رجل دين محافظ ومتشدد.. قاض ورئيس للسلطة القضائية، لكنه متهم بالتورط في إعدامات ليساريين.. هو يمثل خط قائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، الذي قتل بداية العام المنصرم بضربة جوية أمريكية في مطار بغداد. هذا هو الرئيس الإيراني الجديد الذي فاز بأغلبية 62% من الأصوات، بعد أن تم تمهيد الطريق له للوصول إلى المنصب، باستبعاد ما تسمى الوجوه الإصلاحية والمعتدلة البارزة من السباق الانتخابي، من قبل مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي يسيطر عليه التيار المحافظ والمتشدد.
السؤال لماذا كان فوز الرجل متوقعا؟
منذ أن أعلن مجلس صيانة الدستور عن إقصاء عدد من الوجوه الإصلاحية والمعتدلة عن الترشح للانتخابات الرئاسية، بدا واضحا أن هنالك فكرة في رأس المرشد الأعلى، بجعل المشهد السياسي الإيراني من طيف سياسي محدد وواحد. فالرجل اعتقد أن استمرار الإدارة المزدوجة للبلاد من قبل المحافظين والإصلاحيين، هي التي قادت إلى الخلافات الداخلية بين أطراف السلطة، والتي يمكن أن تعصف بالنظام، وتزيد من حالة الاحتقان الشعبي، لذلك كان قراره صارماً بإبعاد التيار الإصلاحي للحفاظ على النظام، ظنا منه أن الحصيلة الإيجابية ستكون أكبر، على اعتبار أن مؤسسات الحكم ستشهد حالة من التناغم والانسجام، وبالتالي سينعكس ذلك إيجابيا على القضايا الداخلية، والملفات الخارجية، لكن تاريخ النظام لا يشير إلى نجاح نهج الطيف السياسي الواحد، فلو نظرنا إلى فترة حكم الرئيس الأسبق أحمدي نجاد، نجد أن سيطرة الطيف السياسي المتشدد الواحد لم تحل مشاكل إيران، فقد شهدت تلك المرحلة عقوبات دولية، وأزمات داخلية وخارجية لم تجد حلا لها آنذاك، كما كانت فترة حكم الرئيس الأسبق محمد خاتمي أيضا فترة حكم الطيف السياسي الإصلاحي الواحد، ومع ذلك لم تحصل حلول لمشاكل إيران، بل شهدنا تباينات بين الطيف الواحد نفسه في قضايا عديدة. وهذا يشير وبشكل واضح إلى أن أزمة النظام الإيراني هي أزمة بنيوية، بسبب السياسات الكارثية الخارجية والمحكومة بتصدير الثورة، التي انعكست على الداخل بصيغة أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية مستدامة.
يعتقد صانع القرار الإيراني أن فتح باب الترشيح أمام الجميع، يجلب الفوضى السياسية، ويشكل خطراً على مستقبل النظام القائم
إن من أولى الملاحظات التي يجب التأكيد عليها في الحالة الإيرانية، هي أن أي رئيس يأتي في إيران، إصلاحيا أو محافظا، متشددا أو محافظا معتدلا، لا بد أن يكون الابن الشرعي للمجمع العميق للنظام، وشاء أم أبى فإن وصايا وتعليمات وتوجيهات وأوامر المرشد الأعلى هي منهجه في الحكم، لأن الأخير فوق كل السلطات. أما ما يحصل من ذهاب إصلاحي وقدوم متشدد ما هو إلا توزيع أدوار. لكن توزيع الأدوار هذا لا يعني دائما أن هنالك اتفاقا بين التيارات التي يتشكل منها النظام السياسي، فقد وجدنا في السياسة الإيرانية نفوذاً للإصلاحيين في مفاوضات حكومة روحاني مع الغرب، بهدف التوصل إلى اتفاق ورفع العقوبات، لكن اتضح أن هنالك نفوذاً آخر مثله قاسم سليماني وتياره المدعوم من المرشد، أكبر من دور الحكومة، أفصح عنه وزير الخارجية محمد جواد ظريف في التسريب الصوتي لحديثه الذي أثار ضجة، لكن المحصلة تقول إن التغيرات الحاصلة في قمة السلطة التنفيذية سيان، لأن القرار الفعلي بيد المرشد الأعلى، الذي هو موجود في كل المشهد الإيراني، والذي ملّ الكثير من الشعب الإيراني من سياساته، التي يعتقدون أنها أنتجت كوارث اجتماعية واقتصادية كبرى، وقد كانت واضحة جدا حالة الامتعاض هذه في الشعارات التي تم رفعها بالاحتجاجات الشعبية قبل سنتين «يسقط حكم الديكتاتور». ومع ذلك ما زال المرشد يصر على هذا النمط من الانتخابات، حيث هو من يختار المرشحين في ما تكون صناديق الاقتراع في عهدة الحرس الثوري الإيراني والباسيج، وإذا كان هو يقول (يوم الانتخابات هو يوم الأمة الإيرانية، وستحقق البلاد مكاسب عظيمة على الساحة الدولية بالمشاركة الكبيرة، لكن أول المستفيدين هم الناخبون أنفسهم)، فعلام هو الذي يختار المرشحين لهم ويمنع غيرهم؟ ألا يعني هذا أن هنالك حالة من فرض الإرادة بعباءة الدين على الناس؟
هنالك اعتقاد لدى صانع القرار الإيراني بأن فتح باب الترشيح أمام الجميع، يجلب الفوضى السياسية، وهذا سيشكل خطراً كبيراً على مستقبل النظام القائم، لذلك أنشأوا ممرا يتحكم فيه تحالف المرشد الأعلى والحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور، لن يستطيع المرور من خلاله أي مرشح للانتخابات، إلا من يحصل على تزكية هذا الحلف، لذلك نجد المفارقة الكبرى، أنهم يوافقون على ترشيح، على سبيل المثال، محسن رضائي للمرة الرابعة، على الرغم من أن الرجل في كل مرة لا يحصل إلا على بضعة أصوات، حتى أقل من الأصوات المهملة، السبب في ذلك أنه حاصل على تزكية من يتحكم بالانتخابات، كما وافقوا على ترشيح رئيس المصرف المركزي الإيراني، كي يكون فقط حشوة دافعة لإبراهيم رئيسي، على الرغم من أنه ممقوت من قبل الشعب الإيراني، ويتهمونه بأنه المسؤول عن الأزمات الاقتصادية والتضخم، وغلاء المعيشة، بسبب ارتفاع صرف الدولار أمام العملة المحلية. إن إقصاء الإصلاحيين والمعتدلين عن كل مؤسسات الدولة وفق المشهد الحالي، الذي تشكل بعد فوز إبراهيم رئيسي، لا بد أن تكون له انعكاسات على كل المشهد الإيراني، وقد يضع هذا الواقع النظام على طريق الصدام مع القوى الشعبية، التي راهنت على أطراف أخرى من غير المتشددين. وقد كان رد الفعل الشعبي على هذا الإقصاء السياسي هو الانخفاض الملحوظ في نسبة المشاركة في التصويت، ففي انتخابات عام 2012 كان المعدل العام في نسبة المشاركة قد بلغ حوالي 60% إلى 65%، بينما في الأخيرة بلغ حوالي 48% إلى 49%. وفي هذا تعبير عن إحباط واضح من فرض مشهد سياسي بهذه الصورة. حتى الرئيس السابق أحمدي نجاد قال صراحة، إن المشهد مرسوم كي يكون بهذا الشكل وبهذه الأبعاد لا أكثر ولا أقل.
ما يخيف الكثير من الإيرانيين، هو أن ينتج احتكار المتشددين في السيطرة على مؤسسات الدولة، إلى حالة من التوجهات المتشددة في مسائل الحريات العامة والموقف من المرأة والتظاهر وغيرها، بينما لم يكن المشهد مفاجئاً للكثير من دول العالم، لأنها تعرف تماما أن من يمسك به ويرسم ملامحه هو التحالف بين المؤسسة الدينية والقوات المسلحة، وأي رئيس ليس أكثر من جهة تنفيذية تدير السياسات المرسومة سلفا. السؤال الأهم هو ما هي الانعكاسات المحتملة لهذا الفوز على الملفات الإقليمية؟ ستكون هنالك محاولة للفهم في مقال آخر.
القدس العربي