منذ أن تولّى بوتين السلطة رسمياً في أيار/مايو 2000، عمل على إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط في إطار نهجه القائم على المحصلة الصفرية فيما يتعلق بالسياسة الدولية. وإذا استمرت واشنطن في عدم منح الأولوية للمنطقة، فسوف تسرّع روسيا من تقاربها مع إيران وتحدد بشكل أساسي مستقبل سوريا، مما قد يؤدي إلى قيام علاقة أكثر وضوحاً وخطورة بين هذه الجهات الفاعلة.
لطالما كان الشرق الأوسط جزءاً من المنطقة الضعيفة لروسيا، والتي سعت إلى تأمينها في الوقت الذي دفعت فيه إلى لعب دور رئيسي في السياسة الأوروبية واكتساب اعترافٍ بمكانتها كقوة عظمى. وعمل فلاديمير بوتين منذ توليه السلطة رسمياً في أيار/مايو 2000، إن لم يكن قبل ذلك، على إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط في إطار نهجه القائم على المحصلة الصفرية تجاه السياسة الدولية. وقد أدّى التدخل العسكري الروسي في سوريا في أيلول/سبتمبر 2015 من أجل دعم الدكتاتور بشار الأسد إلى صدم الكثيرين ومفاجأتهم، لكنه كان النتيجة المنطقية لسنوات من الأهداف الأوسع نطاقاً لردع الغرب ضمن سياق إرباك السياسات الغربية.
وخلافاً للاتحاد السوفيتي السابق، قام بوتين باستمالة كافة الجهات الفاعلة الرئيسية ويستمر في ذلك حتى عندما تُعارض هذه الجهات بعضها البعض. وهذا نهج عملي ومرن على نحو أكبر من ذلك الذي اتبعه الاتحاد السوفياتي الإيديولوجي والذي كان لديه حلفاء وخصوم واضحون. وقد نجحت استراتيجية بوتين ولا سيما بفضل تضارب الالتزامات الغربية تجاه المنطقة. وهكذا، تحافظ موسكو على علاقات جيدة مع إيران ووكلائها، ومع إسرائيل و[دول] الخليج – على سبيل المثال لا الحصر- وتخبر كل طرف أنه بإمكنها الاضطلاع بدور صانع السلام. وتستخدم موسكو كافة الأدوات المتاحة في مجموعة أدواتها الحكومية من أجل ترسيخ نفوذ عملي – ليس من خلال القوة العسكرية فحسب، بل الشبه العسكرية والاستخباراتية والتجارية والقوة الناعمة أيضاً.
فضلاً عن ذلك، اتضح لبوتين أن الغرب ضعيف – وخاصةٍ بعد أن رسم الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطاً أحمر في سوريا عام 2013 ولكنه لم يطبقه – ولهذا السبب على الأرجح شعر بالثقة في التدخل عسكرياً في سوريا. وأدّى التناقض الأمريكي إلى مساعدة بوتين على تحقيق تقدّم في المنطقة. وتقوم المقاربة اليي تعتمدها موسكو في الشرق الأوسط على المحصلة الصفرية: أي لكي يحقق بوتين ربحاً، على الغرب أن يخسر. ولا يسعى بوتين أيضاً إلى تحقيق استقرار فعلي – بل على العكس من ذلك، إن عدم الاستقرار بمستوى متدنٍ يجعله في موقع إداري متميز.
وتشكّل سوريا مركز نشاط الكرملين، حيث يستخدمها بوتين كنقطة انطلاق لإبراز قوّته في جميع أنحاء المنطقة وفي أوروبا وأفريقيا أيضاً. ويتجلّى اهتمام موسكو بشكل واضح من خلال كشف النقاب مؤخراً عن نصب تذكاري للقديس الشفيع للجيش الروسي، الأمير ألكسندر نيفسكي، في قاعدة “حميميم” الجوية الروسية في سوريا. ويبيّن ذلك التزام روسيا على المستوى الرمزي والعملي على حد سواء. ويتردد صدى الرمزية في كل من الشرق الأوسط وروسيا.
وبطبيعة الحال، من الناحية العسكرية، ستبقى روسيا في سوريا لمدة لا تقل عن تسعة وأربعين عاماً، وفقاً لاتفاقية بين موسكو ودمشق. وفي هذا الوقت، تواصل روسيا اتخاذ خطوات عملية على الأرض للتنافس على النفوذ في سوريا والدفع نحو تحقيق النتيجة المرجوة. ويسمح موقع سوريا الاستراتيجي في شرق البحر المتوسط لروسيا أيضاً بإبراز قوتها في الجناح الجنوبي لحلف “الناتو”، وعلى نطاق أوسع، في أوروبا الجنوبية. وفي هذا السياق، كانت ليبيا الغنية بالنفط وذات الموقع الاستراتيجي هي الخطوة المنطقية التالية، كما كتبتُ في أوائل عام 2017. وبالفعل، تجلّى النشاط الروسي هناك على نحو أكبر خلال السنوات القليلة الماضية على الجبهة الدبلوماسية – وسط سعي موسكو إلى تصوير نفسها كوسيط – ومن خلال نشر، على نحو واضح ومتزايد، ما يسمى بالمقاولين العسكريين الخاصين على غرار “مجموعة فاغنر”.
وفي حين تُعتبر مصالح موسكو جيوسياسية في المقام الأوّل، إلا أن هناك أيضاً جانباً تجارياً – يتعلق بشكل رئيسي بالطاقة والأسلحة – بالإضافة إلى الأبعاد الثقافية والدينية. وعلى الرغم من أن بوتين يعمل على بناء علاقات مع الجميع – وهو توازن ليس من السهل الحفاظ عليه – إلا أن كفة الميزان لا تزال تميل لصالح القوى المعادية لأمريكا، ونحو إيران ووكلائها، والأسد.
ولم تعلن الولايات المتحدة تحت قيادة بايدن بعد عن سياستها تجاه سوريا، ولكن من غير المرجح أن تكون دمشق من أولوياتها، الأمر الذي سيؤدي إلى استمرار مساعدة بوتين في مساعيه. وفي حين تبقى العديد من التفاصيل غير واضحة، إلا أنه من وجهة نظر أوسع نطاقاً، تستمرّ واشنطن في عدم منح الأولوية للشرق الأوسط لصالح منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا في مناطق أخرى. وفي المقابل، ترى موسكو في الشرق الأوسط ساحة رئيسية لهذه المنافسة. وإذا استمر هذا الاتجاه، فستواصل روسيا تقاربها العميق أساساً مع إيران ووكلائها وستكون لها في النهاية الكلمة الأخيرة بشأن مستقبل سوريا. وقد يؤدي ذلك إلى تجلي رابطة أكثر وضوحاً في العلاقة بين روسيا وإيران والأسد وتحويل الشرق الأوسط بطريقة قد تتسبب بمزيد من نقاط الضعف للغرب وحلفائه، في المنطقة وأوروبا على حد سواء. ولن يؤدي مثل هذا السيناريو سوى الإضرار بالمنافسة الأمريكية مع الصين وروسيا.
آنا بورشيفسكايا
معهد واشنطن