الباحثة : شذا خليل*
يعاني الاقتصاد العراقي منذ سنوات طويلة من مفارقة واضحة تتمثل في امتلاكه موارد مالية كبيرة، مقابل ضعف قدرته على تحويل هذه الموارد إلى تنمية حقيقية ومستدامة. فحالة الاستقرار المالي النسبي التي يشهدها العراق اليوم لا تعني بالضرورة سلامة البنية الاقتصادية، بل تخفي وراءها اختلالات هيكلية متراكمة نتجت عن الاعتماد المفرط على النفط، وتضخم دور الدولة، وضعف المؤسسات الاقتصادية والإدارية. ومن هنا، فإن أي حديث جاد عن إصلاح الاقتصاد العراقي يجب أن ينطلق من تشخيص واقعي لهذه الاختلالات قبل الانتقال إلى وصفات الإصلاح.
لقد نجحت الحكومات المتعاقبة في إدارة الاستقرار قصير الأجل عبر التوسع في الإنفاق العام، مستفيدة من عوائد النفط وارتفاع الاحتياطيات النقدية، إلا أن هذا النهج خلق اقتصاداً هشاً يعتمد على الصدمة النفطية أكثر مما يعتمد على الإنتاج. فالموازنات العامة تضخمت بشكل كبير منذ عام 2004، ليس نتيجة نمو القاعدة الإنتاجية، بل بسبب توسع النفقات التشغيلية، خصوصاً الرواتب والدعم، ما جعل الدولة أكبر رب عمل ومصدر دخل في البلاد. هذا الواقع فرض عبئاً دائماً على المالية العامة، وحدّ من قدرة الحكومة على توجيه الموارد نحو الاستثمار والتنمية طويلة الأجل.
إن تضخم الجهاز الوظيفي للدولة وتعدد القوانين الخاصة بالرواتب والمخصصات خلقا تشوهات عميقة في هيكل الدخل، وأضعفا مبدأ العدالة والكفاءة. فالاقتصاد لا يمكن أن يتحول إلى اقتصاد منتج طالما بقي التوظيف الحكومي بديلاً عن فرص العمل الحقيقية في القطاع الخاص. لذلك، فإن إصلاح سلم الرواتب وربط الأجور بالإنتاجية، إلى جانب إعادة تعريف دور الدولة من مشغل مباشر إلى منظم وداعم، يمثل خطوة أساسية في مسار الإصلاح.
في الوقت ذاته، يعكس نظام الدعم الاجتماعي صورة أخرى من صور الخلل البنيوي. فشمولية الدعم، رغم أهميتها الاجتماعية، أدت إلى هدر كبير في الموارد وقللت من فاعلية الحماية الاجتماعية. الإصلاح هنا لا يعني تقليص الدعم بقدر ما يعني إعادة توجيهه نحو الفئات الأكثر حاجة، وربطه بسياسات تمكين اقتصادي حقيقية، تفتح المجال أمام العمل والإنتاج بدلاً من الاعتماد الدائم على الإعانات.
أما قطاع الطاقة، فيمثل أحد أبرز التحديات الهيكلية التي تستنزف المالية العامة وتعيق النمو. فالإنفاق الضخم على الكهرباء لم ينجح في توفير خدمة مستقرة، بسبب اختلالات في الإدارة والحوكمة والجباية. ويُعد استمرار حرق الغاز المصاحب مثالاً صارخاً على سوء إدارة الموارد، إذ يخسر العراق مليارات الدولارات سنوياً كان يمكن أن تتحول إلى مصدر للطاقة والدخل وفرص العمل. الإصلاح الحقيقي في هذا القطاع يتطلب إعادة هيكلة شاملة، لا حلولاً جزئية أو مؤقتة.
وفي ما يتعلق بالدين العام والعجز المالي، فإن المشكلة لا تكمن في وجودهما بحد ذاتهما، بل في طبيعة استخدامهما. فالاقتراض لتمويل الإنفاق التشغيلي يعمق الأزمة، بينما يمكن للدين أن يكون أداة إيجابية إذا وُجّه نحو مشاريع إنتاجية واضحة العائد. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إطار مالي متوسط وطويل الأجل يربط بين العجز والنمو، ويمنع تحميل المواطنين أعباء تضخمية أو ضريبية غير عادلة.
رغم ذلك، يمتلك العراق نقاط قوة مهمة، أبرزها الاستقرار النقدي وارتفاع الاحتياطيات الأجنبية وانخفاض التضخم. غير أن هذه المؤشرات ستظل محدودة الأثر ما لم تُترجم إلى نمو حقيقي في الاقتصاد الواقعي. ويتطلب ذلك إصلاحاً جذرياً للقطاع المصرفي، ليكون قادراً على تمويل الاستثمار والإنتاج، وليس مجرد وسيط لتداول السيولة.
كما أن ضعف الإيرادات غير النفطية يكشف عمق الأزمة المؤسسية. فغياب الحوكمة الفعالة، وتعقيد الإجراءات، وانتشار الاقتصاد غير الرسمي، كلها عوامل تحد من قدرة الدولة على تحصيل الإيرادات بشكل عادل وفعال. الإصلاح المؤسسي هنا لا يقل أهمية عن الإصلاح المالي، لأنه يمثل الإطار الذي تُنفذ من خلاله السياسات الاقتصادية.
في نهاية المطاف، لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي في العراق أن ينجح من دون قطاع خاص قوي وفاعل. فالدولة لم تعد قادرة على الاستمرار بوصفها المحرك الوحيد للاقتصاد. المطلوب هو بيئة أعمال مستقرة، تحمي المستثمر، تقلل البيروقراطية، وتوفر قواعد واضحة وعادلة للمنافسة. فالقطاع الخاص الكفوء ليس بديلاً عن الدولة، بل شريكاً أساسياً في تحقيق التنمية.
إن الاقتصاد العراقي يقف اليوم عند لحظة مفصلية. فإما أن يُستثمر الاستقرار المالي الحالي لإطلاق إصلاحات هيكلية حقيقية تعيد بناء الاقتصاد على أسس الإنتاج والتنوع، أو أن يستمر الاعتماد على النفط والإنفاق العام، مع ما يحمله ذلك من مخاطر مستقبلية. الإصلاح ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة اقتصادية لضمان الاستقرار والتنمية للأجيال القادمة.
الوحدة الاقتصادية / مكتب شمال امريكا
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
