يتجه العراق لتشييد عاصمة إدارية جديدة له بعد أن توصلت السلطات العراقية إلى قناعة تامة بضرورة الإسراع في هذه الخطوة لتلافي التوسع السكاني الهائل داخل العاصمة بشكل مجموعات كبيرة من العشوائيات تهدد بانهيار قطاع الخدمات خلال سنوات قليلة.
وكانت بداية المشروع عبر دراسة شاملة تقدمت بها وزارة التخطيط العراقية في سبتمبر (أيلول) عام 2018 تقترح إنشاء مدينة إدارية جديدة للبلاد تنتقل إليها جميع مؤسسات الدولة ومقارها بهدف تخفيف الضغط عن العاصمة التي تراجعت الخدمات فيها إلى مستويات خطيرة، وأصبحت التجاوزات فيها، سواء سكنية أو تجارية، هي البديل عن واجهتها الحضارية المعروفة بها تاريخياً.
اسم نهر قديم
وكسرت الحكومة العراقية الجمود الذي أصاب موضوع تشييد عاصمة إدارية جديدة للبلاد، ونقلته من مجرد تصريحات إعلامية عبرت عنها الحكومات المتعاقبة، إلى واقع جديد تمخض عنه اختيار الأطراف الغربية للعاصمة بغداد، وأطلقت عليها اسم “الرفيل”، وهو اسم قديم لنهر في بغداد تعتقد المصادر التاريخية على أنه يعود لشخص فارسي أسلم على يد القائد المسلم سعد بن أبي وقاص، إلا أن اسمه قد غلب عليه اسم نهر “عيسى” في العهد العباسي نسبة إلى عم المنصور عيسى بن علي بن عبدالله بن العباس.
106 آلاف دونم
ووافق مجلس الوزراء العراقي في 16 يونيو (حزيران) 2021 على إنشاء مدينة “الرفيل” ضمن المساحة الكلية للمنطقة المحيطة بمطار بغداد الدولي، والبالغة 106 آلاف دونم، وطرحها كفرص استثمارية، على أن يتم تعويض الجهات المالكة للأراضي بأراضٍ أخرى ملائمة بما يمكّنها من تنفيذ متطلباتها من وزارة المالية.
وقالت رئيسة الهيئة العامة للاستثمار، سهى النجار، في بيان، إن المشروع سينفذ على أربع مراحل، تتضمن المرحلة الأولى إنشاء مجمعات سكنية تعليمية وطبية وتجارية وخدمية وترفيهية، وعرضها كفرص استثمارية، مشيرة إلى إعداد مخططات تفصيلية لكل فرصة تتضمن نوع وطبيعة المشروع ومساحته واستخداماته مع مراعاة توفير خدمات البنى التحتية والمحددات البيئية وفق تصاميم ومعايير الجهات القطاعية المختصة.
وتوقعت النجار أن يُلبّي المشروع حاجة نحو مليون نسمة من الوحدات السكنية وتوفير أكثر من 100 ألف فرصة عمل، لافتة إلى أن “الهيئة وضعت ضوابط صارمة لتشغيل العمالة الأجنبية في المشروع و حصرها بالعمالة المتخصصة فقط وبشكل يمنع المنافسة مع الأيادي العاملة المحلية”.
تشكيك سني
ويبدو أن اختيار الحكومة العراقية لمناطق غرب العاصمة ومحيط مطار بغداد الدولي لإنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، جوبه بحملة تشكيك ورفض من قبل كتل وشخصيات سنية وجدوا فيها محاولة لتغيير ديموغرافية هذه المناطق الزراعية التي تسكنها غالبية من العرب السُنة.
واعتبر “تحالف العزم” بزعامة خميس الخنجر قرار الحكومة العراقية بتشييد العاصمة الإدارية ضمن محيط مطار بغداد الدولي بأنه يحمل بُعداً طائفياً، ويهدف إلى تغيير ديموغرافي.
وذكر “تحالف العزم” في بيان له أنه يعترض على هذا المشروع لكونه سيُجرّد عشرات الأسر من أراضيها، ويود أن يظهر جميع قوانين السلامة الخاصة بمنظمات الطيران العالمية تجبر الدول على إبعاد المواقع السكنية والتجارية من محيط المطار.
ودعا الحكومة إلى إعادة النظر بقرارها والبحث عن بدائل أخرى لإقامة مدينة إدارية خارج العاصمة بغداد.
وحاولت الحكومة العراقية السابقة برئاسة عادل عبد المهدي في عام 2019 إعطاء سلسة من رخص الاستثمار لإنشاء مدن سكنية ومناطق تجارية وفنادق وملاعب رياضية لتشييدها في المناطق المحيطة بمطار بغداد الدولي، إلا أنها جُوبهت برفض من كتل سياسية سنية في حينها أجبرتها على تعليق العمل بالمشروع واختصاره على البدء بإنشاء المجمعات السكنية المحيطة بمطار بغداد الدولي.
اقرأ المزيد
العراق ينوي استحداث عاصمة إدارية على أطراف بغداد
كارثة “ابن الخطيب” تعيد فتح ملف “المستشفيات المتلكئة” في بغداد
سيضر سكان المنطقة
من جانبه، يطالب رئيس مجلس النواب الأسبق محمود المشهداني الحكومة العراقية بالتراجع عن قرارها بإقامة مشروع “الرفيل” في “حزام بغداد” (تسمية تطلق على المناطق الواقعة في محيط العاصمة) كونه سيؤدي إلى الإضرار بسكان المنطقة.
ويضيف المشهداني في تصريحات صحفية، أن “المشروع سيؤدي إلى الإضرار بمصالح الناس وتاريخهم والمناطق التي يسكنونها”، معرباً عن تساؤله من الفائدة من إقامة المدينة على أنقاض أهلها ودمار مناطقهم وتاريخهم، لا سيما أنه غير مستكمل للشروط الصحيحة.
ويرى المشهداني أن هناك مساحات واسعة ممكن إقامة مشاريع عليها بدل إقامتها على هذه الأراضي.
ورفض المشهداني محاولات أخرى لتهجير أهالي منطقة البكرية التي طُلب من أهاليها مغادرتهم لغرض توزيعها على أشخاص آخرين، معتبراً هذه القرارات “تفتقد المسؤولية، وستؤدي إلى زعزعة الأمن في محيط بغداد، وهذا أمر مرفوض تماماً”.
وكانت المحاكم العراقية قد أصدرت خلال الأسابيع الماضية قراراً بترحيل نحو 450 أسرة لديها عقود زراعية منتهية منذ سنوات من منطقة البكرية غرب بغداد وتسليم الأرض إلى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي لبناء مجمع سكني لعناصره، ما أثار ردود فعل رافضة من قبل عدد من النواب والشخصيات السنية، وصفت ما يجري بالتغيير الديموغرافي، فيما رفع جهاز مكافحة الإرهاب سلسلة من الدعاوى القضائية على هذه الشخصيات واتهمها بالتشهير به إعلامياً.
التخلص من الفوضى
ويرى محللون اقتصاديون أن إنشاء العاصمة الإدارية سيخلص بغداد من الفوضى الحاصلة فيها حالياً نتيجة هجرة الملايين لها بعد عام 2003 من محافظات مختلفة وبروز نحو 1000 مجمع عشوائي داخل العاصمة يعيش فيه أكثر من ثلاثة ملايين شخص.
وباتت العشوائيات التي يعيش فيها أكثر من 3 ملايين عراقي في العاصمة مشكلة مستعصية خلقتها جهات سياسية ودينية استفادت منها في الانتخابات المحلية والبرلمانية، لكنها ارتدت عليها قبل عام، عندما شارك الكثير من أبنائها في تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) للتعبير عن سخطهم من الحياة التي يعيشونها وسط فقدان كامل للخدمات وابتزاز متواصل من الجماعات المسلحة التابعة لجهات معروفة بحجة حمايتهم من أي تحرك حكومي لوقف هذه التجاوزات وإجبارهم على ترك مناطق التجاوز.
وعلى الرغم من حديث الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط نظام صدام حسين عن إيجاد حلول لها، فإن ما حصل على أرض الواقع هو انتشارها، ومن دون توقف لتشمل مساحات واسعة من محيط أهم المدن العراقية لتحولها إلى قرى كبيرة غير صالحة للسكن تختفي معها كثير من مظاهر الحضارة العالمية.
يشدد المتخصص الاقتصادي باسم جميل أنطوان على ضرورة التوسع بإنشاء المدن السكنية لاستيعاب النمو السكاني، فيما يشير إلى أن بناء مدينة سكنية وإلى جانبها مدينة إدارية سيسهل حركة المواطنين، لافتاً إلى أن اختيار أراضي تلك المدن يجب أن يكون وفق دراسات معدّة من قبل متخصصين.
ويضيف أنطوان، أن “هناك نمواً سكانياً بمعدل مليون نسمة سنوياً، وأن ما يتم بناؤه لا يتعدى 25 في المئة من الحاجة الفعلية، ولذلك تحتاج إلى مشاريع عملاقة كبيرة بمعدل من 200 إلى 300 ألف وحدة سكنية سنوياً، وبتكلفة متواضعة وبسرعة إنجاز استثنائية”.
ويشير إلى أن الشركات العراقية ليس لديها هذه الإمكانات، ولا بد من شركات أجنبية للتعاقد معها لإنجاز مدن كبيرة، ولعل “الرفيل” واحد من هذه المشاريع، لا سيما مع وجود توجه لانتقال دوائر الدولة الخدمية إلى هذا المجمع.
وتابع أن “البنى التحتية لمدينة بغداد تهالكت، وأن الازدحام كبير جداً، ما يستغرق وقتاً طويلاً في إنجاز المعاملات اليومية، فضلاً عن أن العاصمة تستوعب وفق تصميمها من أربعة إلى ستة ملايين نسمة، لكن عدد سكانها الحالي هو تسعة ملايين، بالإضافة مليونين مركبة تسير في شوارعها، ما يتطلب تحويل دوائر الدولة وبناء مساكن جديدة حول بغداد”.
ويعتبر أن التوجه الحكومي لإنشاء هذه المدينة المتكاملة سليم، مشدداً على ضرورة أن تستقطب هيئة الاستثمار أعداداً كبيرة من المستثمرين الذين يباشرون بالمشروع وينجزونه ولا يتركونه إلى النصف كما جرى في مشاريع أخرى.
ويرى أن كل مدن العالم تبني مدناً إدارية وسكنية لراحة المواطن والقطاع الخاص يؤدي هذا الدور.
موقع استراتيجي
وعن الاعتراضات عن مكان إنشاء المدينة، بيّن أنطوان، أن الموقع الذي تم اختياره يؤدي إلى خطوط دولية، فهناك طريق المطار، والطريق السريع المؤدي إلى سوريا والأردن، مبيناً أن الحكومة العراقية مجبرة على اختيار أراضٍ زراعية لكون أغلب المناطق المحيطة ببغداد زراعية.
لا وجود لثغرة أمنية
ويستبعد رئيس مركز الجمهوري للدراسات الاستراتيجية، معتز عبدالحميد، حدوث ثغرة أمنية بعد بناء المدينة تؤثر على أمن العاصمة ومطار بغداد، مؤكداً أن المدينة ستتوفر بها جميع مستلزمات الأمن، وستعزز بقوات أمنية ومراكز شرطة وأبراج مراقبة.
ويضيف عبدالحميد أن “إنشاء المدينة الإدارية والسكنية سيتم تعزيزها بالمستلزمات الأمنية من مراكز الشرطة وأبراج حماية وأسلاك شائكة إضافة إلى النظم الأمنية المتطورة لحماية المجمعات السكنية والمنشأة الحكومية مثل الكاميرات الحرارية وغرف السيطرة التي تراقب تلك الأماكن”.
ويشير إلى أن الفكرة بإنشاء التغير السكاني في تلك المنطقة كانت فكرة موجودة، إلا أن ما يمنع من البناء في تلك المنطقة هو وجود البيوت الرئاسية قرب المطار، مؤكداً أن الظرف الحالي مُهيّأ لإنشاء مثل هذه المشاريع الاستثمارية، لا سيما أن السكان أكثرهم من المزارعين ولا يملكون سوى سند زراعي لفترة زمنية محدودة.
ويرجح عبدالحميد أن يتم نقل مطار بغداد بعد إنشاء هذا المجمع إلى مكان آخر، وأن يحول المطار إلى مطار داخلي من أجل إحداث مزيد من التطوير للمنطقة.