كشفت صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر في الأول من أيار/ مايو 2021 عن توجّه إيران والمملكة العربية السعودية إلى عقد جولة ثانية من المباحثات غير المعلنة بينهما في العاصمة العراقية، بغداد، على مستوى السفراء. وكانت صحيفة فايننشال تايمز نقلت يوم 18 نيسان/ أبريل 2021 عن مسؤولين عراقيين قولهم إنّ جولة مباحثات سرّية سعودية – إيرانية عُقدت على مستوى أمني بوساطة عراقية في بغداد، وذلك في 9 نيسان/ أبريل 2021. وذكرت وكالة رويترز أنّ الوفد السعودي ترأّسّه رئيس المخابرات، خالد بن علي الحميدان، أما الوفد الإيراني فترأّسّه سعيد عرافاني نائب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. ومع أنّ الطرفين، السعودي والإيراني، لم يصدرا تأكيدًا أو نفيًا رسميَين حول هذه المباحثات، فمن الواضح أنّ اللقاء عُقد فعلًا، وأنّ لدى البلدين دوافع قوية في اتجاه تهدئة التوتر بينهما في هذه المرحلة تحديدًا، كما لمّح إلى ذلك ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مقابلة تلفزيونية، قائلًا إنّ بلاده “تطمح إلى علاقات إيجابية مع إيران، رغم الخلافات الكبيرة معها”.
جذور الخلاف السعودي – الإيراني
تعود جذور الخلافات السعودية – الإيرانية إلى عام 1979، حين أعلنت الرياض دعمها نظام الشاه محمد رضا بهلوي في مواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضده أواخر عام 1977، وانتهت بإطاحة نظامه في عام 1979. وازداد التوتر مع إعلان النظام الجديد في طهران نيته تصدير الثورة إلى دول الجوار، وإطاحة الأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة الأميركية في منطقة الخليج. لذلك، دعمت السعودية العراق في حرب السنوات الثماني مع إيران (1980- 1988)، كما حصلت مواجهاتٌ عسكريةٌ مباشرة بين الرياض وطهران. ففي حزيران/ يونيو 1984 أسقطت السعودية طائرتين إيرانيتين اخترقتا مجالها الجوي. وبلغ التوتر بين الطرفين ذروته خلال موسم الحج في عام 1987، عندما أدّت احتجاجات حجّاج إيرانيين رفعوا شعارات سياسية إلى مقتل أكثر من 400 شخص، بينهم 275 حاجًا إيرانيًا و85 شرطيًا سعوديًا. وعلى الرغم من أن العلاقات بين البلدين تحسّنت مع إدارة الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1997 – 2005) فإنها توترت بشدة بعد الغزو الأميركي للعراق، خصوصًا في عهد إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005 – 2013)، حيث اتهمت السعودية إيران بمحاولة السيطرة على العراقن من خلال المليشيات والقوى السياسية الحليفة لها. كما اتهمت السعودية إيران بدعم التمرّد الحوثي في اليمن، الذي سيطر على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014. فتدخلت السعودية عسكريًا في آذار/ مارس 2015، لتقطع الطريق على زحف الحوثيين في اتجاه عدن، بعد إطاحة حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي في صنعاء. وعلى الرغم من أن المملكة لم تعلن رفضها صراحةً الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إدارة الرئيس باراك أوباما مع إيران عام 2015، فإنها، في الحقيقة، عارضته ضمنًا، خصوصًا أنّ الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، وقد نظرت إليه الرياض أنه يعزّز وضع إيران السياسي والاقتصادي.
تعود جذور الخلافات السعودية – الإيرانية إلى 1979، حين أعلنت الرياض دعمها نظام الشاه محمد رضا بهلوي في مواجهة موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت ضده أواخر 1977
وفي مطلع عام 2016، قرّرت السعودية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وذلك بعد أن اقتحمت حشود غاضبة السفارة السعودية في طهران، وأحرقت القنصلية السعودية في مدينة مشهد، ردًا على إعدام السلطات السعودية رجل الدين الشيعي، نمر النمر، الذي اتهمته الرياض بإثارة النعرات الطائفية والخروج على النظام العام. ومثّل وصول الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في واشنطن عام 2016 عاملَ توتر إضافيًا في العلاقات بين الرياض وطهران. وأبدت السعودية ارتياحًا إلى مواقف إدارة ترامب نحو إيران، بما في ذلك قراره الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات على طهران، والتي شملت حظر تصدير النفط الإيراني، وعزل إيران عن النظام المصرفي العالمي. وفي أيار/ مايو 2019، سعت السعودية إلى حشد العالم الإسلامي وراءها من خلال استضافتها ثلاث قمم متزامنة، خليجية وعربية وإسلامية، في مكة، لمواجهة إيران بعد أن استهدفت هجماتٌ، يُعتقد أنّ إيران وراءها، مصالحَ نفطية سعودية، بما فيها ناقلات تحمل النفط السعودي. لكن السعودية أخذت تميل إلى التهدئة مع إيران في الشهور الثلاثة الأخيرة على نحوٍ مهّد للّقاء الأمني الذي تناولته وسائل الإعلام العالمية في بغداد، في نيسان/ أبريل 2021.
دوافع التغير في الموقف السعودي
مثّلت خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقرار إدارة الرئيس جو بايدن مراجعة العلاقات مع السعودية المتغيرَين الرئيسين اللذَين دفعا الرياض إلى إعادة النظر في جملةٍ من مواقفها على مستوى سياستها الخارجية، ومنها قرار الدخول في حوار مع إيران لتهدئة التوتر معها. وكانت إدارة الرئيس بايدن وضعت إنهاء الحرب في اليمن وإحياء الاتفاق النووي مع إيران على رأس سلّم أولوياتها في المنطقة، كما أعلنت عن مراجعة علاقاتها مع السعودية التي أخذت طابعًا شخصيًا خلال رئاسة ترامب. وبناءً عليه، أعلن بايدن مطلع شباط/ فبراير 2021 قرارًا يقضي بـ “إنهاء كل أشكال الدعم الأميركي للعمليات الهجومية للحرب في اليمن، بما في ذلك مبيعات الأسلحة ذات الصلة” لكل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وسعي إدارته إلى إيجاد حل دبلوماسي للصراع المستمر منذ ست سنوات، والذي قال إنه “خلق كارثة إنسانية واستراتيجية”. وكانت إدارة بايدن أعلنت سابقًا تعليق صفقات الأسلحة للبلدين الخليجيَين ومراجعتها، والتي كانت أقرّتها إدارة ترامب.
استغل الحوثيون إعلان واشنطن رفعهم من قائمة الجماعات الإرهابية، ليردّوا على المبادرة السعودية بتصعيد هجماتهم في اليمن وداخل الأراضي السعودية
وعلى الرغم من أنّ قرار بايدن حول الدور الأميركي في حرب اليمن تضمّن استثناءاتٍ تتعلق بحماية أمن السعودية من “الهجمات الصاروخية، وضربات الطائرات المسيّرة، وتهديدات أخرى من الفصائل التي تسلّحها إيران في دول عدة”، فإنّ ذلك لم يؤدّ إلى تراجع الهجمات التي يشنّها الحوثيون (ومليشيات عراقية تأتمر بأمر طهران) انطلاقًا من الأراضي اليمنية (والعراقية) ضد السعودية، وشملت منشآت حيوية عديدة في مجال صناعة النفط والبتروكيماويات، أهمها الهجوم الذي استهدف منشأتَي بقيق وخريص في أيلول/ سبتمبر 2019، ولم تتلقّ السعودية حينها الدعم الذي كانت تتوقعه من الولايات المتحدة.
ومع تراجع الدعم الأميركي للسعودية في حرب اليمن، أخذت الحرب نفسها تمثل استنزافًا كبيرًا للمملكة من الناحيتين، المادية والسياسية، في ضوء الكارثة الإنسانية التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم. وتذهب تقديرات إلى أنّ السعودية تكبدت ما يزيد على مائة مليار دولار حتى الآن بسبب حرب اليمن، في وقت تظل فيه أسعار النفط منخفضة نسبيًا، نظرًا إلى ضعف الطلب العالمي بسبب استمرار جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19)، وحيث يسعى الأمير محمد بن سلمان إلى حشد كل الموارد والطاقات لينفذ برامجه الاقتصادية والاجتماعية الطموحة والمهمة سياسيًا بالنسبة إليه، في ظل تفكّك التحالفات التقليدية التي استند إليها تاريخيًا بيت الحكم السعودي. دعت هذه الأسباب السعودية، في 24 آذار/ مارس 2021، وعلى لسان وزير خارجيتها، فيصل بن فرحان، إلى إطلاق مبادرةٍ لوقف الحرب في اليمن، تضمنت وقفًا شاملًا لإطلاق النار في جميع أنحاء البلاد تحت إشراف الأمم المتحدة، وإعادة فتح مطار صنعاء واستئناف المفاوضات السياسية بين حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي والمتمرّدين الحوثيين.
لطهران دور في اليمن، ولكنّ الاعتراف بها رسميًا طرفًا في الحل أمر آخر، إذ يكرّس وجودها في الجزيرة العربية، فهل ترضى السعودية بذلك؟
لكنّ الحوثيين استغلوا إعلان واشنطن وقف دعمها الحرب في اليمن، ورفع جماعة الحوثي من قائمة الجماعات الإرهابية، ليردّوا على المبادرة السعودية بتصعيد هجماتهم في اليمن وداخل الأراضي السعودية، فشنّوا هجومًا واسعًا ليسيطروا على محافظة مأرب الغنية بالنفط، وهي آخر المحافظات الشمالية الخارجة عن سيطرتهم، كما صعّدوا هجماتهم على المطارات والموانئ ومنشآت النفط السعودية. وتزعم السعودية أن لإيران دورا في التصعيد الحوثي الأخير. وتؤكد هذا الزعم تصريحات نائب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، رستم قاسمي، بخصوص تقديم إيران أسلحة للحوثيين ووجود مستشارين عسكريين إيرانيين في اليمن يدعمون جماعة الحوثي.
وتعدّ الخطوة السعودية في اتجاه إيران أيضًا استجابة لرغبة أميركية في خفض حدّة التوتر بين البلدين، والتي تُعدّ مركزيةً في سياسة واشنطن التي تسعى إلى تقليل انخراطها في المنطقة من خلال خفض التوتر فيها عبر تحسين العلاقات السعودية – الإيرانية، وإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، حتى تتمكّن واشنطن من التركيز على التهديدات الاستراتيجية التي تواجهها، والتي حدّدتها وثيقة الأمن القومي لإدارة بايدن بأنها تتمثل بالصين وروسيا، إضافة إلى قضيتي التغير المناخي وانتشار الأوبئة وغيرهما.
دوافع إيران
إذا كانت الرغبة في الخروج من المستنقع اليمني، وتوقّف الدعم الأميركي للحرب، السببين الرئيسين اللذَين جعلا السعودية تغيّر خطابها نحو إيران، وتفتح الباب أمام مباحثاتٍ معها، فإنّ مفاوضات إحياء الاتفاق النووي تمثّل السبب الرئيس الذي يدفع إيران إلى الانفتاح على أيّ محاولةٍ سعوديةٍ في اتجاه التفاهم معها. وتعطي كل مراكز القوى في إيران، بما فيها الحرس الثوري، أهميةً قصوى لرفع العقوبات الصارمة وغير المسبوقة التي فرضتها إدارة ترامب على إيران، وشملت كل القطاعات الاقتصادية، خصوصًا قطاع النفط والبتروكيماويات، كما عزلتها عن النظام المالي العالمي، حيث غدت كل أشكال التعامل الاقتصادي معها غير ممكنةٍ من الناحية العملية. لقد ألحقت العقوبات الاقتصادية أضرارًا بالغة بالاقتصاد الإيراني الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على تصدير النفط. وذكر الرئيس حسن روحاني أنّ إيران خسرت 150 مليار دولار بسبب هذه العقوبات، بعد أن انخفضت صادراتها المعروفة من النفط من نحو 2.8 مليون برميل عام 2018 إلى أقل من 300 ألف برميل عام 2020. وقد تزامنت العقوبات مع انتشار جائحة كورونا التي شلّت الاقتصاد الإيراني، وألحقت به أضرارًا بالغة، فانهار سعر صرف العملة، وارتفعت نسب البطالة، وازداد الفقر على نطاق واسع. كما ألحقت العقوبات أضرارًا كبيرة باقتصاد الحرس الثوري الذي صنّفه الرئيس ترامب في نيسان/ أبريل 2019 باعتباره منظمة إرهابية. ويعتمد الحرس بالأساس على تجارة النفط، ليحصل على تمويله الخاص من خارج ميزانية الحكومة. لهذه الأسباب، تأمل إيران في أن تقنع السعودية بألّا تتخذ موقفًا سلبيًا من مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، وحتى دعم مفاوضات فيينا، إذا أمكن.
مفاوضات إحياء الاتفاق النووي تمثّل السبب الرئيس الذي يدفع إيران إلى الانفتاح على أيّ محاولةٍ سعوديةٍ في اتجاه التفاهم معها
والواقع أنّ إيران تحاول، منذ عام 2015، أن تكرّس نفسها لاعبًا رئيسًا في الأزمة اليمنية، وتجد لها موقعًا على طاولة المفاوضات. ولا شك في أنّ لها دورًا في اليمن، ولكنّ الاعتراف بها رسميًا طرفًا في الحل أمر آخر، إذ يكرّس وجودها في الجزيرة العربية، فهل ترضى السعودية بذلك؟
دوافع العراق
عُقدت المباحثات السعودية – الإيرانية في بغداد بناءً على وساطةٍ عراقيةٍ، بادر إليها رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، الذي أجرى محادثات مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض، في آذار/ مارس 2021، علمًا أنّ الكاظمي زار طهران في عام 2020 وعبّر عن رغبة بلاده في القيام بدور وساطة بين إيران والدول العربية. وتحوّل العراق في عهد إدارة ترامب إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين إيران وخصومها، حيث قتلت الولايات المتحدة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في مطار بغداد، في كانون الثاني/ يناير 2020، وردّت طهران بقصف قاعدة عين الأسد التي تتمركز فيها قوات أميركية غرب العراق. ويرى الكاظمي، فضلًا عن رغبته في عزل العراق عن الصراعات الإقليمية، أنّ تحييد معارضة الفصائل والمليشيات الموالية لإيران سياسة الانفتاح تجاه العالم العربي يصبح ممكنًا، إذا خفّت التوترات بين إيران والدول العربية، لذلك يقود الكاظمي مساعيَ للوساطة أيضًا بين إيران وكل من مصر والأردن، شركاء العراق الجدد في تكتل اقتصادي يهدف إلى تعزيز العلاقات التجارية بين الدول الثلاث. ويبدو أن الولايات المتحدة تدعم مساعي رئيس الوزراء العراقي في هذا الاتجاه، باعتباره السبيل الوحيد أمام تحقيق استقرار العراق وموازنة النفوذ الإيراني فيه.
آفاق المفاوضات
ترى التصريحات الإيجابية التي أطلقها أخيرا وليّ العهد السعودي تجاه إيران، وتصريحات وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، خلال لقائه الناطق باسم الحوثيين ورئيس وفدهم المفاوض، محمد عبد السلام، في مسقط، “أن الحل السياسي هو المخرج الوحيد للأزمة في اليمن”. وتتزامن تلك التصريحات مع المساعي السياسية للولايات المتحدة والأمم المتحدة لوقف الحرب، وتفتح الباب أمام أول فرصةٍ حقيقيةٍ لإحراز تقدّم في الصراع المستمر منذ ست سنوات. لكن، نظرًا إلى عمق الخلافات بين البلدين وتعدّد أسبابها يصعب توقّع حصول تقدّم سريع في المفاوضات بينهما، كما أن علاقاتهما، بما فيها احتمال إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016 وإعادة فتح السفارات، ستكون مرتبطةً بمدى التقدّم الذي تحققه مفاوضات الملف النووي الإيراني في فيينا. لكن في كل الأحوال، تمثّل عودة الاتصالات بين السعودية وإيران خطوة إيجابية على طريق تخفيف التوتر في صراعٍ تكبّد جميع دول الإقليم تكلفته الباهظة. هذه هدنةٌ مهمةٌ، وهذا الحوار ضروري. لكن على المدى البعيد، سوف يبقى التوتر مع إيران قائما في المشرق العربي، ما دامت إيران ترى أن إنشاء مليشيات مسلحة ودعمها داخل دول عربية ذات سيادة هو السبيل لتوسيع نفوذها في المنطقة.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات