تعيش منطقة الشرق الأوسط تطورات أمنية وجيوسياسية كبرى نظرا لكونها وجهة لأغلب القوى العالمية وتلك التي تحاول بسط المزيد من نفوذها هناك، ما يدفع دول الخليج العربي المسكونة بهاجس أمني مشترك بسبب تزايد النفوذ الإيراني، للتفكير في استراتيجيات مستحدثة تمكنها من لعب دور فعّال على مستوى الأمن الإقليمي.
واشنطن – تطرح التطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع وصول إدارة أميركية جديدة لا تزال غير قادرة على إعادة إيران إلى الاتفاق النووي للعام 2015 والسيطرة على نفوذها في المنطقة، تحديات كبرى أمام دول الخليج للعب دور ريادي في الأمن الإقليمي وتطوير الإطار الأمني بما يتماشى ومتطلبات المرحلة، ومواجهة تحركات طهران الرامية لإثارة النزاعات وضرب استقرار المنطقة.
ويحاول الكثير من الباحثين فهم الاستراتيجية المستقبلية التي يمكنها أن تجعل دول الخليج العربي لاعبا أساسيا في الأمن الإقليمي وتهدئة التوترات في المنطقة. وفي مقالة بحثية بمؤسسة “عرب دايجست” الاستشارية تناول الباحثان سانام فاكيل ونيل كويليام، مسؤوليات دول مجلس التعاون الخليجي التي يجب أن تلعب دورًا في تهدئة التوترات في المنطقة ودعم الجهود المبذولة لتطوير إطار أمني للمنطقة.
واستنادًا إلى النتائج المستخلصة من 210 مقابلة سرية مع خبراء وصناع سياسات حاليين وسابقين من 15 دولة، يستخلص الباحثان أنه من الواضح أنه لا يمكن الوصول إلى النقطة التي يمكن عندها تحديد عملية الأمن الإقليمي إلا من خلال المناقشة وتخفيف التصعيد وحل النزاعات التي تنطوي على جميع الجهات الفاعلة الإقليمية، بدعم من شركاء خارجيين مهمين.
ومن هذا المنطلق، يحدد الباحثان خطوطا عريضة للمسارات التي يمكن أن تؤدي إلى نقطة انطلاق بحيث يمكن أن يصبح السعي لتحقيق الأمن الإقليمي قابلاً للتطبيق.
عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي
سانام فاكيل: على دول الخليج وضع خيارات سياسية لا تقوض مطالبها
وبعد هذه الخطوة، يفيد الباحثان بأن هناك حاجة إلى عملية أوسع لخطة العمل الشاملة المشتركة لإطالة الصفقة وتعزيزها. حيث يجب إدارة التحديات الإقليمية المتعلقة بتدخلات إيران خارج حدودها من خلال عمل مسارات تفاوضية متعددة الأطراف.
إلى جانب ذلك، توجد ثلاثة مسارات لحل الأزمات – الحروب في اليمن وسوريا، وبناء قدر أكبر من التضامن بين دول مجلس التعاون الخليجي، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني – وإيجاد تدابير بناء ثقة ذات مغزى.
وسيتطلب الوصول إلى إطار أمني إقليمي استثمارًا دوليًا وإقليميًا في إدارة الصراع وبناء الثقة. ويعد معالجة دور التدخل الإيراني في النزاعات والدول الواقعة خارج حدودها هو مفتاح هذه العملية.
لكن إذا كان هناك أي احتمال للتحسن في الديناميكيات الإقليمية، فلا تحتاج إيران فقط إلى الاعتراف بالتأثير العكسي لدعمها المالي والعسكري للجماعات التي تعمل بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة، بل يتعين على الدول العربية أيضًا الاعتراف بأنها تتحمل مسؤولية قيادة النزاع. وعلى هذا النحو، توفر الحلول الإقليمية فرصة أكبر للنجاح.
وهناك حاجة أيضاً إلى مشاركة دول الخليج العربية في المنطقة ليس فقط لتحقيق التوازن ضد الوجود الإيراني، ولكن أيضًا لاتخاذ استراتيجية أكثر استباقية تشمل المنطقة بأسرها لا تستند فقط إلى الاحتواء.
ومع ذلك، اعتبر 41 في المئة من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم الانقسامات بين دول مجلس التعاون الخليجي تحديًا أمنيًا إقليميًا كبيرًا، ليس فقط لأن هذه الانقسامات تحد من تنفيذ سياسة إيران المنشقة، ولكن أيضًا لأن العلاقات السياسية بين الدوحة وأبوظبي قد أوجدت تنافسا في حد ذاته. ومع ذلك، فإن توقيع اتفاقية العلا في يناير 2021 قد قطع شوطًا في معالجة هذا الأمر.
قام البحث على المقابلات لفحص كيفية توصل الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية إلى إطار عمل أمني إقليمي للشرق الأوسط.
واعتبر الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في التجربة البحثية أن تعميق المشاركة أمرًا أساسيًا، حيث رأى العديد منهم أن أعضاء مجلس التعاون الخليجي قد تنصلوا من قضايا مثل لبنان وسوريا والعراق، ولم يسحبوا المساعدة المالية فحسب، بل حدوا أيضًا من مشاركتهم السياسية.
وبينما تعمل دول مجلس التعاون الخليجي بالفعل على التدخل اقتصاديًا في العراق، تبدو استراتيجيتها متوقفة وبطيئة. إذ جادل محلل لبناني بأن الدعم الخليجي لا يجب أن يكون متمثلاً في المال فقط. ومن أجل الحد من نفوذ إيران، يجب أن تأتي الحلول من داخل الدول المستهدفة، وعلى هذا النحو، تحتاج دول مجلس التعاون الخليجي إلى تطوير فهم أكثر دقة لجيرانها إذا أرادت تعميق مشاركتها وتقليص مشاركة طهران.
وسيكون التعاون مع شبكة أوسع من الجهات الفاعلة المحلية واللاعبين السياسيين أكثر فاعلية من النمط الحالي المتمثل في التحدث فقط إلى المجموعات ذات التفكير المماثل.
نيل كويليام: دول الخليج في حاجة لاتخاذ استراتيجية أكثر استباقية للمنطقة
لكن محللا آخر اقترح أنه يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن “تحاكي النموذج الإيراني وتتفاعل مع صانعي السياسات والجهات الفاعلة عبر الطيف السياسي”.
وأوصى المشاركون في الاستطلاع بأن تقدمَ دول مجلس التعاون الخليجي لن ينجح إلا بمزيج من العصا والجزرة، وجادلوا بأن المتعاون يجب أن يكون مصحوباً بمجموعة من الخطوط الحمراء الواضحة جدًا. على سبيل المثال، في ظل إدارة ترامب، كان الخط الأحمر للولايات المتحدة هو خسارة الأرواح الأميركية.
وعلى الجانب الإيراني، علق أحد المحللين الإيرانيين عن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بشأن وضع خطوط حمراء على مستويات التخصيب في إيران قائلاً إن “إيران ترد جيداً عندما تعرف حدود ضبط النفس”.
وتابع أن جعل هذه الحدود مسموعة ومفهومة من شأنه أن يقلل التوترات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي. على سبيل المثال، دعت دول مجلس التعاون الخليجي علنًا إلى إجراء مراجعات للدستور الإيراني لإنهاء سياسة تصدير الثورة جنبًا إلى جنب مع وقف دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية. لكن مثل هذه المطالب غير محددة في الأساس ولا تقدم أي وضوح بشأن وضع حدود قابلة للتحقيق.
وبدلاً من ذلك، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تعلن بشكل واضح أن نشاط فيلق القدس خارج إيران يجب أن يتوقف. بالطبع. يتطلب ذلك استعدادًا لدعمه، لكننا رأينا بعض دول مجلس التعاون الخليجي تنتهج سياسة أكثر شدة في السنوات الأخيرة، وربما يؤدي التطبيع مع إسرائيل إلى تقوية العزم.
ويقول الباحثان اللذان استندا في تقريرهما إلى ورقة بحثية لمركز أبحاث “تشاتام هاوس” بعنوان “خطوات لتمكين عملية الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط: إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، وتخفيف حدة النزاعات وبناء الثقة”، إنه يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أيضًا أن تتحقق من إمكانية تحقيق هذه التوقعات وأن تتقبّل أن لإيران دورًا إقليميًا، وفي حين أن تقليص نفوذها قد يكون هدفًا، إلا أنه لا يمكن قطع العلاقات تمامًا.
كما أن تحديد الاتفاق على جوانب الدور الإقليمي لإيران المقبولة وغير المقبولة، والعمل على المساعدة في تحقيق الأدوار المقبولة وردع غير المقبولة من شأنه أن يجعل الخطوات نحو إطار أمني للمنطقة هدفًا أكثر واقعية.
وكجزء من هذا النهج، من الأفضل لدول مجلس التعاون الخليجي اعتماد نهج تعامل أكثر مع السياسات الإقليمية وتحديد تسلسل هرمي للقضايا التي يمكن لجميع الأطراف الاتفاق أو الاختلاف بشأنها دون تقويض الجهود المبذولة للتوصل إلى اتفاق أوسع. بعبارة أخرى، هم بحاجة إلى وضع خيارات سياسية تبتعد عن تلك التي تقوض من مطالب بعضهم البعض.
ويجب ألا تراهن دول مجلس التعاون الخليجي على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024. فالوقت حان الآن للتوصل إلى اتفاق إقليمي، قبل أن يؤثر هذا الإرهاق على منطقة الشرق الأوسط وتركز واشنطن فقط على تنافسها مع الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
العرب