في يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1980، كانت سيارة مليئة بركاب جلهم كتاب تتقدم عبر طريق سريع مغسول بالمطر نحو موقع مؤتمر ينعقد في مدريد. موضوع المؤتمر كان حركة حقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي، وقد ضمت السيارة بضعة أفراد من تلك الحركة كانوا، على مدى فترة طويلة، من الأكثر معاناة جراء علاقتهم بها (بالحركة المذكورة)، هم: فلاديمير بوريسوف، وفيكتور فاينبيرغ، الرجلان اللذان كابدا سوء معاملة فظيعة في مستشفى أمراض عقلية بمدينة لينينغراد؛ والفنانة التتارية غيوزيل ماكودينوفا، التي قضت سنوات بمنفى داخلي في سيبيريا؛ وزوجها الكاتب أندريه أمالريك، الذي فر إلى أوروبا الغربية بعد فترات متكررة من الاعتقال والاحتجاز.
كان أمالريك خلف المقود يقود الرحلة. وعلى بعد 40 ميلاً من العاصمة الإسبانية، انحرفت السيارة عن مسارها، واصطدمت بشاحنة مقبلة من الاتجاه المعاكس. وقد نجا جميع ركاب السيارة من الحادث، ما عدا أمالريك، إذ اخترقت عنقه قطعة معدن، على الأرجح من عمود المقود. وأمالريك، في لحظة وفاته تلك عن عمر ناهز 42 سنة، لم يكن بالتأكيد أشهر منشق ومعارض سوفياتي. فقد كان ألكسندر سولجينتسين نشر “أرخبيل الغولاغ” وحاز على جائزة نوبل للأدب، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية. وكان أندريه ساخاروف مُنح جائزة نوبل للسلام، التي اضطر إلى تلقيها غيابياً إثر رفض الحكومة السوفياتية منحه تأشيرة خروج من البلاد (الاتحاد السوفياتي). لكن، في “بانثيون” من بين الذين اعتُقلوا وتعرضوا للاستجواب والسجن والنفي، كان لأمالريك منزلة خاصة.
ففي الاتحاد السوفياتي ابتداءً من أواسط الستينيات، في عهد ليونيد برجنيف، كانت سلسلة من الملاحقات القضائية لشخصيات بارزة، من بينهم كتاب ومؤرخون ومثقفون آخرون، قد جردت وطالت المعارضين والمنشقين في البلاد. وبالنسبة لمراقبين كثيرين في الغرب آنذاك بدت تلك الحركة الديمقراطية الناشئة في الاتحاد السوفياتي سبيلاً محتملاً إلى تخفيف حدة الحرب الباردة. وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” في صيف 1968، قبل أسابيع قليلة من اجتياح الدبابات السوفياتية مدينة براغ، قد خصصت ثلاث صفحات لمقالة كتبها ساخاروف عن “التقدم، والتعايش السلمي، وحرية الثقافة”. إذ إن ساخاروف، في حقبة الأسلحة النووية تلك، اعتبر أنه لا خيار أمام الغرب والاتحاد السوفياتي إلا التعاون لضمان نجاة الجنس البشري. والنظامان المذكوران (الغرب والاتحاد السوفياتي)، كانا سلفاً يشهدان “تقارباً”، وفق ما كتب. وسيكون عليها تعلم العيش معاً، وتعديل الفوارق القومية، واتخاذ خطوات حقيقية نحو حوكمة همومها باتساع الكوكب.
إلا أن أمالريك أمام كل تلك الآمال جاء “بدلو مياه باردة” (أي مناقضاً لحماسة البعض). وفي خريف سنة 1970 تمكن من تهريب مخطوطة قصيرة له، من الاتحاد السوفياتي. وبعد فترة قصيرة ظهر نصه في مجلة “سرفاي” Survey اللندنية. وقد رأى أمالريك في نصه ذاك أن الرأسمالية الدولية و”الشيوعية على النسق السوفياتي” لا تقومان بالتقارب أبداً، بل إنهما تزدادان افتراقاً. حتى أن العالم الشيوعي نفسه كان في خطر الانقسام والتفرق. إذ إن الريبة كانت تزداد بين الاتحاد السوفياتي والصين، وبدا البلدان متجهين بوضوح نحو حرب كارثية (في السنة التي سبقت، أي 1969، كانت معارك قد نشبت بين الاتحاد السوفياتي والصين عبر حدودهما، وأوقعت إصابات كثيرة). كما أن المشكلة الحقيقية مع ساخاروف، وفق ما كتب أمالريك، كانت عجزه عن ملاحظة أن النظام السوفياتي – بإطاريه الوطني والشيوعي اللذين يمثلان صيغة سياسية واقتصادية – كان ذاهباً نحو التدمير الذاتي. وكي يبرز أمالريك فكرته تلك عنون مقالته بـ”هل سيصمد الاتحاد السوفياتي حتى سنة 1984؟”.
مثلت هذه المقالة سعياً دؤوباً قام به منشق مضطهد لتشخيص الضيق والقلق في بلاده بمطلع حقبة برجنيف. إلا أن أمالريك أيضاً خلص في مقالته تلك إلى تحديد عارض سياسي أكثر عمومية: المسار (الهلاكي) الذي تسلكه قوة عظمى، مستسلمة لوهمها عن ذاتها. إذ مع حلول عقد الستينيات، كرست الحكومة السوفياتية وفرضت وجود بلاد كان المواطنون (السوفيات) في عهدي لينين وستالين يظنونها مستحيلة. سلع استهلاكية، وشقق مستقلة للعائلات، وبرنامج فضاء، وأبطال عالميون في الرياضة، وخطوط جوية تغطي العالم بأسره. بهذه الأشياء كلها كان نجاح المجتمع السوفياتي ظاهراً على الملأ. لكن أمالريك، وأكثر من أي مفكر آخر في زمنه، استوعب الحقيقة القائلة إن البلدان تتحلل فقط وفق عملية ارتجاعية. الدول القوية، وكذلك سكانها، تميل ويميلون إلى المحافظة (أي إلى أن يكونوا محافظين) إن تعلق الأمر بالمستقبل. إذ إن “عبادة الراحة”، كما سماها أمالريك، مغوية – وتمثل (عبادة الراحة) الميل الذي تبديه المجتمعات المستقرة في الظاهر للاعتقاد “بأن العقلانية سوف تنتصر” (في النهاية) وأن “كل شيء سيكون على ما يرام”. نتيجة لهذا، وعندما تطرأ أزمة مهلكة، من المرجح أن تكون غير متوقعة، ومحيرة، وكارثية، كما أن أسبابها تبدو تافهة وبديهية، وتبعاتها يمكن معالجتها بسهولة بالغة لو قام القادة السياسيون بالتصرف كما ينبغي، وهي (الأزمة) تبدو أمراً لا يمكن لأحد أن يصدق بأنه بلغ مبلغه هذا.
كذلك، في الإطار عينه، قدم أمالريك ما يشبه منهجاً للانشقاق (أو التغريب) التحليلي. فاعتبر أنه ممكن على المرء في النهاية، حسب ما اقترح، التفكير وفق طريقته الخاصة. ويعني ذاك المنهج، أن يمارس المرء عيشه بموازة أكثر ما كان يستبعد تخيله في سياق تجربة عيشه، ومن ثم يبدأ بالرجوع إلى الوراء، بمنهجية ودقة، منتقلاً من “ماذا لو”، إلى “هنا يكمن السبب”. ولا يتمثل جوهر الأمر هنا بانتقاء المرء دليله الخاص الذي يلائم خلاصة محددة. بل يتمثل بإخراج الذات من فرضية التغيير الخطية – والتفكر للحظة بكيفية أن يقوم مؤرخ مستقبلي ما، بإعادة صياغة مخاوف كانت مستبعدة، واعتبارها مخاوف حتمية.
عمل أمالريك هذا، من وجهة نظرنا في سنة 2020، أي بعد 50 عاماً بالتمام من نشره، يتميز بفرادة أزلية. فالرجل كان مهتماً بكيفية تعاطي القوة العظمى مع أزماتها الداخلية المتعددة – تداعي مؤسسات نظامها الداخلي، دهاء سياسييها الكالحين والمرتشين، والارتعاشات الأولى للتحلل البنيوي في شرعيتها. فقد أراد المفكر السوفياتي المنشق فهم ذاك المنطق المظلم للتحلل الاجتماعي، وكيفية بلوغ الخيارات السياسية المتفردة، نتائجها الكارثية. وجاءت نبوؤته محددة الزمن، تنتهي سنة 1984، بيد أنه ليس صعباً اليوم سماع أصدائها الشبحية. إذ لمعرفة كيفية انتهاء القوة العظمى، يمكن للمرء أن يفعل ما هو أسوأ من دراسة آخر قوة عظمى ابتلعتها تلك النهاية.
اقرأ المزيد
غورباتشوف… أضواء الخارج تلهي عن شرك “رفاق الداخل”
وقائع الأيام الأخيرة في تاريخ الاتحاد السوفياتي
أيام الاتحاد السوفياتي الأخيرة
ميخائيل زوشينكو يروي اضطرابه النفسي في الحقبة السوفياتية
أوكرانيا وبيلاروس ومولدوفا لم تستكمل انفصالها عن الاتحاد السوفياتي
يوم غادر الزعيم السوفياتي قاعة العرض حاكماً على “أندريه روبليف” بالإعدام
بلد على شفير الهاوية
بدأ أمالريك مقالته في تبيان بعض مؤهلاته المناسبة للمهمة (التي سيخوض بها). فهو حين كان طالباً يدرس التاريخ أجرى بحثاً حول “كيفان روس”، الإمارة القروسطية التي أفضت إلى قيام روسيا وأوكرانيا في زمننا الحديث، وقد لاقى المعاناة والمتاعب بسبب بعض ما توصل إليه في بحثه. إذ إنه تعرض للطرد من جامعة الدولة في موسكو لأنه رأى في بحثه أن التجار والمستعمرين الاسكندنافيين، وليس السلاف، هم من كانوا المؤسسين الحقيقيين للدولة الروسية – وذاك رأي مقبول اليوم على نطاق واسع في أوساط المؤرخين، إلا أنه اعتبر في ما مضى مناقضاً للرؤية الرسمية السوفياتية في تناول التاريخ. وأمالريك، كمثقف وصديق للكتاب والصحافيين، كان قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالحركة الديمقراطية في الاتحاد السوفياتي وعرف عن كثب المؤثرين الأساسيين فيها. وهو بالنسبة للناس في الغرب، وفق ما ذكر، كان أشبه بما يمكن أن تمثله “سمكة ناطقة” لباحث في علم الأسماك: ناقل أخبار وأسرار معجزة، من عالم غريب معزول.
والاعتقاد بأن المرء يمكنه القيام بتكهنات سياسية تجاه بلد من البلدان عبر استقصاء تياراته الأيديولوجية، مثل خطأً عظيماً، وفق ما تابع أمالريك. فالناس قد ينسبون أنفسهم إلى معسكرات متنافسة، أو قد يصنفهم خبراء أجانب من ضمن تلك المعسكرات: يساريون متشددون، أو قوميون، أو ليبراليون، وإلى ما هنالك. إلا أن هذه الفئات والتصنيفات تبقى على الدوام غير متبلورة. ومن يشكلونها يظهرون القليل من التوافق فيما بينهم تجاه ما يعد اعتقاداً تقليدياً، أو تجاه برنامج سياسي متناسق.
الطريقة الأفضل للتفكر بالشقاقات السياسية تمثلت برصد وتحديد القطاع الاجتماعي الأكثر عرضة للتهديد بفعل التغيير، وتعيين أي من تلك القطاعات يسعى لتسريع التغيير – ومن ثم تخيل الطريقة التي قد تتبعها الدول للتعامل مع الفوارق بين هذين القطاعين أو هاتين الفئتين. ويود البيروقراطيون والسياسيون في هذا الإطار الحفاظ على أدوارهم. العمال يودون مستويات عيش أفضل. والمثقفون يسائلون الثوابت القديمة المتعلقة بالهوية الوطنية. ويمكن لتلك الانقسامات أن تخلق مشكلة وجودية لمؤسسات سلطة الدولة. إذ إن “الحفاظ على الذات يشكل بوضوح النازع الأساسي” كتب أمالريك. “الشيء الوحيد الذي تريده [الحكومة] هو أن يستمر كل شيء كما كان في السابق: الاعتراف بالسلطات، بقاء الانتلجنسيا صامتة، وألا يهتز النظام بفعل إصلاحات خطيرة وغير عادية”. لكن ماذا يحصل حين تقوم الاختلالات السريعة، والتحولات الاقتصادية، والتطورات الاجتماعية، والانزياحات الجيلية، بجعل استقرار الأوضاع على ما كانت عليه أمراً مستحيلاً؟ القمع هنا يمثل خياراً على الدوام، إلا أن الحكام الأذكياء سيقومون باستخدام سلطتهم على نحو انتقائي – فيلاحقون كاتباً معيناً، مثلاً، أو يقيلون مسؤولاً رفيعاً خرج على القيادة. حتى أن سلطات أكثر تنوراً قد تقوم بضمان الحفاظ على نفسها “عبر تغييرات تدريجية وإصلاحات جزئية، وكذلك عبر استبدال النخبة البيروقراطية القديمة، بفريق أكثر ذكاء وعقلانية”.
لكن على المرء أن يكون متشككاً إزاء درجة الالتزام الحقيقي بتنفيذ الإصلاح من قبل القادة الذين روجوا لوعودهم به. إذ إن الحكومات ماهرة في الاعتراف بالأخطاء في أمكنة وأزمنة محددة، إلا أن القيمين عليها هم قضاة فيضيعون مظالم مكرسة في البنى الداخلية للمؤسسات الحكومية. هكذا كان الحال خصوصاً بالنسبة لقوى عظمى مثل الاتحاد السوفياتي، وفق ما رأى أمالريك. قدرة بلد من البلدان على خوض البحار من دون منافس، وإرسال البشر إلى الفضاء الخارجي، تقلل من حوافز ذلك البلد للنظر إلى داخله ومعاينة ما يتحلل في صميمه. فـ”النظام يعتبر نفسه في ذروة الكمال، فلا يرغب بالتالي في تغيير مسالكه، لا بإرادته الحرة، ولا عن طريق تقديم تنازلات لأحد، أو لأمر ما، بالطبع”. وفي الأثناء، فإن أدوات القمع القديمة (المستمدة من الحقبة الستالينية في حالة الاتحاد السوفياتي) سقطت باعتبارها متخلفة، وغير إنسانية، وهي الآن خارج الاستخدام يغلفها الصدأ. وقد غدا المجتمع أكثر تشابكاً وتركيباً، وحافلاً أكثر بالاختلافات، وأكثر تطلباً تجاه الدولة، لكنه في المقابل، أقل اقتناعاً في أن الدولة قادرة على تلبية حاجاته ومتطلباته. وما بقي في الأعلى هو نظام سياسي أضعف بكثير من أي من يمكنه الاعتراف به – حتى من أولئك الملتزمين بتجديده.
بالطبع لا أحد يمكن أن يفكر بأن مجتمعه يتأرجح عند شفير الهاوية. حتى أن أمالريك عندما كان يتحدث مع رفاقه، أشار إلى أنهم يريدون فقط من الأمور أن تهدأ قليلاً، من دون معرفة كيفية تحقق ذلك. ويميل المواطنون إلى أخذ حكومتهم كمعطى مكرس، كما لو أنه لا يوجد بديلاً حقيقياً لمؤسسات وأساليب (الحكم) التي عرفوها على الدوام. والسخط والاستياء العام حين يطرحان كانا في الغالب (في الحالة السوفياتية) لا يوجهان ببساطة ضد الحكومة، بل بالتحديد ضد أخطاء معينة ترتكبها. “الجميع تغضبهم التفاوتات الموجودة في توزيع الثروة، والرواتب المنخفضة، وحال السكن التقشفية، [و] الافتقار إلى سلع الاستهلاك الضرورية”، كتب أمالريك. وإذ راح معظم الناس يؤمنون بذلك، فإن الأمور كانت تتحسن، وكانوا يرتضون بالتمسك بأيديولوجيا الإصلاح، وآمال التغيير الإيجابي والتدريجي.
الحكومات ماهرة في الاعتراف بأخطاء تحدث في أمكنة وأزمنة محددة، إلا أنها تخطأ بشدة في تقييم المظالم المكرسة في أسس بنيانها
ولغاية تلك النقطة في مقاربته اتبع أمالريك خطاً تحليلياً كان سيبدو مألوفاً بالنسبة لـ ساخاروف وغيره من المنشقين (السوفيات). إذ على الدوام كانت مسألتا الاستقرار والإصلاح الداخلي تتسمان بحالة من التوتر. لكن أمالريك إذاك حقق نقلة نوعية عبر طرحه سؤالاً بسيطاً: أين تكمن نقطة الافتراق؟ إلى متى يمكن لنظام سياسي أن يسعى لصياغة نفسه قبل إثارته واحداً من ردين متطرفين – رد فعل عنيف وكارثي من قبل أكثر المتضررين من التغيير، أو اقتناع صناع التغيير بأن أهدافهم لم يعد بإمكانها التتحقق من خلال مؤسسات النظام الراهن وأيديولوجياته. وهنا حذر أمالريك من أن ميل القوى العظمى للغرور بالنفس والعزلة الذاتية قد يقودها إلى صعوبات خاصة ومعينة. فهذه القوى تعزل نفسها عن العالم، ولا تتعلم سوى القليل من رصيد التجربة البشرية المتراكم. وهي (القوة العظمى) تتخيل نفسها منيعة في وجه العلل والأنواء التي تعصف بأمكنة وأنظمة أخرى. وذاك الميل ذاته قد يتغلغل عبر المجتمع. فتبلغ الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة مرحلة تشعر معها بأنها منفصلة عن نظامها السياسي، ومنفصلة عن بعضها بعضاً. “وذاك الانفصال خلق للجميع– من النخبة البيروقراطية إلى أدنى الطبقات الاجتماعية– صورة عن العالم وعن مكاننا فيه تكاد تكون سوريالية” وفق ما استنتج أمالريك. “لكن كلما طالت مساهمة الحال هذه في إدامة الـ”ستاتوسكو” (الوضع القائم)، جاء انهيارها (القوة العظمى) أسرع وأمضى إذ تغدو مواجهة الواقع محتومة”.
لم يكن ثمة منطق للاقتناع بأن هكذا تفكير قد يهدد حصراً مجموعة محددة من النخبة. إذ لو انعقدت مختلف الظروف، فإن البلد بأسره سيكون الضحية النهائية. وقد حدد أمالريك في مجتمعه (السوفياتي آنذاك) أربعة محفزات لهذه العملية. تمثل المحفز الأول في “السأم المعنوي” الذي تسببت به سياسات خارجية توسعية وتدخلية، إضافة إلى الحرب الأبدية الناتجة من ذلك. وتمثل المحفز الثاني بالضائقة الاقتصادية التي قد يتسبب بها النزاع العسكري المديد – وذاك بمخيلة أمالريك كانت حرباً سوفياتية صينية وشيكة. المحفز الثالث تمثل بحقيقة أن الحكومة قد تغدو أكثر تشدداً تجاه تعابير السخط العامة، وتقوم عنفياً بقمع “الثورات المتفرقة أو أعمال الشغب المحلية المعبرة عن السخط العام”. وحملات القمع تلك، وفق ما رأى، كانت أكثر ميلاً لاعتماد الوحشية حين يتحدر منفذو عمليات القمع – الشرطة أو قوى الأمن الداخلي – من “قوميات مغايرة لقومية من يتظاهرون ويثيرون الشغب”، وهو الأمر الذي سيقوم بدوره “بتعميق العدائية (والشقاق) بين القوميات”.
بيد أن المحفز الأخير الرابع من المحفزات التي تحدث عنها أمالريك، كان الذي جاء ليعلن نهاية الاتحاد السوفياتي، وقد تمثل في حسابات قامت بها فئة محددة من النخبة السياسية رأت أن الضمانة الأمثل لمستقبلها تتجسد في استبعاد علاقتها بالعاصمة الوطنية. وقد افترض أمالريك أن ذاك قد يحصل في أوساط الأقليات الإثنية في الاتحاد السوفياتي “بدايةً في منطقة البلطيق، والقوقاز، وأوكرانيا، ثم في وسط آسيا وعلى طول نهر الفولغا” – هذا التسلسل الذي ذكره جاء صحيحاً تماماً.
أما من خلال فكرته الأكثر عمومية فقد رأى أن النخب المؤسساتية، في زمن الأزمة المستفحلة، تواجه معضلة وضرورة اتخاذ قرار حاسم. هل ينبغي بتلك النخب التشبث بالنظام الذي يمنحها السلطة؟ أم عليها إعادة صياغة ذاتها وتقديم نفسها على أنها صاحبة رؤى أدركت أن السفينة تغرق؟ فالقادة الأذكياء بمناطق الأطراف، خصوصاً إن كان النظام يبدو بمظهر “فاقد السيطرة على البلاد والصلة بالواقع”، يشعرون بحافز إنقاذ ذواتهم، ويقومون ببساطة، في السياق، بتجاهل تعليمات وتوجيهات القادة الأعلى منهم. وفي لحظة عدم استقرار كهذه، قال أمالريك، فإن ضرباً من ضروب الهزيمة الكبيرة– مثل “اندلاع سخط عام جدي في العاصمة، كالاضرابات أو الصدامات المسلحة”– ستكون كافية “لإسقاط النظام”. واستنتج أن ذلك سيحصل في الاتحاد السوفياتي بلحظة ما، بين عامي 1980 و1985″.
متظاهرون في وسط موسكو 1991
متظاهرون في وسط موسكو 1991 (أسوشييتدبرس)
كل البلدان زائلة
بيد أن أمالريك لم يصب تماماً التاريخ الدقيق لتفكك بلده، فأخطأه بسبع سنوات. وكانت محاولة مخائيل غورباتشوف الهادفة إلى إحلال الليبرالية والديمقراطية في الدولة السوفياتية قد أطلقت مجموعة قوى أدت بالاتحاد السوفياتي إلى الاضمحلال، قطعة بعد قطعة، على مدى عام 1991. وفي نهاية تلك السنة تنحى غورباتشوف من رئاسة البلد الذي تلاشى تحت قيادته. لكن في حوليات التشخيص السياسية لأحداث العالم التاريخية، فإن دقة أمالريك تستحق جائزة بلا شك. إذ إن الرجل كان مصيباً تماماً بتناوله العام. فالإصلاح في الحالة السوفياتية كان متعارضاً تماماً مع استمرارية حال الدولة بوضعيتها الموجودة.
وأمالريك كان قد رحل حين بدأ الأكاديميون وخبراء السياسات الغربيون بكتابة المؤلفات التاريخية الكبيرة عن أواخر القرن العشرين: تحذيرات بول كينيدي من مخاطر التمدد الإمبريالي الزائد، وأنشودة فرانسيس فوكوياما الإيحائية حول الديمقراطية الليبرالية، وأطروحة صموئيل هانتينغتون “النيو-عنصرية” (العنصرية الجديدة) عن صدام الحضارات. لكن مع حلول مطلع التسعينيات، عاد عمل أمالريك ليفرض نفسه على أرض الواقع. وتجلى نفاذ بصيرته خصوصاً في ما سوف يظهر بعد الاضمحلال السوفياتي: حفنة متحمسة من الدول المستقلة، ورابطة دول عديدة تتصدرها روسيا، ودخول جمهوريات البلطيق ضمن “فيدرالية أوروبية مشتركة”، أما في وسط آسيا فتجلت نسخة متجددة من النظام القديم، تمزج شيئاً من الطقوس السوفياتية، بالتسلطية المحلية. وقام المحافظون الأميركيون بالاستشهاد بـأمالريك واعتبروه كمثل “كاسندرا السهوب” (كاسندرا، أو ألكسندرا، بحسب الأسطورة الإغريقية هي كاهنة في معبد أبولو اشتهرت بنبؤاتها الصائبة). فيما كان على “العولميين” (أنصار العولمة) والناشطين ضد الأسلحة النووية، الذين راحوا يستحضرون ساخاروف ويمتدحونه، مشبعين أوهامهم عن التعايش مع إمبراطورية طغيانية، بدل الالتفات إلى أمالريك. وهم لو فعلوا هذا الأمر الأخير، فإن ذاك كان ليفرض مواجهة أبكر مع الدولة السوفياتية المترنحة– “سيد برجنيف، حطم هذا الجدار!” (كما كانوا يناشدونه)– وسرع انهيار الشيوعية.
من جهة أخرى، كان ثمة كثير مما أخطأ به أمالريك. فهو لم يصب من ناحية ترجيحه لحرب سوفياتية- صينية، هذا الترجيح الذي شكل إحدى دعائم تحليلاته (على الرغم من أن المرء يمكنه اعتبار النزاع السوفياتي- الأفغاني بمثابة بديل: نزاع مديد، وحرب استنزافية، قام بهما قادة هرمون، وقد أسهم ذاك النزاع بتجفيف مصادر الحكومات السوفياتية وقوض مشروعيتها). كما بالغ أمالريك في الإشارة إلى العنف الذي رافق الانهيار السوفياتي. إذ إن ذاك الانهيار تميز بسلمية فاقت توقعات الجميع، خصوصاً إذا ما فكرنا بتحديات النزاعات الحدودية، والقوميات المتصادمة، وتنافس النخب، تلك التحديات الهادرة ضمن أكبر بلد في العالم آنذاك. وخلال عقود ثلاثة تمكنت واحدة من الدول التي خلفت الاتحاد السوفياتي، روسيا، من إعادة تشكيل نفسها كقوة عظمى لديها القدرة على القيام بأشياء لم يتمكن السوفيات من القيام بها طوال تجربتهم. وتمثلت أبرز قدرات روسيا بفهم واستغلال الانقسامات الاجتماعية الأساسية عند منافسيها، بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية وصولاً إلى المملكة المتحدة، وذلك مع تأثير سياسي واستراتيجي لافت. كذلك، فشل أمالريك في استشراف إمكانية تحول التلاقي الشرقي-الغربي إلى شيء آخر: إلى أوليغارشيات رأسمالية كانت على الدوام مهجوسة بالمراقبة والترصد، وعديمة المساواة في عمقها، وانتقائية في تعاملها مع حقوق الإنسان، ومعتمدة على سلاسل إمداد دولية، وهشة بنيوياً تجاه الأسواق والميكروبات على حد سواء. وكان أمالريك سيفاجأ ربما لو عرف أن هذا الأمر يمثل، على الأقل لفترة معينة، فكرة “التعايش السلمي” التي تناولها ساخاروف في النهاية.
“الصواريخ السوفياتية بلغت (كوكب) الزهرة، فيما جني البطاطا من الأرض في القرية التي أعيش فيها، ما زال يتم يدوياً” كتب أمالريك في القسم الأخير من مقالته سنة 1970. بلده آنذاك كان قد استثمر في اللحاق بمنافسيه، وبذل جهداً كبيراً للمنافسة كقوة عظمى عالمية. لكن ذاك البلد سها عن أشياء أساسية. فمواطنوه كانوا عالقين في محطات مختلفة ومتفرقة خلال مساره للتطور الاقتصادي، وكان فهمهم محدوداً لبعضهم بعضاً، مثلما كان فهم حكامهم لهم. وفي حالة كهذه لم تكن أفكار الالتحاق التدريجي بالديمقراطية، والتعاون المثمر مع الغرب، سوى أوهام، كما أحس أمالريك. بالتالي، وأمام تلك السلسلة من الصدمات الخارجية والأزمات الداخلية، ومطارداً من قبل منافسين أكثر حيوية وقدرة تكيفية، افتقر الاتحاد السوفياتي إلى كثير من الحياة التي كان يمكن للآخرين أن يرونها فيه.
في الاتحاد السوفياتي، حدث تعارض كامل بين الإصلاح واستمرارية الدولة ضمن وضعيتها القائمة
كل البلدان تزول. لكل مجتمع قعره الصخري الخاص، وهو قعر يحجبه الظلام إلى أن يصبح تأثيره وشيكاً. إذ إن الماعز، منذ القرن السادس، كتب أمالريك، راحت ترعى في “الفوروم الروماني” (منتدى الإمبراطورية).
وأمالريك كمنظر تحت وطأة ظروفه الخاصة، كان قدرياً. لقد آمن بأن الاتحاد السوفياتي افتقر إلى الحنكة والسلاسة للانخراط في إصلاحات تزعزع نظامه، وتبقيه على قيد الحياة. لقد كان صائباً في ذلك. لكن مساهمته الأوسع تمثلت في إظهاره مواطنين من دول أخرى ومختلفة البنى، كيفية القلق والانشغال تجاه أحوالهم، على نحو أفضل. إذ إنه قدم تقنية تهدف إلى تعليق أعمق أساطير المرء السياسية، وتحمل المرء على الشروع في طرح أسئلة قد تبدو، هنا والآن، متأرجحة على حافة الهاوية.
هذا المنهج لن يكشف سر الخلود السياسي بالطبع (تذكروا تلك العنزات في الفوروم الروماني). لكن من خلال العمل منهجياً في عمق الأسباب المحتملة لأسوأ نتائج يمكن تخيلها، يمكن للمرء أن يغدو أكثر ذكاءً في التعامل مع الخيارات الصعبة والمبدلة للقوى والتي ينبغي اتخاذها الآن – تلك الخيارات التي ستجعل من السياسة أكثر استجابة للتغيير الاجتماعي، وتجعل أي بلد من البلدان أكثر استحقاقاً للزمن الذي يقضيه على مسرح التاريخ. من هم في السلطة غير معتادين بالتفكير وفق هذا المنهج؟ في أماكن قليلة، وفي أوساط المنشقين والمقتلعين، كان على الناس التحلي بالمهارة في فن التأمل بالذات. كم من الوقت ينبغي أن نبقى هنا؟ ماذا نحمل معنا في الحقيبة؟ كيف يمكنني، هنا أو هناك، أن أكون نافعاً؟ إذ في الحياة، كما في السياسة، نقيض اليأس ليس الأمل. بل هو التخطيط.
اندبندت عربي