شنّت إسرائيل، في 10 أيار/ مايو 2021، حربًا هي الرابعة على قطاع غزة الذي يرزح تحت الحصار منذ عام 2007. وبسبب ذلك، وجدت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، نفسها مضطرةً إلى أن تتعامل مع ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، بعد أن حاولت تجاهله منذ وصولها إلى السلطة؛ إذ أجرى بايدن اتصاله الهاتفي الأول برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، شهرًا بعد أن تسلّم منصبه، وهو أمرٌ غير معهود في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. كما أنّ إدارته لم تعيّن سفيرًا لها في إسرائيل حتى الآن، ولم تعيّن مبعوثًا للسلام في المنطقة كما كانت الإدارات السابقة تفعل. ينطبق الأمر نفسه على الاتصالات بالجانب الفلسطيني، إذ جاء أول اتصال بين بايدن والرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في خضم العدوان الإسرائيلي الأخير. لكن الحرب الإسرائيلية على غزة اضطرّت إدارة بايدن إلى أن تتدخل وتضغط على إسرائيل لتقبل بوقف إطلاق نارٍ متبادل مع فصائل المقاومة الفلسطينية، خصوصًا بعد أن برزت انقساماتٌ كبيرة داخل صفوف الحزب الديمقراطي، وتعالت أصوات الناقمين بين أعضائه في الكونغرس على الممارسات الإسرائيلية الوحشية، وانتقاداتهم العلنية انحياز إدارة بايدن إلى إسرائيل.
موقف مبدئي منحاز
على مدى 11 يومًا، هي مدة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كان الإطار العام للموقف الأميركي هو الانحياز التام إلى مصلحة إسرائيل. وقد ظهر ذلك جليًا في ثلاثة مواقف:
1. تعطيل الولايات المتحدة أربع محاولات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمناقشة تطورات العدوان، بذريعة أنّ هذا يجهض المساعي الدبلوماسية الهادئة التي تقوم بها واشنطن عبر قنوات خاصة للوصول إلى تهدئة، ثمَّ إلى وقفٍ لإطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
2. توفير غطاء للعدوان الإسرائيلي على القطاع بذريعة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد الهجمات الصاروخية العشوائية”.
3. إعطاء حكومة نتنياهو “مساحة للمناورة”، عبر منحها وقتًا كافيًا لتشنّ ضرباتٍ قويةً ضد المقاومة الفلسطينية، ثمَّ تقلّص حجم تلك الضربات تدريجًا بذريعة أنها حققت أهدافها من العدوان.
أسباب تغير نبرة الخطاب الأميركي
قامت المقاربة الأولية لإدارة بايدن على أساس ممارسة الضغط على إسرائيل من وراء الكواليس، لتنهي الصراع بسرعة، وتقلل الخسائر في صفوف المدنيين. وأفادت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، بأن الولايات المتحدة أجرت أكثر من 60 اتصالًا دبلوماسيًا رفيع المستوى خلال أسبوعين، منها ستة اتصالات مباشرة بين بايدن ونتنياهو. وساد اعتقاد لدى مسؤولي إدارة بايدن، في الأسبوع الأول للعدوان، مفاده بأنّ أي انتقاداتٍ علنية لإسرائيل ستأتي بنتائج عكسية، خصوصًا أن التقديرات الأميركية كانت تقول إن الجيش الإسرائيلي لن يوقف هجماته، قبل أن يدمر أكبر عدد ممكن مما يصفها أهدافا عسكرية في القطاع، إلا أنّ هذه المقاربة شهدت تغييرًا مع دخول العدوان أسبوعه الثاني، ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:
1. استخلاص التقديرات العسكرية الأميركية أن إسرائيل استنفدت جلَّ الهجمات على المواقع التي حدّدتها في قائمة الأهداف التي أعدّتها.
2. تصاعد أعداد الضحايا بين المدنيين الفلسطينيين، والصور المروّعة التي كانت تنقلها عدسات وسائل الإعلام من قطاع غزة، وكشفت التكلفة الإنسانية الباهظة للعدوان الإسرائيلي، وحجم الدمار الذي ألحقه بالمباني السكنية والبنى المدنية التحتية. وقد أثارت هذه المشاهد غضبًا عالميًا، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها، وفي صفوف الديمقراطيين أيضًا.
3. توصّل إدارة بايدن إلى أنّ الجيش الإسرائيلي عاجز عن حسم المعركة مع المقاومة الفلسطينية، وإيقاف صواريخها وقذائفها في مدى زمني قصير، ومن دون اجتياح بري كبير لا ترغب فيه إسرائيل نفسها نظرًا إلى تكلفته الباهظة عليها. وربما خشيت إدارة بايدن انفجارًا شعبيًا فلسطينيًا أوسع في الضفة الغربية ومدينة القدس وبين فلسطينيي عام 1948.
4. استياء إدارة بايدن من محاولات حكومة نتنياهو توريطها في قصف برج الجلاء، في 15 أيار/ مايو 2021، الذي كان يضم مكاتب وسائل إعلام، مثل وكالة أسوشيتد برس الأميركية وقناة الجزيرة، فضلًا عن 60 شقة ومكاتب لمحامين وأطباء. تسبّب قصف البرج وتدميره في حملة إداناتٍ دوليةٍ لإسرائيل التي زعمت أنه كان يضم معداتٍ إلكترونيةً تابعةً لحركة حماس، وهو ما نفته هذه الأخيرة. وبدلًا من أن تقدّم حكومة نتنياهو أدلةً تثبت مزاعمها، كما طالبتها إدارة بايدن، سارعت إلى الادّعاء أنها قدّمت الأدلة لواشنطن، وهو ما نفاه المسؤولون الأميركيون وأثار غضبهم. وأوضحت وسائل إعلامية أميركية أنّ قصف البرج مثّل نقطة تحوّل في الموقف الأميركي من العدوان الإسرائيلي على غزة.
5. تنامي الاستياء داخل قيادة الحزب الديمقراطي من وتيرة العمليات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك انتقادات ضمنية وجّهتها شخصيات قريبة من إسرائيل، مثل رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، وزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، روبرت مينينديز. كما وقّع أكثر من عشرين عضوًا ديمقراطيًا في مجلس الشيوخ، في 16 أيار/ مايو 2021، بيانًا دعَوا فيه إلى وقف إطلاق النار.
الأهم من ذلك كله تصاعد انتقادات التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي لانحياز إدارة بايدن إلى إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهو ما أنذر بحدوث انقسامٍ في الأغلبية الضئيلة للحزب في مجلسَي النواب والشيوخ، على نحوٍ قد يعطّل أجندة بايدن الأخرى؛ إذ يملك الديمقراطيون أغلبية ستة أصوات فقط في مجلس النواب، في حين يقتسمون مقاعد مجلس الشيوخ مناصفةً مع الحزب الجمهوري (50 – 50). ومنذ عقد ونصف العقد تقريبًا، ثمَّة تحوّل تدريجي يجري في الحزب الديمقراطي تجاه إسرائيل، إذ تريد أغلبيةٌ بين صفوفه الآن موقفًا أكثر اتزانًا وعدلًا بين الطرفين الفلسطيني – والإسرائيلي، ويرون ذلك من زاوية نظر حركة الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية الأميركية. وكشف استطلاع رأي أجري أخيرا أنّ 38.5% من الديمقراطيين يحمّلون إسرائيل مسؤولية التصعيد الأخير، مقابل 15.5% يلومون حركة حماس، علمًا أن 27.4% من الأميركيين عمومًا يحمّلون إسرائيل مسؤولية التصعيد، بينما تنخفض النسبة إلى 12.5% فقط يرى فيها الجمهوريون ذلك.
مع استمرار إدارة بايدن في دعم الموقف الإسرائيلي بذريعة “حقها في الدفاع عن نفسها”، حصل انقسام داخل ممثلي الحزب الديمقراطي في الكونغرس
ومع استمرار إدارة بايدن في دعم الموقف الإسرائيلي بذريعة “حقها في الدفاع عن نفسها”، حصل انقسام داخل ممثلي الحزب الديمقراطي في الكونغرس، بين أغلبيةٍ مؤيدةٍ لإسرائيل، وأقلية، ولكنها مؤثرة ومتزايدة، غاضبة بسبب ذلك. وبعد أن أعلمت إدارة بايدن الكونغرس بنيّتها “بيع” إسرائيل أسلحة وذخائر بقيمة 735 مليون دولار، وهي صفقة اتُّفق عليها بين الطرفين قبل التصعيد الإسرائيلي أخيرا في القدس، ثمَّ العدوان على قطاع غزة، أعلنت النائبة الديمقراطية من نيويورك، إلكساندريا أوكازيو كورتيز، في 9 أيار/ مايو 2021 أنها ستتقدّم بمشروع قانون يمنع الصفقة، المموّلة من المعونات السنوية الأميركية لإسرائيل، والبالغة 3.8 مليارات دولار. وتبعها في اليوم التالي السيناتور بيرني ساندرز الذي قدّم مشروعًا مماثلًا في مجلس الشيوخ. وعلى الرغم من أن محاولات تعطيل هذه المعونة لم تنجح، فإنّ هذا التطور يعدّ غير مسبوق في تاريخ العلاقات الأميركية – الإسرائيلية.
مقاربة جديدة
بدأت واشنطن تصعّد ضغوطها تدريجًا، مع دخول العدوان الإسرائيلي أسبوعه الثاني، وذلك بدءًا بالاتصال الذي جرى بين بايدن ونتنياهو في 17 أيار/ مايو. وعلى الرغم من أن بايدن جدّد “دعمه الثابت لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، فإنّ بيان البيت الأبيض أشار إلى أن واشنطن ترغب في رؤية وقفٍ قريبٍ لإطلاق النار. ولمَّا اتضح أن نتنياهو لم يفهم الرسالة، أجرى بايدن اتصالًا آخر به في 19 أيار/ مايو، كانت فيه لهجة الرئيس الأميركي أشدّ حزمًا. وكان لافتًا أنّ بيان البيت الأبيض حول هذا الاتصال لم يُشر، كما العادة، إلى “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بل ركز على أنّ “الرئيس أبلغ رئيس الوزراء أنه يتوقع اليوم تخفيضًا كبيرًا في التصعيد على طريق وقف إطلاق النار”. وذكرت وسائل إعلام أميركية أنّ بايدن أبلغ نتنياهو أن الديناميكيات السياسية تتغير في الكونغرس ضد إسرائيل، حتى بين حلفائها التقليديين. تبِع ذلك اتصالٌ آخر بين وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ونظيره الإسرائيلي، غابي أشكنازي، أخبره فيه أن الولايات المتحدة تتوقع أن تنهي إسرائيل عملياتها العسكرية قريبًا. وعلى الرغم من أن نتنياهو سارع إلى التأكيد على عزمه مواصلة القتال، فإنه ما لبث، تحت وطأة الضغوط الأميركية، أن قبل بالدخول في محادثات تهدئةٍ مع حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية الأخرى عن طريق الحكومة المصرية التي قامت بدور الوسيط. ومع قبول الطرفين مبدأ وقف إطلاق نار متبادل ومتزامن، بحلول الساعة الثانية من صباح يوم الجمعة، انقسم المسؤولون في البيت الأبيض حول ما إذا كان ينبغي لبايدن أن يعلن عنه مخافة فشله، وفي النهاية انتصر موقف مؤيدي ذلك، وأعلن بايدن الاتفاق بنفسه.
التزمت إدارة بايدن أيضًا بالمساهمة في مساعي إعادة إعمار قطاع غزة، لكن عبر السلطة الفلسطينية
وفي الوقت ذاته، وفيما عدا تواصل إدارة بايدن مع قطر والأردن، فقد كثفت التواصل مع مصر، بعد إهمالها النظام المصري الذي اعتبر مقربًا من دونالد ترامب، ولا يتناسب التعاون الوثيق معه بالصبغة التي يريدها بايدن لإدارته بوصفها داعمة للديمقراطية. ويبدو أنّ إدارته قرّرت التعويل على دور مصر بوصفها بوابة غزة العربية الوحيدة، ولأنها قد تكون شريكًا متحمسًا لاحتواء حركات المقاومة الفلسطينية وحركة حماس عبر إشراكها في العملية السياسية والنظام الفلسطيني، في مقابل تقييد نشاطها المسلح. ولا تقوم الإدارة المصرية بذلك بحثًا عن دورٍ يقرّبها من الإدارة الأميركية الجديدة فحسب، وإنما أيضًا لقناعتها بضرورة احتواء الحركة التي أصبحت بعد الحرب الأخيرة رقمًا في معادلة الصراع.
خاتمة
ساهم موقف واشنطن الصارم مع نتنياهو في وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إلا أنّ هذا لا يعني وجود “تغيير في التزامي بأمن إسرائيل”، بحسب بايدن، الذي أكد أنّ الحزب الديمقراطي “لا يزال يدعم إسرائيل”، وذلك تعليقًا على مطالب الجناح التقدّمي في الحزب بإعادة النظر في أسس التحالف الأميركي – الإسرائيلي. مع ذلك، يتوقع أن تنخرط واشنطن أكثر في مساعي تعزيز وقف إطلاق النار، ومنع استئناف التصعيد بين إسرائيل وفصائل المقاومة في غزة، وهو ما تؤكّده جولة وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الحالية في المنطقة. كما سيتم تعيين مايكل راتني للقيام بأعمال سفير الولايات المتحدة في القدس، حتى يجري اختيار سفير للمنصب الشاغر. ويبدو أنّ واشنطن تستعد أيضًا لإعادة فتح القنصلية الأميركية في شرقي القدس، والتي كانت قناة التواصل مع الفلسطينيين قبل أن تغلقها إدارة ترامب. وقد التزمت إدارة بايدن أيضًا بالمساهمة في مساعي إعادة إعمار قطاع غزة، لكن عبر السلطة الفلسطينية، وليس عبر حركة حماس التي قالت واشنطن إنها لن تسمح لها بالاستفادة من المساعدات الإنسانية وجهود الإعمار “لتعيد بناء ترسانتها العسكرية”. وتطالب إدارة بايدن أيضًا إسرائيل بتحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في القدس المحتلة وحاملي الجنسية الإسرائيلية ومعاملتهم على قدم المساواة مع اليهود. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أبدت تحفّظها على الترحيل القسري لسكان حي الشيخ جرّاح، فإنه من المستبعد أن تجعل من ذلك سببًا للتوتر مع إسرائيل. ولكن خطاب الحقوق المدنية أصبح، على أي حال، يستخدم في خطاب الرئيس الأميركي نفسه حول قضايا إسرائيل الداخلية، كما في حالة المواطنين العرب في إسرائيل.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات