائها.

نادرا ما تجد أسود بريطانيا لا يجيد اللغة الإنجليزية. وبالرغم من أن أديانهم مختلفة، وثقافتهم مختلفة، إلا أنهم غالبا ما ينظرون إلى أنفسهم كجزء من المجتمع ويرفضون أن يُعاملوا بغير هذا الأساس.

المسلمون يفعلون العكس. إنهم ينفصلون. يلوذون بالفرار من الشراكة، ولا يريدون أن يتعارفوا مع أحد. وهم وحدهم أهل التقوى. وبحكم أنهم يملكون القدرة على مقاضاة الناس، فقد قاموا بتكفير المجتمع برمّته. والأب الذي كان يخاف على بناته، أنتج ولدا مستعدا للقيام بأعمال تفجير ضد هذا المجتمع.

هل توجد هزيمة أبلغ وطأة من هذه؟

لي ابنة واحدة. عندما دخلت مدرستها الأولى في بلدة رومفورد، شمال شرق لندن، كان القول الأول لي معها: أن تفوقي. إذا كانت هناك وظيفة يتقدم لها إنجليزي وأنت، وكنتما على المستوى العلمي نفسه، فإن الوظيفة ستذهب إليه. شرط الفوز الوحيد هو التفوق. ومنذ أن تخرجت، لم تعجز عن وظيفة، حتى أصبحت ذات عام، المدير التنفيذي لموسوعة غينيس (وكانت المسلمة والعربية الأولى التي تحظى بهذا المنصب).

وثمة مسلمون ممن ارتقوا مناصب وزارية في الحكومة البريطانية، وكانوا نوابا ولوردات.

لم يصنعوا ذلك بالعزلة ولا بالخوف. وتقدموا بأن بددوا الخوف من حولهم، وجرّدوه من ذرائعه.

الإسلاموفوبيا، نوعان مع الأسف. واحد تصنعه العنصرية ضد المسلمين. والآخر تصنعه عنصرية المسلمين بأنفسهم. الأول تعبير عن خوف بلا مبرّر. والثاني، يوفر له التبرير.

العرب