اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن يُظهر مدى تدهور العلاقات مع تركيا وأردوغان

اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن يُظهر مدى تدهور العلاقات مع تركيا وأردوغان

تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، التي كانت فيما مضى من أقرب الحلفاء الاستراتيجيين لأمريكا في الشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا وشرق البحر المتوسط. لكن الأسوأ بكثير بالنسبة لأنقرة هي اعتراف الحكومة الأمريكية أخيراً بأن قتل العثمانيين للأرمن عام 1915 كان إبادة جماعية. ويعود السبب في ذلك إلى أن الرئيس الأمريكي بايدن يدرك أنه للمرة الأولى منذ عدة سنوات، يحتاج أردوغان إلى الولايات المتحدة أكثر مما تحتاج إليه واشنطن.

استغرق الأمر من الرئيس الأمريكي جو بايدن أكثر من ثلاثة أشهر في منصبه للاتصال بنظيره التركي رجب طيب أردوغان. وهذه الخطوة وحدها هي مؤشر على تدهور العلاقات مع دولة كانت فيما مضى من أقرب الحلفاء الاستراتيجيين لأمريكا في الشرق الأوسط وجنوب شرق أوروبا وشرق البحر المتوسط. لكن الأسوأ بكثير بالنسبة لأنقرة كانت الرسالة التي بعثها بايدن حين بادر أخيراً إلى الاتصال بالرئيس التركي في 23 نيسان/أبريل، كما ذكر موقع “بلومبيرغ” لأول مرة: الحكومة الأمريكية تعترف أخيراً أن قتل العثمانيين للأرمن عام 1915 كان إبادة جماعية.

لماذا يعامل بايدن نظيره التركي بهذا التعالي السياسي الواضح؟ والأهم من ذلك، لماذا يفي بايدن بالوعد الذي قطعه خلال حملته الانتخابية بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن بينما لم يفعل ذلك أي من أسلافه في البيت الأبيض عند توليهم الرئاسة؟

بالطبع، لا يقصد بايدن أن يكون لئيماً بل يدرك ببساطة أنه للمرة الأولى منذ عدة سنوات، يحتاج أردوغان إلى الولايات المتحدة أكثر مما تحتاج إليه واشنطن. وبناءً على ذلك، يستغل بايدن هذه الثغرة كميزة، آملاً في تصحيح بعض سلوك أردوغان، من بينها خطواته المناهضة للديمقراطية وعلاقاته الوثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

ولسنوات، اعتبرت الولايات المتحدة تركيا مهمة للغاية بحيث لا يجب إقصاؤها من خلال تصنيف ذبحها لـ 1.5 مليون أرمني خلال الحرب العالمية الأولى على أنها إبادة جماعية، على الرغم من الاعتراف شبه العالمي بهذا الوصف من قبل الأكاديميين والمجتمع الأمريكي الأشمل، فضلاً عن الضغط الداخلي الهائل للاعتراف بالإبادة من قبل المجتمع الأمريكي-الأرمني المنخرط سياسياً وغيره.

لكن جوهر القضية الآن ليس غضب بايدن من أردوغان، بل بالأحرى غضب الحكومة الأمريكية بأكملها تقريباً من الرئيس التركي. فالكثيرون داخل الإدارة الأمريكية وخارجها يعتبرون أردوغان مستبداً ويطرح تهديداً على المصالح الأمريكية في المنطقة.

وفي حين كانت تركيا فيما مضى قدوة للديمقراطية بين الدول ذات الأغلبية المسلمة، إلّا أن الأمريكيين شعروا بالنفور جراء قمع أردوغان للانتخابات النزيهة وحرية التعبير واستقلالية القضاء. وبينما كانت تركيا في الماضي ركيزة أمل لمجتمع منفتح ومعاصر ذات أغلبية مسلمة، أدّت نزعة المحافظة الاجتماعية التي يتبناها أردوغان وتكتيكاته القومية-الشعبوية إلى تحوّل البلاد نحو التعصّب والاستقطاب المجتمعي.

وفي الوقت الذي كانت فيه تركيا سابقاً متحالفة بشكل استراتيجي للغاية مع الغرب بحيث أصبحت الدولة العضو الأقصى شرقاً في حلف “الناتو”، إلا أنها دخلت في نزاعات دائمة مع المنظمة في عهد أردوغان وحتى أنها خيّبت آمال الحلف في بعض الأحيان. وحيث كانت تركيا من الأصدقاء المقربين لجهات فاعلة مهمة في الشرق الأوسط مثل إسرائيل، إلا أن إعادة توجّه أردوغان نحو الجماعات الإسلامية السياسية مثل حركة «حماس» دمّرت جسوراً إقليمية مهمة.

لقد بدأتُ بتتبع العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا منذ عام 2002. وفي الماضي، حين كان يُنتخب رئيس أمريكي جديد بعد وعده بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، كان يواجه على الفور “سداً” من الإدارات والوكالات الأمريكية التي تشرح سبب كَوْن هذه الخطوة خطأ، نظراً للاعتراضات التركية.

وتعارض تركيا هذا التصنيف لأنها قلقة بشأن تداعياته العملية – وأهمها، تعريض الحكومة لدعوات بدفع تعويضات – فضلاً عن رمزيته. فهي لا ترغب في أن يُنظر إليها كدولة منبوذة من جهة، وفي الوقت نفسه تريد أن يتمّ الاعتراف أيضاً بالعدد الكبير من الأتراك والأكراد وغيرهم من المسلمين الذين قُتلوا على يد روسيا المتحالفة مع الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى.

وكانت تركيا قد خصصت مبالغ هائلة لممارسة الضغوط في الكونغرس الأمريكي، ونظّمت مؤتمرات أكاديمية ونشرت كتباً حول هذه المسألة لمنع واشنطن من تغيير موقفها. (ومن المثير للاهتمام، إن وصف الإبادة الجماعية الذي كان محظوراً في الماضي ويعكس المجتمع المدني والحيوية الديمقراطية اللذين لا يزالان قويّين في تركيا، يكتسب أيضاً بعض الزخم في تركيا نفسها، مما يغضب أردوغان بشكل كبير).

وفي الماضي، اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية تركيا حليفاً قيّماً ولطالما كانت عنصراً أساسياً في مشاريع الصدّ للحكومة الأمريكية، مما جعل الروابط مع أنقرة تطغى على وعود الحملات الانتخابية بشأن الإبادة الجماعية للأرمن. ولكن ليس بعد الآن. فاليوم، لم يعد البنتاغون، الغاضب من أنقرة بسبب مجموعة من القضايا، أبرزها شراء منظومة الدفاع الصاروخية “أس-400” الروسية الصنع، مهتماً بمراعاة موقف أنقرة في واشنطن.

فضلاً عن ذلك، إن موقف الكونغرس الأمريكي أكثر تشدداً حتى من موقف البنتاغون والرئيس بايدن بشأن تركيا. فالكثير من أعضاء الكونغرس يمثلون ناخبين أرمن كانوا قد ضغطوا بقوة من أجل الاعتراف بالإبادة الجماعية. كما أن الهيئة التشريعية، التي سبق وفرضت عقوبات تستهدف إقدام أنقرة على شراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية، ترغب في معاقبة تركيا بصرامة بسبب تجاوزات عديدة أخرى قام بها أردوغان، وهو برأيي خلط بين الرئيس والبلاد.

وحتى في مكتب الشؤون الأوروبية والأوراسية التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، الذي لطالما تعامل مع أنقرة، فإن الميل إلى تركيا يفقد زخمه بسرعة. ويتمثل الشعور العام في أوساط الحكومة الأمريكية بأن أردوغان يستجيب للصرامة المستخدمة مع بوتين بشكل أفضل من استجابته للاحتضان الدافئ.

وفي الوقت نفسه، لم يعد أمام أردوغان خيارات من شأنها أن تساعد في طمأنة إدارة بايدن. ففي ظل تراجع التأييد الشعبي محلياً، من غير المرجح أن يوافق الريس التركي على تخفيف سيطرته الاستبدادية على المجتمع التركي، خشية أن تنهض المعارضة الحذرة أساساً وتقصيه في الانتخابات.

أما في الخارج، فأردوغان منخرط جداً مع بوتين بحيث يتعذر عليه الابتعاد. وإذا أراد أردوغان إعادة منظومة “أس400” إلى روسيا، فقد يفرض بوتين على الفور عقوبات تجارية وسياحية، مستهدفاً اقتصاد تركيا المتعثر ومقلصاً على نحو أكبر قاعدة دعم أردوغان.

ومن الناحية العسكرية، بإمكان بوتين إعطاء الضوء الأخضر لشنّ هجوم من قبل حليفه المقرّب بشار الأسد على إدلب، آخر منطقة يسيطر عليها المتمردون في سوريا، الأمر الذي قد يتسبب في فرار مئات الآلاف من اللاجئين عبر الحدود إلى تركيا. وتستضيف أنقرة أساساً 3.6 ملايين لاجئ سوري. ووسط التباطؤ الاقتصادي في تركيا وتزايد المشاعر المعادية للاجئين، فحتى أردوغان لن يكون قادراً على الصمود أمام القوى الاجتماعية والسياسية التي سببتها الزيادة الهائلة والمفاجئة في أعداد اللاجئين.

كما يمكن لبوتين أن يُفسد اتفاقات وقف إطلاق النار الهشة بين حلفائه وتركيا وحلفائه في ليبيا وجنوب القوقاز، مما يقوّض بشكل أكبر مصالح أنقرة، ويتسبب بمشاكل لأردوغان شخصياً – لأنه يتغذى محلياً على صورته كرجل قوي في نظر العالم. ولطالما اعتقدتُ أنه بسبب كونه عالقاً بين سندان بايدن ومطرقة بوتين، سيختار أردوغان نظيره الروسي. وقد تأتي ساعة الاستحقاق هذه عاجلاً وليس آجلاً.

إن كل ما تقدم يجعل أردوغان في موقف ضعيف يصعّب عليه معارضة الاعتراف بالإبادة الجماعية، مما يندرج أيضاً في إطار سبب اختيار بايدن لهذا التوقيت على وجه التحديد. ويواجه أردوغان اقتصاداً تركياً هشاً. وإذا كانت علاقاته مع واشنطن في حالة تدهور، فقد يؤدي ذلك إلى تدهور الاقتصاد التركي.

والآن، يحتاج أردوغان إلى عكس هذه الديناميكية من خلال الخروج بسردية بأنه على وفاق مع بايدن. وبناء على ذلك، بقي صبوراً رغم أن بايدن تجاهله وغيّر السياسة الأمريكية بشأن الإبادة الجماعية بشكل جذري. لقد سبق وكتبتُ السيرة السياسية لأردوغان وأعلم أنه يمكنه أن يكون عملياً للغاية، إنما في الوقت نفسه مكيافيلياً إلى حدّ كبير. وأنا واثق أنه بغض النظر عن العبارات المخيّبة والمراوغة التي قد يستخدمها في ردّه على اعتراف بايدن، إلّا أنّه سيتطلع إلى فرصة للرد على الرئيس الأمريكي – حالما ينتعش الاقتصاد التركي.

سونر چاغاپتاي

معهد واشنطن