بيروت – صار دفع شرائح واسعة من اللبنانيين إلى ما دون خط الفقر السمة الأكثر وضوحا بالمشهد القاتم في لبنان الذي دخل قلب العاصفة، حسب رأي كثيرين. في حين ما زالت السلطات الرسمية عاجزة عن تقديم حلول تلجم الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يفاقم مأساة المواطنين ومعاناتهم.
في مطلع يوليو/تموز الجاري، تزامنا مع التئام البرلمان لإقرار قانون “البطاقة التمويلية” لمساعدة عشرات آلاف الأسر، كشف تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، أن 77% من الأسر لا تملك ما يكفي من غذاء أو مال لشرائه، وأن 60% منها تضطر إلى شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو الاستدانة، وأن 30% من أطفال لبنان ينامون وبطونهم خاوية.
ومقابل هذه الأرقام الصادمة، جاء إقرار قانون “البطاقة التمويلية” شكليا فقط، فدونه أشواط طويلة من العقبات قد يستغرق تجاوزها شهورا، بسبب عدم توفر مصدر تمويل للبطاقة، باعتباره العامل الوحيد الذي يجعلها قابلة للتنفيذ. فلماذا تطلق السلطات وعودا مستعصية للبنانيين بدل المضي جديًا في مساندتهم؟
تمويل معلق
بعد سجالات طويلة بشأنها، ترك البرلمان على عاتق الحكومة تمويل البطاقة بقيمة 566 مليون دولار، وجرى البحث عن إمكانية توفيرها من قروض البنك الدولي المخصصة لمشاريع غير منجزة بلبنان، في ظل التحذيرات من اللجوء للاقتراض من الاحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان المركزي، الذي بقي منه أقل من 15 مليار دولار، بعد استنفاد احتياطي الدولار القابل للاستعمال.
وبالوقت عينه، تعهدت حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب، تنفيذ برنامج ترشيد الدعم، الذي توفره عبر المركزي لاستيراد المواد الأساسية بالدولار المدعوم، في حين تستمر الليرة بتسجيل خسائر تجاوزت 95% من قيمتها، بعد أن تخطى سعر صرف الدولار بالسوق السوداء عتبة الـ18 ألفا (سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات).
وهنا، يشير عضو لجنة المال البرلمانية، النائب نقولا نحاس، إلى أن مجلس النواب أعطى الغطاء القانوني للحكومة لتنفيذ مشروع “البطاقة التمويلية”، في حين كان عليها أن تقدم مشروعا متكاملا قبل إحالته للبرلمان، بدل الاكتفاء بتقديم تصورها حول رفع الدعم، كما أنها لم تنجز موازنة 2021 بسبب دخولها مرحلة تصريف الأعمال منذ نحو 9 أشهر، وبالتالي لم تدرس تداعيات مشروع البطاقة واحتمال مساهمته بمضاعفة حجم التضخم الحاصل.
وقال نحاس -للجزيرة نت- إن الحكومة لم تتحمل مسؤولياتها بمشروع ينتظره عشرات آلاف اللبنانيين، وأن تمويل البطاقة وآلية تسديدها تقع على عاتقها وفقا للأصول القانونية، وليست من مسؤولية البرلمان الذي يتولى مهمة دراسة المشاريع التي تقدمها الحكومة وتشريع القوانين.
ولفت نحاس إلى أن مساعي الاستفادة من القروض غير المنجزة، جاء بعد انسداد سبل التمويل من الجهات المانحة بالخارج، إضافة لرفض المساس بالاحتياطي الإلزامي.
ومن الخيارات المطروحة أيضا أن يلجأ لبنان إلى صندوق النقد الدولي، بعد أن بعث الصندوق مؤخرا رسالة للدول التي تعاني من التعثر تفيد إمكانية استخدام ودائعها لديه بحالات استثنائية.
ومع ذلك، من غير المضمون قبول منحها للبنان، الذي تبلغ قيمة وديعته لدى صندوق النقد نحو 900 مليون دولار، وفق نحاس.
الخطة النظرية
يشرح عاصم أبي علي، المشرف العام على خطة الاستجابة للأزمة ومستشار وزير الشؤون الاجتماعية، تفاصيل خطة دعم الأسر انطلاقا من وجهة نظر وزارته، التي تعتبر أن كل الشعب اللبناني باستثناء أصحاب المداخيل المرتفعة جدا -وهم نسبة قليلة- يجب أن يحصل على البطاقة التمويلية، وذلك بناء على قاعدة أن من يستحق البطاقة التمويلية بظل وجود الدعم الحالي، سيحتاج إلى مساعدة إضافية عند ترشيد الدعم أو رفعه.
ويشير أبي علي -في تصريح للجزيرة نت- إلى أن وزارة الشؤون غير معنية بآلية التمويل، المنوطة بمهام وزارة المالية ورئيس الحكومة، مؤكدا على حصول مباحثات رسمية مع جهات بالبنك الدولي، ويبقى الأمر مقرونا بموافقته على تحويل قروض ممنوحة من الوجهة الاستثمارية إلى الوجهة الإنسانية.
ونظريا، تستهدف البطاقة التمويلية نحو 500 ألف عائلة، بمبلغ شهري معدله الوسطي 93 دولارا حتى 126 دولارا للحد الأقصى، لكن الأزمة التي تضاف لأزمة غياب التمويل، وفق أبي علي، تتجلى في عدم توفر قاعدة بيانات موحدة وصريحة وواضحة حول العائلات بلبنان.
فوزارة الشؤون مثلا، تستهدف ببرامجها الأسر المندرجة تحت خط الفقر المدقع، وتبلغ نحو 300 ألف عائلة سبق أن حصلت على مساعدات بدءا من أبريل/نيسان 2020.
أما البطاقة التمويلية -وفق المشرف العام- فيتخطى استهدافها الفقر المدقع، وتستند إلى الدراسة التي أعدتها منظمة العمل الدولية ودائرة الإحصاء بلبنان، وخلصت إلى أن 60% من الشعب اللبناني تحت خط الفقر، لكن المستحقين للبطاقة التمويلية تصل نسبتهم لنحو 75%، ويشمل ذلك كل من يتقاضى دخلا يقل عن 2 مليون و100 ألف ليرة لرعاية أسرة مؤلفة من شخصين (يوازي نحو 113 دولارا).
وحتى هذه الدراسة التي أعدت قبل أشهر، بحسب أبي علي، قد تحتاج إلى تعديل في ظل توالي انهيار الليرة وما يتبعها من تآكل مستمر بقيمة مداخيل الأسر.
وقال إن ثمة صعوبة باستهداف 500 ألف عائلة بعدل وشفافية؛ إذ تعد واحدة من أكبر العمليات اللوجستية بلبنان لما تحتاجه من تنظيم وتشبيك لقواعد البيانات.
البطاقة التمويلية تستهدف نحو 500 ألف عائلة بمبلغ شهري معدله الوسطي 93 دولارا حتى 126 دولارا للحد الأقصى (الجزيرة)
عقبات البنك الدولي
وكان البنك الدولي أقر قبل أشهر، مشروع القرض الميسر للبنان، وقيمته 246 مليون دولار، ويشرف على إعداد بطاقة تستهدف الوصول إلى أكثر من 160 ألف عائلة فقيرة (أي نحو 800 ألف شخص)، بمساعدة تصل إلى حدود 800 ألف ليرة شهريا (توازي نحو 43 ولارا)، ومن المفترض أن يصبح قابلا للتنفيذ، في غضون 3 أسابيع إذا لم تحدث عراقيل ما، بحسب أبي علي.
وهنا، يذكر الباحث والخبير الاقتصادي خليل جبارة، أن تجربة البنك الدولي مع لبنان بهذا القرض، كانت سيئة؛ فلأول مرة منذ أن بدأ لبنان بالتسعينيات توقيع العقود مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي، قام البرلمان بتغيير بعض بنود القرض عند إقراره، التي تتعلق بآلية إدارة المشروع، مما أثر على شكل القرض وفاقم تعقيداته.
لذا، يستبعد جبارة -في حديثه للجزيرة نت- أن يوافق البنك الدولي على تحويل مسار بعض القروض غير المنجزة، “لأن أداء السلطات سيعقد العملية”، وهو ما يطرح التساؤل عن مضمون هذه القروض.
تندرج القروض غير المنجزة ضمن لائحة طويلة، وهي عبارة عن قروض سبق أن وافق البنك الدولي على منحها لبنان لتنفيذ المشاريع المقدمة، مثل تأهيل البنى التحتية وبعض مشاريع الصحة والتعليم والمياه، وتقدّر قيمتها الإجمالية بـ900 مليون دولار، وفقًا للباحث والأكاديمي في الجامعة الأميركية، ناصر ياسين.
لكن أبرز القروض غير المنجزة التي يجري البحث بشأن إمكانية تحويلها للبطاقة التمويلية، وفق معطيات ياسين، يتعلق بقرض مشروع النقل العام لبيروت الكبرى، وتقدر قيمته بـ225 مليون دولار، الذي تم إمضاؤه في 2018 وكان من المفترض أن يتم عبره استحداث طريق سريع يربط بيروت صعودا حتى مدينة جبيل.
ويعتبر الباحث -في حديث للجزيرة نت- أن لبنان يعاني تاريخيا من ضعف بتنفيذ المشاريع، مذكرا أنه بالمؤتمرات الدولية التي عقدت لأجله، كمؤتمر سيدر عام 2018، كان يطالب بالحصول على قروض لمشاريع سبق وأن حصل على قروض لمشاريع مماثلة لها من دون أن ينفذها، ناهيك “عن الفشل في إبرام المناقصات، أو دخول كبار المتعهدين على الخط، وهم غالبا يرتبطون بجهات سياسية نافذة”.
ورغم أن البنك الدولي يكون مراقبا لآلية صرف القروض، “لكن بعض المسؤولين يحترفون التلاعب بالقوانين والإجراءات، وخير مثال مشروع المياه لبيروت الكبرى بدأ في 2010 إثر منح لبنان قرضا بشأنه، ولم يُنجز بعد 11 عاما”، وفقا للباحث ناصر ياسين.
وعليه، يرى ياسين أن موافقة البنك الدولي على تحويل قروضها غير المنجزة لهدف آخر، يكون مقرونا بشروط عدة من بينها تقديم طلب رسمي يحظى بموافقة البرلمان، وكأن لبنان يريد الحصول على قرض جديد يحتاج للدراسة والتدقيق، في حين أن أوضاع البلاد لا تحتمل إجراءات غير مضمونة النتائج.
أطماع السلطة
من جهته، يتوقع الخبير الاقتصادي وليد أبو سلميان، أن تسعى الأحزاب السياسية بالسلطة، للاستثمار المصلحي بمشروع البطاقة التمويلية، وكأنها بطاقة رشوة انتخابية، وأن غياب الضوابط والمعايير والبيانات يشرّع الأبواب على المحسوبيات السياسية، بدل استهداف العائلات الأكثر حاجة للمساعدة.
ويقول -للجزيرة نت- إن السلطات ما زالت تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، وأن البطاقة التمويلية لن تكون حلا يوفر الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي، مع توالي إجراءات رفع الدعم.
وإذا لم يوافق البنك الدولي على تحويل القروض غير المنجزة للبطاقة، يتوقع أبو سليمان أن تلجأ السلطة إلى المس بالاحتياطي الإلزامي، وأن تستمر بنهجها هذا حتى موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2022.
وذكّر أن ترشيد الدعم بموازاة إقرار البطاقة التمويلية، يجب أن يكون لفترة وجيزة، مقرونا بوضع خطة إصلاحية وماكرو اقتصادية طويلة الأمد.
ويبقى الحل الأنسب راهنا -وفقا لأبو سليمان- تشكيل حكومة تحدث صدمة إيجابية بالداخل والخارج، وتباشر التفاوض مع صندوق النقد الدولي، بموازاة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومن ثم توزيع الخسائر بطريقة عادلة، بدل تكبيدها للمواطنين فقط، واتخاذ إجراءات تستعيد القدرة الشرائية للبنانيين، وإلا سيتسمر لبنان في الغرق.
المصدر : الجزيرة