تجددت، في سياق النجاحات الانتخابية المتتالية لأحزاب اليمين المتطرف في بلدان الاتحاد الأوروبي، نقاشات الأوروبيين حول كلفة اندماجهم القاري في مرحلته الاتحادية الراهنة وحدود «مبدأ التضامن» الناظم للعلاقة بين أغنياء القارة في الشمال والغرب من مقدمي المساعدات المالية والاقتصادية وفقرائها الذين يتلقون المساعدات في الجنوب والوسط والشرق.
أوروبيا، مثل تفعيل مبدأ التضامن الأساس الأخلاقي والسياسي لمصداقية وعد الاندماج القاري وقدرته على تحقيق السلام والرخاء الاقتصادي لكل بلدانها. خلال العقود الماضية، تمايزت نقاشات الأوروبيين واختلفت من بلد إلى آخر وفقا لعوامل كموقع المجتمع المعني على سلم الغنى والفقر الأوروبي. فتذمر عادة أغنياء الشمال والغرب من أعباء الاتحاد المالية، بينما عبر أوروبيو الجنوب والوسط والشرق عن شهية غير محدودة لتلقي المساعدات الاقتصادية والمالية والنظر إليها كحق طبيعي يشرعنه مجرد الانتماء الجغرافي لأوروبا.
غير أن الأمر اللافت للنظر اليوم، وكما يستدل من اتجاهات الرأي العام في معظم المجتمعات الأوروبية، هو ذيوع نظرة بالغة السلبية لأوروبا تحوي الكثير من التشكيك الجوهري في جدوى الاتحاد ومستقبل مسارات الاندماج القاري. وبات أغنياء وفقراء القارة الأوروبية يلتقون على تلك النظرة السلبية، والتي صارت تجتذب إلى خاناتها أيضا قطاعات سياسية واسعة يمينا ويسارا. ولا شك في أن التحول الراهن في اتجاهات الرأي العام الألماني تجاه الاتحاد الأوروبي كما توثقها استطلاعات الرأي العام الراهنة يقدم إشارات بالغة الوضوح بشأن تراجع الفكرة الأوروبية.
فعلى مستويات مجتمعية وحكومية متعددة، استقرت في ألمانيا لفترة طويلة نظرة إيجابية لأوروبا رأت بمسار الاندماج القاري في لحظات البداية (خمسينيات القرن العشرين) ضمانة وحيدة لإعادة ألمانيا في شطرها الغربي إلى أوروبا والتجاوز التدرجي لهمجية النازي باتجاه بناء علاقات سلام وتعاون مع الجوار، وصاغت في مرحلة ثانية (سبعينيات القرن العشرين) رابطة سببية مباشرة بين الاندماج والحفاظ على الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الألماني. ثم تطورت بعد وحدة الألمانيتين (تسعينيات القرن العشرين) لتجمع بين رابطة الاندماج-الرخاء وبين قراءة للفكرة الأوروبية والتزام ألمانيا بها كأداة لتهدئة مخاوف الجوار من صعود ألمانيا الموحدة بقوتها الاقتصادية المستمرة ووزنها الجيو إستراتيجي الجديد وكمدخل لاستكمال التوحد القاري بدمج مجتمعات وسط وشرق أوروبا القريبة تاريخيا وثقافيا من المجتمع الألماني.
واتسمت الحياة السياسية الألمانية في المقارنة القارية، وباستثناء تيارات اليمين المتطرف التي كانت محدودة الأهمية على صخبها وفصائل اليسار المتطرف التي رفضت الانخراط في السياسة وتورط بعضها في ممارسات عنف، بالتزام الأحزاب الكبيرة بعدم المزايدة على الفكرة الأوروبية وتبني خطاب عقلاني علني يشرح للمواطنين المزايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكثيرة للاندماج القاري ويعول عليها لتبرير الكلفة المادية التي تتحملها ألمانيا كالممول الأول للمؤسسات الأوروبية والمدافع الأول عن تفعيل مبدأ التضامن مع المجتمعات الأوروبية محدودة النمو والقدرة الاقتصادية بدعمها ماليا، في سبعينيات القرن العشرين اليونان وأسبانيا والبرتغال ثم منذ التسعينيات بلدان وسط وشرق أوروبا.
فمنذ خمسينيات القرن العشرين تناوب الحزبان الكبيران، المسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي، على شغل مقاعد الحكم والمعارضة وامتنعا بمسؤولية سياسية وبغض النظر عن حسابات المنافسات الانتخابية المتكررة بينهما وبمعزل عن صخب اليمين واليسار المتطرف، عن التعامل الشعبوي مع كلفة الاندماج القاري. وسمح ذلك بصعود الفكرة الأوروبية لتصبح عنوان التزام أخلاقي وإستراتيجي للمجتمع والدولة في ألمانيا لا يقبل التراجع والتشكيك.
أطل منذ الأزمة اليونانية في 2008 شبح الشعبوية المشككة من بين ثنايا سياسات ومواقف وخطابات الأحزاب السياسية الرئيسية بشأن الاندماج القاري ومجمل الفكرة الأوروبية
وترجمت اتجاهات الرأي العام، خاصة بين السبعينيات ومنتصف التسعينيات، عقلانية ومسؤولية النخبة السياسية الألمانية إلى تأييد مستمر من جانب أغلبية واضحة ومستقرة بين المواطنين الألمان للاندماج القاري، وإلى ذيوع نظرة إيجابية لأوروبا وللهوية الأوروبية كسياق جمعي جديد تعاطت معه أغلبية الألمان بقبول بل وبإقبال بين.
إلا أن أحداث العقد الأول من الألفية الجديدة، وهي دفعت إلى الواجهة الأوروبية بأزمات اقتصادية ومالية عصفت ببلدان كاليونان والبرتغال وإسبانيا وأيرلندا وهددت استقرار العملة الأوروبية الموحدة، أسفرت عن تغيير جذري في اتجاهات الرأي العام الألماني بشأن أوروبا بحيث لم يعد بها من إيجابيتها السابقة سوى القليل.
وأطل منذ الأزمة اليونانية في 2008 شبح الشعبوية المشككة من بين ثنايا سياسات ومواقف وخطابات الأحزاب السياسية الرئيسية بشأن الاندماج القاري ومجمل الفكرة الأوروبية. ثم تصاعدت الشعبوية الألمانية المشككة في أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية على وقع النجاحات الانتخابية والسياسية المتتالية لليمين المتطرف (على مستوى الولايات أولا ومنه إلى المستوى الفيدرالي) وتوظيف اليمين المتطرف لخليط من الأفكار العنصرية والقومية الألمانية للترويج لنظرة سلبية بشأن الاتحاد الأوروبي.
وتواكب ذلك مع انتشار «التشكيك في أوروبا» قاريا، من الخروج البريطاني من الاتحاد إلى وصول سياسيين شعبويين إلى المواقع التنفيذية الأولى في بعض بلدان وسط وشرق أوروبا.
فوفقا لقياسات واستطلاعات الرأي العام الراهنة التي تجريها صحف ومراكز بحثية ألمانية قبيل الانتخابات البرلمانية المقررة لسبتمبر/أيلول 2021 والتي ستشهد رحيل المستشارة أنجيلا ميركل عن رئاسة الحكومة، يشعر ثلثا المواطنين بأن كلفة وسلبيات الإندماج القاري باتت تطغى على عوائده الإيجابية وأن الحكومة الألمانية قد تنازلت عن الكثير من سلطاتها لمؤسسات أوروبية بيروقراطية وفاسدة على نحو أضحى يهدد رخاء ومصالح المجتمع الألماني. وفي حين يسجل أيضا ثلثا المواطنين رفضهم استمرار ألمانيا في تقديم مساعدات اقتصادية ومالية «سخية» لبلدان كاليونان ويرادفوا بين إجراءات كهذه وبين الاتهام باللامسؤولية السياسية والتعامل باستهتار مع أموال دافعي الضرائب الألمان، يتراجع التأييد الشعبي للعملة الموحدة اليورو إلى أدنى مستوياته ليسجل معدلات حول حد الخمسين بالمئة فقط. وبذلك، تنقلب النظرة السلبية للاتحاد الأوروبي من معبرة عن قناعات أقلية صغيرة إلى موقف أغلبية تبلغ نسبتها في بعض الاستطلاعات 55 بالمئة.
حكوميا أيضا، وجدت الشعبوية المشككة في أوروبا طريقها إلى المواقف والخطابات الرسمية. خلال السنوات الماضية، تواتر حديث رسميين ألمان عن ألمانيا لن تقبل أن يتحول اقتصادها إلى «الممول الأول» لإخفاقات شعوب أوروبية غير منتجة ولا أن يصبح دافعو الضرائب من المواطنين الألمان «ضحايا» للسياسات الاقتصادية والمالية لبعض الحكومات الأوروبية. بل وروج بعض السياسيين النافذين في الأحزاب السياسية الرئيسية، خاصة الحزب المسيحي الديمقراطي وشقيقه الجنوبي الحزب المسيحى الاجتماعي والحزبان يصارعان اليوم للحفاظ على صدارتهم البرلمانية في الانتخابات القادمة، لقراءة شعبوية وقومية تعلن عن تخوفها على مصير «مدخرات الألمان وإنتاجية وحيوية اقتصادهم العالية» إزاء سيطرة البيروقراطية الأوروبية وتورطها في إعادة توزيع حصاد الاقتصاد الألماني على أوروبيين «كسالى» لا يستحقون.
وفي أجواء سياسية كهذه، ليس بغريب أن يسجل اليمين المتطرف ممثلا بحزب البديل لألمانيا نسب تأييد تتجاوز 10 بالمائة في الاستطلاعات الراهنة. فحزب البديل لألمانيا يدير حملته الانتخابية مشككا في أوروبا ومروجا لوهم «ألمانيا الضحية» وناشرا لكراهية الأجانب ولمقولات عنصرية وقومية فجة.
لا يبتعد بقية الأوروبيين كثيرا عن التحول السلبي الطارئ على اتجاهات الرأي العام الألماني، ولا تختلف أحزابهم عن الأحزاب الألمانية في ترددها الراهن حيال الفكرة الأوروبية وتمثلها لشيء من الشعبوية في التعامل مع سياسات الاندماج القاري. وأيا ما كان الأمر، سيظل الاختبار القاسي الذي يتعرض له الاتحاد الأوروبي على وقع التقلبات السياسية والاقتصادية والمالية في بلدان القارة قائما لفترة طويلة قادمة.
عمرو حمزاوي
القدس العربي