تكشفت خلال الأيام القليلة الماضية فصول جديدة من مسلسل التجسس الأمريكي على بعض الزعماء الأوروبيين، والتي كان إدوارد سنودن المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية قد فضح خيوطها الأولى منذ العام 2013، حيث اتضح حينذاك أن الحكومة الأمريكية لا تتجسس على هواتف ورسائل الآلاف من مواطنيها فقط، بل تتنصت على زعماء وساسة أوروبيين حلفاء أو أعضاء في الحلف الأطلسي.
وليس جديداً أن تستخدم أجهزة الاستخبارات الأمريكية تعاقدات ذات صفة «فنية» من حيث الشكل، مع دول صديقة أو حليفة على غرار «اتفاقية الكابل» الموقعة مع الدانمرك، أو مع شركة التشفير السويسرية «كريبتو إي جي» للتجسس على نطاق عالمي يضع الخصوم والحلفاء في سلة واحدة. وهذا لا يعني أن الحلفاء ضحايا التجسس لا ينتهجون الممارسة ذاتها، سواء عن طريق الاتفاق المباشر مع أجهزة الاستخبارات الوطنية هنا وهناك، أو الالتفاف عليها بطرائق سرية بات التطور الهائل في التكنولوجيا المعلوماتية يتيح توفرها بوتائر عالية غير مسبوقة.
ولعل الدلالة الأولى وراء انكشاف هذه الوقائع هي درجة النفوذ العالية التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية في العلاقة مع القيادات المدنية، أو في مستوى الفصل بين القيمة التجسسية للمعلومات والقيمة السياسية أو الأمنية للعلاقة مع الحلفاء. صحيح من حيث المنطق أن قرار الشراكة الأمريكية ـ الدانمركية في التجسس على المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، أو الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، لم يكن سيًتخذ بمعزل عن موافقة الجهات العليا المسؤولة في الحكومتين، إلا أن منح الإذن في حد ذاته مؤشر كبير على سطوة الأجهزة العليا وما تتمتع به من يد عليا في هذا المضمار.
دلالة ثانية تخص زيف الكثير من الادعاءات حول حقوق الإنسان وقدسية الحياة الشخصية، ليس على مستوى خارجي وفي نطاق الدول والأنظمة الاستبدادية بوجه خاص، أو الدول الصديقة والتي لا غبار من حيث المظهر على التزامها بالحريات العامة والدستورية، ولكن أيضاً على مستويات داخلية لعل مثالها الأوضح الصارخ ما شهدته الولايات المتحدة ذاتها بعد 9/11/2001 وبصرف النظر عن الهوية الجمهورية أو الديمقراطية لشاغل البيت الأبيض. ورغم أن ظواهر كهذه لا تمس في العمق جوهر الحقوق التي يتمتع بها المواطن في ظل الأنظمة الديمقراطية الغربية، فإن السلطات الخاصة التي تتمتع بها أجهزة الاستخبارات تنتقص من حرية المواطن بواسطة وضعها تحت مجهر الرقابة الدائمة.
وإذا كان أقصى ما صدر عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في التعليق على انكشاف الفصول الأخيرة من أعمال التجسس هو التصريح بأن الأمر «غير مقبول بين حلفاء، وغير مقبول أيضا بين حلفاء وشركاء أوروبيين» واتفقت معه المستشارة الألمانية في هذا، فإن الاتحاد الأوروبي اعتبر أنه غير معني بالتعليق لأن مسائل الأمن القومي والاستخبارات الوطنية سيادية تخص الدول الأعضاء. هنا دلالة ثالثة، من حيث أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يصول ويجول في شؤون السياسات والاقتصاد ولقاحات كوفيد ـ 19، ولكنه لا يخوض البتة في تجسس بلد أوروبي على آخر، ضمن شراكة عابرة للمحيط.
فإذا تجسس الحليف على الحليف القريب، فما الذي يتبقى للخصم اللدود؟
القدس العربي