شهدت محافظة خوزستان بجنوب غرب إيران في 15 يوليو الجاري احتجاجات مستمرة حتى الآن، اعتراضاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد، لاسيما نقص المياه داخل المحافظة، الأمر الذي أطلق عليه “احتجاجات المياه” أو “احتجاجات العطش”، والتي امتدت لتشمل مدناً إيرانية أخرى خارج خوزستان، وتطورت مطالب المحتجين إلى المطالبة بإسقاط النظام ذاته، ورفع شعارات “الموت لخامنئي”.
سياق الاحتجاجات:
يمكن إرجاع الاحتجاجات التي شهدتها الأهواز إلى الأسباب التالية:
1- سياسات متعمدة لـ “إفقار” الإقليم: كانت أحد أسباب احتجاجات إقليم خوزستان ما اعتبره سكان الإقليم سياسة ممنهجة لمنع الإقليم من استغلال مقدراته، حيث تصنف خوزستان، ضمن أغنى محافظات إيران الـ31، بالنفط والمياه على حد سواء.
واندلعت هذه التظاهرات على خلفية إقدام السلطات الإيرانية على تحويل مسار مجرى بعض الأنهار في الإقليم، ومنها نهر كارون الذي يعد أكبرها، إلى محافظات أصفهان وزايندهورد ويزد وقم، ذات الغالبية الفارسية، الأمر الذي يُنذر بتعرض خوزستان لشح مائي، وانخفاض في مستويات المياه اللازمة لزراعة آلاف الهكتارات من المياه، ما قد يُسفر عن عمليات تصحر وتزايد العواصف الترابية، وأضرار بيئية واقتصادية عدة.
ومع التسليم بوجود أزمة مياه وكهرباء في مناطق عدة في إيران، تسببت في اندلاع تظاهرات في تلك المناطق، فإن إدارة الملف واجهت إشكاليات عديدة، بسبب الدخول في مشروعات غير مدروسة، تنتج عنها تداعيات سلبية عدة، لاسيما مشروع حفر “بهشت آباد”، لنقل مياه نهر كارون إلى أصفهان، الذي تولته مجموعة “خاتم المرسلين”، المؤسسة الاقتصادية التابعة للحرس الثوري.
ويعتقد سكان الإقليم من العرب بأن هذا المشروع هو سياسة متعمدة من جانب السلطات يهدف من خلالها إلى تهجيرهم من الإقليم إلى شمال إيران، عبر إفقارهم على الرغم مما يحتويه من ثروات طبيعية هائلة.
2- مخاوف مماثلة من الأقليات الأخرى: يبدو أن احتجاجات الأهواز، قد أثارت مخاوف لدى قوميات أخرى، وبصفة خاصة القومية الكردية، حيث شهدت مُدن مريوان وسنه وأورمية ذات الأغلبية الكُردية غرب إيران، تجمعات احتجاجية عقب صلاة عيد الأضحى.
ويتحسب الأكراد من امتداد السياسة المائية التي تمارسها السلطات الإيرانية في الأهواز إلى مناطقهم، لاسيما في ظل الحديث عن قرارات حكومية تفيد باعتزام السلطات تحويل مسارات أنهار في مناطق الأكراد نحو مناطق ريفية في العاصمة طهران، وهو ما يفسر قيام بعض الأكراد بتظاهرات مؤيدة للمحتجين الأهواز.
كما أبدت القومية الآذرية في إيران، والتي تقطن محافظة آذربيجان الغربية، تضامناً أيضاً مع الاحتجاجات، حيث انتشرت مُلصقات وكتابات جدارية باللغة التركية، تدعو لإسقاط النظام الإيراني ومساندة المنتفضين في منطقة الأهواز. وكان استخدام اللغة التركية أمراً مقصوداً من سكان الأقاليم الأذرية، وجاءت اعتراضاً لتفضيل الفرس على بقية المكونات العرقية في البلاد.
أبعاد جديدة للاحتجاجات:
تأتي هذه الاحتجاجات بشكل متمايز عن التظاهرات التي اندلعت من قبل في أعوام 2017، 2018، 2019، لكي يتخللها عدد من الأبعاد الجديدة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1- حساسية التوقيت بالنسبة للنظام الإيراني: لا شك أن الاحتجاجات الحالية جاءت في وقت بالغ الأهمية بالنسبة للنظام الإيراني، حيث جاءت قبيل أسبوعين من تولي الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي مقاليد السلطة في طهران، وهو الرئيس الذي يٌفترض أن يواجه ملفات كبرى وشائكة تتعلق بالوضع الاقتصادي المأزوم.
كما تزامنت هذه الاحتجاجات مع ما يُفترض أنه المرحلة الأخيرة من المفاوضات النووية الجارية بين إيران من جانب ومجموعة (5 + 1) في فيينا حول برنامج طهران النووي، وهو الأمر الذي يفرض على السلطات الإيرانية أن تكون جبهتها الداخلية متماسكة، وأن يتعامل النظام مع الاحتجاجات بهدوء ويلجأ لاستيعاب أي تهديدات لاستقرار نظام الحكم.
2- التوسع المكاني والزماني للاحتجاجات: على الرغم من اندلاع التظاهرات في محافظة خوزستان، فإن عدة محافظات إيرانية أخرى قد أبدت تضامنها مع تلك التظاهرات حيث نُظم ما لا يقل عن 31 احتجاجاً في أنحاء إيران، بما في ذلك مسيرات للعمال والمزارعين، وامتدت لمحافظات مهمة مثل طهران ومشهد، حيث تُشير التقارير الإعلامية إلى أن ساحة آزادي وسط العاصمة طهران، التي تُعتبر مكاناً رمزياً لتجمهر مناصري النظام الإيراني أثناء الاحتفالات الرسمية، شهدت تظاهرة عارمة، لأبناء منطقة الأهواز العربية، من طلبة ومُهجرين إلى العاصمة طهران.
وذكر شهود عيان من حي “دولت آباد” ذي الأغلبية العربية من العاصمة طهران بأن الأجهزة الأمنية وقوات مكافحة الشغب الإيرانية كثفت من حضورها ضمن مختلف أنحاء الحي، كما أن محطات مترو طهران قد شهدت تظاهرات تحمل هتافات ضد المرشد الإيراني علي خامنئي.
ومن جانب آخر، فإن تلك الاحتجاجات تتجدد وتتسع باستمرار، على الرغم من القمع الأمني العنيف للمتظاهرين. وفي حين أن التظاهرات السابقة عادة ما يتم السيطرة عليها في أيام معدودة، فإن التظاهرات في الأهواز لم تهدأ، حتى على الرغم من تراجع القوات الأمنية المتمركزة بالقرب من ميادين التظاهر في مدن خوزستان.
3- تفهم خامنئي للاحتجاجات: جرت العادة على مواجهة الاحتجاجات الشعبية والفئوية التي يشهدها إقليم خوزستان باتهامات التخوين على أساس أن الإقليم يضم غالبية عربية في مواجهة الغالبية الفارسية المسيطرة على مفاصل الدولة في إيران. وكان من اللافت أن رد فعل المرشد الأعلى علي خامنئي كان احتوائياً، حيث اعترف بوجود مشكلة في الإقليم، وطالب المسؤولين بسرعة حلها.
وعبّر الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد عن تضامنه مع مطالب المحتجين، منتقداً سياسة الحكومة التي تحرم الإقليم من الاستثمارات والتنمية، كما انتقد الرئيس الأسبق محمد خاتمي سياسة القمع تجاه المتظاهرين السلميين، ودعا إلى النظر بجدية في مطالبهم.
مسارات مواجهة الاحتجاجات
هناك عدد من السيناريوهات حول كيفية تعامل السلطات الإيرانية مع الاحتجاجات في الأهواز، والتي يمكن توضيحها في التالي:
1- العودة لمسار التصعيد: يمكن أن تلجأ السلطات الإيرانية إلى مسار التصعيد من جديد. ففي بداية التظاهرات، قامت السلطات الإيرانية بمواجهة التظاهرات باستخدام الأساليب العنيفة، ما أسفر عن سقوط ما يقرب من 10 قتلى بينهم شرطي واحد على الأقل، وإصابة أكثر من 200 في 7 مدن مختلفة، وفق تقارير.
وأبدى مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، اهتماماً ملحوظاً بالاحتجاجات، والدعوة لتنظيم التجمعات في الميادين والمدن المختلفة، وكذلك توضيح العنف المستخدم من قبل الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين. كما ظهرت هاشتاجات مؤيدة للاحتجاجات مثل “#الأحواز_تنتفض”، و”#بسلام_آمنين” ضمن الأكثر تداولاً عبر منصة “تويتر”، وهو الأمر الذي قابلته السلطات في طهران بقطع خدمات الإنترنت في أغلب مدن إقليم خوزستان، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي عبر الهواتف المحمولة.
كما أن قيام قائد الحرس الثوري حسين سلامي بزيارة إلى الإقليم في 24 يوليو الجاري يكشف عن استمرار الخيار الأمني في التعامل مع الاحتجاجات، خاصة في ضوء تصريحات المساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني حسين أمير عبداللهيان، والتي تجاهل فيها الأسباب الحقيقية للتظاهرات، وحملها لـ “مثيري الشغب” و”أعداء الثورة”، بالإضافة إلى اتهام بعض المسؤولين الإيرانيين العقوبات الأمريكية بالتسبب في هذه الاحتجاجات، والتي عرقلت تنفيذ الكثير من خطط للتنمية في الإقليم، وفقاً لهم، وهو ما يعني استمرار الأسباب الحقيقية للتظاهرات من دون علاج.
وعلى الجانب الآخر، فإن الانتقادات الدولية، سواء منظمات حقوق الإنسان، أو من جانب وزارة الخارجية الأمريكية، ودعواتهم لقوات الأمن الإيرانية إلى وقف العنف والاعتقال التعسفي للمحتجين، لن تسفر عن أي تأثير على السياسات الإيرانية.
2- انتهاج أسلوب التهدئة: يمكن أن تلجأ إيران إلى التجاوب مع مطالب المحتجين لتهدئة التظاهرات. وعبّر المرشد الأعلى على خامنئي عن هذا التوجه، حينما طالب المسؤولين بسرعة حل مشاكل خوزستان، كما ألقى الرئيس الإيراني باللائمة على ارتفاع درجات الحرارة، وتراجع الهطول المطري، أي أن المرشد والرئيس تجاهلا المشروعات الإيرانية حول تحويل مجاري الأنهار، والتي كانت سبباً رئيسياً في اندلاع التظاهرات، وهو ما يعني محاولة استيعاب الغضب الشعبي من دون علاج جذور المشكلة.
3- الاستجابة لمطالب المتظاهرين: يلاحظ أن خيار التراجع عن خطط تحويل مجاري المياه مستبعد، بالنظر إلى أنه تحت ضغط الاحتجاجات الحالية تعهد روحاني بفتح السدود لمياه الشرب، وهو الاقتراح الذي تباطأ في تنفيذه، وهو ما يعني أن إمكانية التراجع عن مشروع تحويل مجاري المياه ليست واردة.
وفي الختام، يمكن القول إن استمرار سياسات أفرسة الدولة والمجتمع وانتهاج التفرقة والتمييز ضد الأقليات عموماً وعرب الأهواز خصوصاً، ربما ينذر بانفجار اجتماعي داخل إيران، تزكيه الظروف الاقتصادية الصعبة، كما أن حرص المتظاهرين على المس برموز النظام الإيراني، وتحديداً المرشد، تكشف عن استمرار تراجع شعبية النظام.
المستقبل للدراسات