في الوقت الذي شدّدت فيه الإدارة الأمريكية الحالية مؤخراً على التزامها المتواصل بحل الدولتين، إلا أن هذا الحل لم يعد يحظى بشعبية في أوساط الفلسطينيين. فأقل من 40 في المائة من الجمهور الفلسطيني يؤيد هذا الحل على حساب بدائل الدولة الواحدة. وقد تراجع دعم حل الدولتين بشكل مطرد منذ عام 2018. من الضروري أن تستمر واشنطن في الاستعداد للمستقبل من خلال عملها على الجوانب الاقتصادية.
في أعقاب النزاع الأخير بين إسرائيل و «حماس» الذي دام 10 أيام، وبدأ بعد أن علّقت “المحكمة العليا” الإسرائيلية حكمها المتوقع بشأن إخلاء الفلسطينيين من حي الشيخ جراح بالقدس، واندلاع الاشتباكات في “المسجد الأقصى”، كشف تقرير صادر في حزيران/يونيو من قبل «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» عن حدوث “تحوّل منهجي” في الرأي العام الفلسطيني: هناك الآن دعم متزايد لحركة «حماس» والكفاح المسلح. وهذا التغيير، إلى جانب نية إدارة بايدن عكس سياسة إدارة ترامب والانخراط في القضية، أعاد النزاع إلى أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
فهل التغيّر الآن في الرأي العام الفلسطيني هو مجرد انعكاس للتصعيد الأخير؟ لمعرفة الإجابة، علينا النظر بشكل أعمق إلى منحى الرأي العام خلال السنوات الأخيرة. وتُمكننا استطلاعات الرأي العام الفلسطيني التي أجراها “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” في الفترة 2014-2020، بالتعاون مع “المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي” ومقره بيت ساحور والعديد من منظمات الاقتراع الفلسطينية الأخرى، من القيام بذلك. ولكن النتائج غير متوقعة، حيث تحمل أخبار جيدة وآخرى سيئة.
أولاً، في الوقت الذي شدّدت فيه الإدارة الأمريكية الحالية مؤخراً على التزامها المتواصل بحل الدولتين، إلا أن هذا الحل لم يعد يحظى بشعبية في أوساط الفلسطينيين. فأقل من 40 في المائة من الجمهور الفلسطيني – في “الضفة الغربية” وقطاع غزة والقدس الشرقية – يؤيد هذا الحل على حساب بدائل الدولة الواحدة. وقد تراجع دعم حل الدولتين بشكل مطرد منذ عام 2018.
فضلاً عن ذلك، يعتقد معظم الفلسطينيين أنه من غير المرجح أن يُسفر الصراع عن حل الدولتين. وبدلاً من ذلك، أعربت الغالبية أنها تفضّل استعادة كامل فلسطين التاريخية، بما فيها إسرائيل قبل عام 1967. ويأتي حل الدولة الواحدة مع تمتع العرب واليهود بحقوق متساوية في المرتبة الثانية. وبالمثل، وجد الاستطلاع الأخير الذي أجراه «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» أن التأييد بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين لحل الدولتين قد انخفض إلى 43٪ و 42٪ على التوالي.
ويشكل هذا الواقع السياسي المتغير تهديدات لأهداف السياسة الأمريكية، أي: السلام والاستقرار والديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل تعكس الاتجاهات أيضاً مجالات الفرص، التي يمكن فيها للمساعي الأمريكية والسياسات الفلسطينية والإسرائيلية التأثير على الرأي العام الفلسطيني لتعزيز احتمال تحقيق السلام؟
إن استطلاعات الرأي ليست عملية ثابتة وحازمة، وليست علماً أيضاً. فالإجابات الصادرة عن الشعوب نفسها يمكن أن تتغير بشكل كبير وهي تتغير بالفعل بين عام وآخر أو بعد إعادة صياغة بسيطة للسؤال المطروح. إلّا أن الجهات المهنية التي أجرت هذه الاستطلاعات الخاصة بذلت جهوداً متضافرة لضمان دقتها، حيث أجرت المقابلات وجهاً لوجه وليس عبر الهاتف أو الإنترنت، وأكّدت على السرية التامة للمشاركين، خاصةً عندما تعاملت الأسئلة مع المواضيع المثيرة للجدل أو الأمور المحرمة.
وعلى مدى السنوات الست من بيانات الاستطلاع موضع البحث، تغيّرت وجهات النظر حول عدد من القضايا البارزة، وبشكل كبير في بعض الأحيان. وبدوره، ليس الرأي العام الفلسطيني ثابتاً: فالآراء تستجيب للأحداث المتغيرة والتوقعات التي تسفر إما عن ردود إيجابية أو سلبية. كما تختلف وجهات نظر سكان غزة و”الضفة الغربية” بشكل كبير في بعض المواضيع، بما فيها العديد من القضايا الرئيسية ذات الصلة بالسياسة الأمريكية، على عكس الاختلافات الأكثر تواضعاً التي تظهر على أساس عوامل أخرى، مثل العمر.
وفي السابق، كانت غالبية المستطلعين في القدس الشرقية تدعم حل الدولتين. وفي المقابل، وطوال فترة الاستطلاع التي دامت ست سنوات، اختارت أكثرية المستطلعين في “الضفة الغربية” وقطاع غزة بشكل عام “استعادة كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر” كالحل المفضل لديهم. وكان هناك استثناء في عام 2017، عندما قال 44 في المائة من المستطلعين في “الضفة الغربية”، بأكثرية قدرها سبعة في المائة، إن هدفهم الرئيسي كان إنهاء احتلال “الضفة الغربية” وغزة لتحقيق حل الدولتين. ومع ذلك، بحلول عام 2020، ارتفع بشكل حاد دعم سكان “الضفة الغربية” للحصول على الحد الأقصى من أراضي فلسطين إلى الثلثين – بحيث كان ذلك حتى أعلى من نظيره بين سكان غزة، حيث حصل الخيار فيها على دعم بنسبة 56 في المائة.
وتختلف هذه النسب عن التأييد الشعبي لدولة واحدة “من النهر إلى البحر” مع حقوق متساوية للمواطنين العرب واليهود، كما هو الحال في المقترحات الدولية الأخيرة. وفي استطلاعات الرأي لعام 2020، أيد حوالي 10٪ فقط من المستطلعين في “الضفة الغربية” وقطاع غزة هذا الخيار وفضلوه على دولة فلسطينية أو دولتين. وتجدر الإشارة إلى أن الافتراض الديني يدعم تفضيل الدولة الواحدة، حيث يعتقد غالبية المستطلعين الفلسطينيين أن “الفلسطينيين سيسيطرون في النهاية على كل فلسطين تقريباً، لأن الله سبحانه وتعالى إلى جانبهم” – وليس ذلك لأن السيطرة الفلسطينية ستنبع من التغيرات الديموغرافية أو من ترتيب مشترك مع إسرائيل.
ولا يزال الفلسطينيون منقسمين حول ما إذا كان حل الدولتين المتفاوض عليه بنجاح يجب أن “ينهي الصراع مع إسرائيل ويفتح فصلاً جديداً في التاريخ الفلسطيني” أو، على النقيض من ذلك، ما إذا كان الصراع “يجب أن لا ينتهي، وعلى المقاومة أن تستمر إلى أن يتم تحرير فلسطين التاريخية”. أما دعم الفلسطينيين في “الضفة الغربية” للسلام في أعقاب المفاوضات حول حل الدولتين فقد تضاءل بشكل حاد منذ عام 2018. واعتباراً من عام 2020، يعتقد 40 في المائة من سكان غزة و 26 في المائة فقط من سكان “الضفة الغربية” أن حل الدولتين المتفاوض عليه يجب أن ينهي الصراع.
وفي حين أن هذه الآراء العامة مثيرة للقلق – وقد تتطلب تدقيقاً في الرسائل الداخلية لـ «السلطة الفلسطينية» – إلا أنها لا تعكس بالضرورة تأييداً عاماً لسياسات «حماس». وبينما تشير أحدث استطلاعات الرأي التي أجراها «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» إلى ارتفاع في دعم «حماس»، إلّا أن البيانات من استطلاع الرأي الذي أجراه “معهد واشنطن” تُظهر بعض الاتجاهات التعويضية في غزة. فمنذ عام 2017، أيدت غالبية صغيرة من سكان غزة فكرة وجوب “توقف «حماس» عن الدعوة إلى تدمير إسرائيل، وبدلاً من ذلك القبول بحل الدولتين الدائم على أساس حدود عام 1967”. وبالمثل، في حين تقلّب التأييد لهذا الموقف في “الضفة الغربية”، إلّا أن 65 في المائة من المستطلعين في “الضفة الغربية” أيدوا هذا الرأي في عام 2020. كما أعرب غالبية المستطلعين في كلا المجالين وباستمرار عن دعمهم لفكرة تخلي «حماس» عن وحداتها المسلحة و”تولّي «السلطة الفلسطينية» إدارة” غزة (على الرغم من انخفاض الدعم لهذه الفكرة بشكل طفيف في “الضفة الغربية” وبصورة أكثر في قطاع غزة، إلى جانب تضاؤل الدعم لـ «السلطة الفلسطينية» كمؤسسة). وفي الواقع، أدى الإحباط من الحكم الفلسطيني في عام 2020 إلى ارتفاع إلى نسبة عالية مذهلة قدرها 40 في المائة من المستطلعين في غزة و 36 في المائة في “الضفة الغربية” من الذين قالوا إنهم يفضلون أن يكونوا جزءاً من إسرائيل على أن يكونوا في “الأراضي التي تحكمها «السلطة الفلسطينية» أو حركة «حماس»”.
بالإضافة إلى ذلك، في عام 2020، كان سكان غزة الذين شملهم الاستطلاع، مقارنة بنظرائهم في “الضفة الغربية”، أكثر ميلاً للاعتقاد، على الأقل “إلى حد ما”، أن معظم الإسرائيليين سيقبلون حل الدولتين كأساس لسلام دائم. ومنذ 2018 تضاعفت هذه النسبة إلى 70٪. في المقابل، قال 32٪ فقط من المستطلعين في “الضفة الغربية” إنهم يعتقدون ذلك. وقد تساعد وجهة النظر هذه بين سكان غزة في تفسير تنامي مرونتهم النسبية في العديد من القضايا الرئيسية. وقال غالبية سكان غزة الذين شملهم الاستطلاع – مقابل 7 في المائة فقط من المستطلعين في “الضفة الغربية” – إنهم سيقبلون تقييد “حق العودة” للاجئين الفلسطينيين في “الضفة الغربية” وقطاع غزة فقط إذا كان هذا القيد هو “الخطوة الأخيرة المطلوبة لإنهاء الاحتلال وتحقيق دولة فلسطينية مستقلة حقيقية”. (قد يكون موقف سكان غزة مرتبطاً بوجهة نظر أغلبية متزايدة من الفلسطينيين مفادها أنه “بغض النظر عما هو صحيح … فإن معظم اللاجئين الفلسطينيين لن يعودوا إلى أراضي عام 1948”.)
لقد وفر الوضع الاقتصادي المتردي في غزة حافزاً لزيادة التنسيق الاقتصادي مع إسرائيل. فقد صنف جميع المشاركين في الاستطلاع بين عامي 2015 و 2018 “تحقيق دخل كافٍ للعيش بشكل مريح” على رأس أولوياتهم وتفضيله على إقامة دولة فلسطينية. كما أشار عدد من الأشخاص إلى الأهمية القصوى “للحياة الأسرية الجيدة”. وفي غزة، على وجه الخصوص، فضلت أغلبية قوية، وإن كانت متضائلة، التعاون الاقتصادي مع إسرائيل لدعم سياسات «حماس»، على الرغم من أن هذا التفضيل قد انخفض بشكل حاد في “الضفة الغربية”.
ومن المحتمل أن يؤثر الصراع الأخير على هذه الآراء. فبعد حرب عام 2014 في غزة، أظهرت استطلاعات الرأي عام 2015 أن نسبة سكان غزة الذين رفضوا “قطعاً” اقتراح [حل] الدولتين تضاعفت عن العام الذي سبق لتصل إلى 36٪. لكن هذه النسبة انخفضت بمرور الوقت.
وكما أظهر الإلغاء المتكرر للانتخابات الفلسطينية، فإن لا «السلطة الفلسطينية» ولا «حماس» تحكم بديمقراطية. وفي كلا المجالين، هناك تأثير محدود فقط للرأي العام على السياسة. ومع ذلك، فحيث يحظى تنسيق السياسات بدعم شعبي حالياً، فقد يزداد التأييد الشعبي لتسويات وحلول أكثر شمولية بمرور الوقت.
وفي حين تحظى السياسة الفلسطينية الرسمية بدعم شعبي كبير، إلّا أن المعارضة الأمريكية النشطة لمثل هذه السياسة قد تصطدم بردود فعل سلبية. وفي ظل عدم وجود أي سبب مقنع لتحمّل هذه المخاطرة، ربما يتعيّن على الولايات المتحدة تجنبها. وفي المقابل، يمكن للتباينات بين السياسة الفلسطينية الرسمية والرأي العام، لا سيما في غزة، إلى جانب الدعم الفلسطيني القوي لحكم أفضل، أن يفسح المجال أمام إمكانية سعي الولايات المتحدة إلى إدخال تغييرات فورية على الوضع الراهن، حتى بصرف النظر عن أي مسألة توسط لمفاوضات مستقبلية. ومن الناحية المثالية، ستكون مثل هذه المبادرات الأمريكية مصحوبة بتعديلات مقابلة في السياسة الإسرائيلية.
وعندما يتعلق الأمر بحل الدولتين، فإن الاختلاف الواضح في المواقف الشعبية الفلسطينية بين الواقعية العملية قصيرة المدى والتطرف طويل المدى يقدم لصانعي السياسات فرصة وتحدياً كبيراً. ويظهر استطلاع الرأي تقبل في غزة للتدخلات الاقتصادية الأمريكية العملية. وفي ضوء جهود إعادة الإعمار الحالية، قد يكون هذا هو المجال الذي يجب أن تركز فيه الولايات المتحدة جهودها الأكثر إلحاحاً، حتى عندما تؤدي هيمنة «حماس» إلى تعقيد عملية التنفيذ. وتوفر المجالات التي يفضل فيها الرأي العام التسوية التكتيكية نوافذ لحل النزاع – مع الإشارة إلى أن تركيز السياسة على قضايا الوضع “النهائي” قد يكون في غير محله.
وتشير التحوّلات في الرأي العام الفلسطيني أيضاً إلى أن المبادرات الإسرائيلية، أو على الأقل ضبط النفس الإسرائيلي، قد تؤدي إلى مواقف فلسطينية أكثر اعتدالاً. وعلى العكس من ذلك، قد تؤدي السياسات الإسرائيلية المتشددة – سواء في المستوطنات أو في مجال الأمن أو العلاقات الاقتصادية – إلى تحوّل سلبي في الرأي العام الفلسطيني. على سبيل المثال، تعكس بيانات استطلاع الرأي لعام 2020 فترة أعلن فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو علناً بأن إسرائيل ستضمّ أقساماً من الضفة الغربية. وقد تنصح المصالح الأمريكية في كل من الاستقرار على المدى القصير والتعايش على المدى المتوسط بتأكيد هذه العلاقة مع الشركاء الإسرائيليين للولايات المتحدة.
ومع ذلك، يشير الواقع المؤلم إلى أن السلام الدائم مع إسرائيل لا يزال يفتقر إلى تأييد أغلبية الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأغلبية حتى بين جيل الشباب. وفيما يتخطى التحديات العملية التي تواجه التفاوض بشأن الوضع النهائي لحل الدولتين، لا تزال المصالحة الفعلية بعيدة المنال. وقد تؤدي جهود الولايات المتحدة لتعزيز التقدم على أرض الواقع وتشجيع الحكومة الإسرائيلية الجديدة على تقديم مبادرات مع جيرانها، إلى تخفيف هذا الموقف الشعبي المتشدد بمرور الوقت. ومع ذلك، عندما يؤيد صناع السياسة “الأرض مقابل السلام” في إطار حل الدولتين، يجب أن يحرصوا على التخطيط لخطوات عملية يمكن أن تعزز النوايا الحسنة، أو على الأقل التعايش السلمي، إلى حين يقترب الطرفان من حل وسط بشأن ملامح السلام الدائم.
ديفيد بولوك
معهد واشنطن