أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، في 4 يوليو الجاري (2021)، عن نجاح قوة “برخان”-التي أسستها فرنسا وحلفائها من دول منطقة الساحل والصحراء- في قتل عدد من قيادات تتظيم “داعش” من بينهم عبد الحكيم الصحراوي، واعتقال آخرين، في الأسابيع الأخيرة. ومن دون شك، فإن ذلك يمثل ضربة قوية للتنظيم الإرهابي الذي تعرض لهزائم لا تبدو هينة في الأعوام الأخيرة، إلا أنه في الوقت نفسه يلقي الضوء على مساعيه لتكوين بؤر نفوذ جديدة في مناطق بعيدة عن تلك التي تأسس فيها وسيطر على أنحاء واسعة منها، لاسيما في القارتين الأفريقية والآسيوية، على نحو يمكن الحديث معه عن محاولات للتنظيم لتأسيس ما يمكن تسميته بـ”أهِلَّة” جديدة.
ارتدادات مباشرة
مع انهيار استراتيجية التمكين التي تبناها تنظيم “داعش” في أعقاب سقوط ما يسمى “الخلافة الداعشية” في الموصل في سبتمبر 2017، والباغوز في مارس 2019، بدأ التنظيم الإرهابي في وضع استراتيجية بديلة أطلق عليها استراتيجية “فترات عدم التمكين”، والتي تنطلق من التعطيل المؤقت لما يسمى بـ”الخلافة” و”التمكين”، والتركيز على مفهوم “حتمية الصدام”، عبر اتباع ثلاثة تكتيكات رئيسية: الأول، تكثيف معدل العمليات الإرهابية في مجمل أفرع التنظيم مع اختيار أهداف ومناطق جديدة للقيام بتلك العمليات الإرهابية.
والثاني، الظهور المتكرر للمتحدث الرسمي لتنظيم “داعش” المهاجر أبو حمزة القرشي، حيث بث خمس رسائل منذ توليه المنصب في أعقاب مقتل زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي والمتحدث الرسمي السابق أبو حسن المهاجر في أكتوبر 2019، بهدف ترويج مزاعم بشأن تماسك التنظيم من ناحية وحشد وتعبئة المقاتلين سواء في المركز أو الفروع المختلفة التابعة له من ناحية أخرى.
والثالث، الإعلان عن استراتيجية جديدة مغايرة للاستراتيجية القديمة “إدارة التوحش والتمكين”، إذ يحاول “داعش” من خلالها رسم ملامح المرحلة الجارية والقادمة من حيث التكتيكات القتالية والعملياتية وطبيعة المستهدف، تحت مسمى استراتيجية “الظهور والتلاشي”، والتي تعتمد على العملية المفاجئة التي تقوم على محدودية النطاق واتساع التأثير والبدائية في التكتيكات والأسلحة المستخدمة، وتحويلها إلى عمليات انتقامية أو استنزافية بعد أن كانت عمليات ذات أهداف توسعية، وأصبحت تعتمد بصورة أكبر على “الذئاب الغاضبة” وليس “الذئاب المنفردة”، حيث يسعى التنظيم عبر التكتيكات الثلاثة السابقة إلى تكوين “أهِلَّة داعشية” في بعض الأقاليم بقارتى آسيا وأفريقيا، وهو ما حاول تحقيقه خلال النصف الأول من العام الجاري 2021، بتأسيس ثلاثة “أهِلَّة داعشية” على النحو التالي:
1- الهلال “الداعشي” (الساحل الأفريقي): ويبدأ من نقطة الارتكاز في جنوب غرب ليبيا مروراً بتشاد والنيجر وشمال نيجيريا وشمال بوركينافاسو ومالي وصولاً إلى المحيط الأطلنطي، وهو ما يطلق عليه التنظيم الإرهابي “داعش غرب أفريقيا”، والتي تعتبر واحدة من أهم مناطق ارتكاز التنظيم وأكثرها نشاطاً من حيث عدد العمليات الإرهابية والعناصر التابعة للتنظيم. وقد أشارت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، في التصريحات التي أدلت بها في 4 يوليو الجاري، إلى أنه من بين القتلى من قيادات التنظيم المحمود الباى الذي يلقب بـ”الكاري”، وكان يؤسس ويقود فرعاً جديداً للتنظيم في منطقة ميناكا التي تقع على الحدود بين النيجر ومالي.
2- الهلال “الداعشي” (وسط أفريقيا): وهو الهلال الممتد من الكونغو ويمر بموزمبيق ويصل إلى تنزانيا، وهى إحدى المناطق المستحدثة لسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي في قارة أفريقيا، حيث يسعى التنظيم إلى توسيع نطاق هذه المنطقة لتصل إلى الصومال مروراً بكينيا، على نحو يمكن أن يجعل الهلال “الداعشي” الأوسط ممتداً إلى المحيط الهندي.
3- الهلال “الداعشي” (الآسيوي): تمكن تنظيم “داعش” من تنفيذ ثلاث عمليات إرهابية خلال شهرى أبريل ومايو من العام الجاري، ضد قوات الأمن الهندية، في منطقتى ناتي بورا وسرينجار، على نحو أدى إلى سقوط العشرات من القتلى والجرحى في صفوف قوات الأمن الهندية، وهو ما توازى مع عمليات إرهابية أخرى قام التنظيم بتنفيذها في دول الجوار لاسيما أفغانستان، حيث يسعى إلى تأسيس محور “داعشي” آسيوي يمتد من الهند ويمر عبر كل من باكستان وأفغانستان ويصل إلى دول وسط آسيا.
أهداف عديدة
يسعى تنظيم “داعش” عبر تأسيس “الأهِلَّة الداعشية” الثلاثة إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- إضعاف المنافسين: لاسيما تنظيم “القاعدة”، حيث يحاول “داعش” من خلال تأسيس “الأهِلَّة” الثلاثة محاصرة تنظيم “القاعدة” لاستقطاب ما تبقى من أفرع وعناصر التنظيم في بعض المناطق، كما حدث بإعلان مجموعة الإرهابي أبو بكر شيكاو- زعيم تنظيم “بوكوحرام” الذي قتل من قبل عناصر تابعة لتنظيم “داعش”- البيعة للأخير، الذي أعلن قبوله لذلك حسب ما جاء على لسان المتحدث الرسمي للتنظيم أبو حمزة القرشي في خطابه الأخير. وبمعنى آخر، فإن “داعش” يحاول انتزاع زعامة الحركات الإرهابية وخصوصاً من تنظيم “القاعدة”- المنافس القوي في أفريقيا وآسيا- لاسيما وأن الفئة المستهدفة للتنظيمين متشابكة بشكل كبير، بما يضع عقبات، وفقاً لاتجاهات عديدة، أمام فكرة التعايش بين الطرفين، عبر تقبل وجود كل طرف في منطقة نفوذه.
2- رسائل للقوى المناوئة: يسعى “داعش” من إعادة تأسيس بؤر ومحاور “داعشية” ممتدة إلى توجيه رسائل إلى القوى المعنية بالحرب ضد الإرهاب، مفادها أنه ما زالت لديه القدرة على تعزيز حضوره ونفوذه في مناطق مختلفة، رغم كل الضربات والهزائم التي تعرض لها، لاسيما في كل من سوريا والعراق.
3- السعى للتمدد واستعادة النفوذ: يحاول التنظيم الترويج إلى أن انسحابه الاضطراري من بعض المناطق، بسبب تلك الضربات والهزائم التي منى بها، يوازيه تعزيز النفوذ في مناطق جديدة، عبر اعتماد نمط اللامركزية في الانتشار والتمدد، مع توسيع شريحة المؤيدين والمتعاطفين من خلال التركيز على الدول غير العربية، وبشكل خاص الأقليات المسلمة في بعض الدول الأفريقية والآسيوية.
4- تقليص الضغوط على التنظيم المركزي: لا يمكن فصل حرص التنظيم على تكثيف عملياته الإرهابية في أنحاء مختلفة من العالم، وخصوصاً في أفريقيا، عن محاولاته تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها المركز الرئيسي في سوريا والعراق، خاصة مع اتجاه العديد من القوى الدولية إلى تعزيز مشاركتها في جهود مكافحة التنظيم، على غرار بريطانيا، التي أعلنت، في 22 يونيو الفائت، إرسال مجموعة “كارير سترايك” للقتال ضد “داعش” والتي تضم طائرات “إف- 35 بي” الأمريكية، ونفذت أولى مهامها القتالية من حاملة الطائرات البريطانية “إتش إس إم كوين إليزابيث”.
كما أعلن حلف الناتو، في 30 من الشهر نفسه، أن أمينه العام يانس ستولينبيرج طرح رؤية الحلف إزاء التعامل مع التهديدات الناجمة عن خطر تنظيم “داعش” وذلك خلال مشاركته في الاجتماعات الوزارية للتحالف الدولي لمناهضة “داعش” التي استضافتها العاصمة الإيطالية روما في 28 من الشهر الفائت، وأكد أمين عام حلف شمال الأطلنطي “مواصلة الحلف بكافة أجهزته التنفيذية والتخطيطية العمل على دعم جهود القضاء على داعش ومحاصرة هذا التنظيم الإرهابي وإجهاض محاولاته لإعادة تجميع قواه ومساعيه الرامية إلى العبث بالأمن والاستقرار الداخلي في الدول الذي تتواجد فيها خلاياه أينما كانت”.
5- استقطاب عناصر جديدة: يعتبر استقطاب عناصر إرهابية جديدة لتنظيم “داعش” إحدى أهم أولوياته خلال المرحلة الجارية، لاسيما في ظل تراجع عنصر الخبرة التنظيمية والعملياتية داخل التنظيم خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، نتيجة الخسائر البشرية التي منى بها، حيث فقد بعض أهم قياداته وكوادره العسكرية سواء في المواجهات التي اندلعت مع القوى والأطراف المناوئة له، أو في العمليات والضربات الأمنية التي تشنها الأخيرة ضده.
في النهاية، يمكن القول إن استراتيجية “الأهِلَّة الثلاثة” الجديدة تمثل أحد مؤشرات التحول في توجهات تنظيم “داعش” خلال الفترة الأخيرة، على ضوء الهزائم العسكرية التي منى بها لاسيما في كل من العراق وسوريا، فضلاً عن غياب معظم قياداته الرئيسية عن المشهد، وخاصة زعيمه السابق أبو بكر البغدادي، وهو ما يبدو أنه سوف يدشن مرحلة جديدة من الحرب على الإرهاب خلال المرحلة القادمة.
أحمد كامل البحيري
مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية