قال مدير دار الشؤون الثقافية العامة بالعراق، الدكتور عارف الساعدي، إن ما طرأ مؤخراً من انفتاح بين السعودية والعراق ما هو إلا استئناف للإخوة بين شعبي البلدين. وذكر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن اختيار العراق ضيف شرف في معرض الرياض الدولي المقبل للكتاب هو تتويج لعلاقة البلدين، وأن القوى الناعمة التي تجمع بين البلدين بمقدورها أن تصلح ما أفسدته السياسة، واعداً بمشاركة واسعة للدار بأكثر من 300 عنوان جديد، ومجموعة من المطبوعات والدوريات المهمة… وهنا نص الحوار:
> كيف استعدت الدار للمشاركة في معرض الرياض الدولي للكتاب؟
– دار الشؤون الثقافية ستكون ضمن جناح وزارة الثقافة العراقية، بصفتها واحدة من أكبر مؤسساتها، ودور نشر أخرى تابعة لها، والجناح العراقي الذي أعدته إدارة معرض الرياض سيكون كبيراً، وحصة الأسد فيه لدار الشؤون الثقافية التي ستشارك بأكثر من 300 عنوان، كثير منها عناوين حديثة، بالإضافة إلى مجلاتنا ودورياتنا المعروفة، مثل المورد والأقلام ومجلة التراث الشعبي والثقافة الأجنبية والتركمانية.
> هل يعكس هذا الحضور الحالة الإيجابية التي تشهدها العلاقة بين البلدين؟
– ما طرأ مؤخراً من انفتاح واسع ما هو إلا استئناف حقيقي للأخوة بين العراقيين والسعوديين، وما أفسدته السياسة سترممه القصيدة والقطعة الموسيقية واللوحة، وهذه القوى الناعمة التي يؤمن بها البلدان، وكما يقول أبو تمام: إن يفترق نسب يؤلف بيننا/ أدب أقمناه مقام الوالد، ونحن بيننا نسب وأدب في الوقت نفسه. وهذا المعرض، واحتفاء السعوديين بالعراق ضيف شرف لأهم كرنفال عربي ما هو إلا استئناف لهذه الأخوة، وأعتقد أن الفنون الجميلة، الشعر والمسرح والموسيقى والرواية، هي قوة ناعمة تنفي أي حدود وفوارق وهمية صنعت في يوم ما.
> هل تتفق مع قول إن علّة ما تعيشه المجتمعات العربية هي لأسباب ثقافية وفكرية، قبل أن تكون سياسية؟
– واحدة من مشكلات أمتنا هي المشكلة الثقافية، وهي عميقة متأصلة مرتبطة بتراثنا بشكل عام، وكثير من أبناء الأمة يعيشون في الماضي، ويسحبونه إلى حاضرهم، ويجبرون الآخرين على العيش فيه، وهي مشكلة تبدأ بمناهج الدراسة وبالوعي، من الروضة حتى الكليات، إلى المساجد والجامعات وكل شيء. كما أننا أنتجنا بصفتنا أمة نخباً ثقافية مهمة متطورة، ولكنها في معزل عن طبقات المجتمع الأخرى، ونحن المشتغلين في الأدب والفن قضمنا ما أنتجته الحداثة الغربية، ولكننا في الوقت نفسه خرجنا من أنساق وبيئات ثقافية متخلفة، كما يقول عبد الله الغذامي. إننا نحمل أنساقاً متخلفة، على الرغم من إيماننا بالحداثة والتطور، لكنه إيمان مزعوم عن الحداثة، ومرتبط بالنص الأدبي فقط، ولا ينعكس على سلوك الناس وتحولاتهم، وهذا الأمر مرتبط بثقافة المجتمعات ووعيها ومدى نظرتها إلى المستقبل.
> ما تأثير علاقات عربية طبيعية مع العراق على استعادة دوره الريادي، خاصة في القطاع الثقافي الذي كان مبرزاً فيه؟
– بصراحة، قد تحمل الطبقات الثقافية العراقية، وربما المجتمعية بشكل عام، عتباً كبيراً على الجانب العربي، وينظرون كأن أولاد عمهم العرب تركوهم ما بعد 2003، ودخول الأميركان، وإسقاط النظام، ودخول طبقات سياسية جديدة. العراقيون ينظرون إلى جيرانهم بعين العاتب، الغاضب أحياناً، تجاه تهم التخوين أو الطائفية التي تعرض لها العراقيون. وإزاء ذلك، فإن أي نافذة تأتي من إخواننا العرب هي بمثابة ضوء، ومحل ترحيب لتجاوز عتب السنوات الماضية، وحتى الأصوات التي تعارض الانفتاح العربي لا تمثّل الجميع قطعاً.
> لكن ما تبرير الأصوات التي قد تعترض على أي خطوة من شأنها تقريب العراق إلى محيطه العربي الطبيعي؟
– في العراق أحزاب وتيارات ومذاهب وطوائف، وفيه ولاءات مختلفة التجاذبات؛ بالنتيجة، نقدّر هذا الحجم من الولاءات، ولكنها إلى الآن لم تظهر في شكل مقاطعة أو اعتراض على هذا الانفتاح، لأنه لا يوجد عاقل يسمح بمقاطعة العراقيين لجيرانهم وأشقائهم. كما أنه لا يوجد عربي عاقل يريد للعراق أن يكون ضعيفاً لكي يهيمن عليه. على الإطلاق، والعراق القوي قوي لجيرانه، ويتحقق ذلك بعلاقات متوازنة مع الجميع، وبالخروج من حرج المحاور، بعد أن كان محسوباً في فترة من الفترات على أحدها. ومعرض الرياض هو تتويج لباب واسع يفتح بين العراق والسعودية.
> في السياق نفسه من علاقات العالم العربي بجيرانه، هناك تحديات ثقافية وسياسية، إذا صح وصفها بـ«الفرسنة» و«العثمنة»، تهدد هوية العالم العربي وثقافة شعوبه… هل هذا صحيح؟
– هذا هو الخطأ الذي ارتكبه الأتراك والإيرانيون، أو أي جار يمكن أن يرتكب خطأ دعم تيارات سياسية لا تصنع له أفقاً ومستقبلاً، حينما تكون قوياً في بلد ما، عليك أن تبني مرفقاً ثقافياً أو صحياً أو تعليمياً، وليس بالقوى الخشنة التي تستنزف المليارات. والخطأ الجسيم الذي يرتكبه جيران العرب هو تدخلهم في صناعة السياسة، ومحاولة تحويلها، وهو أمر قد يحدث لبضع سنوات، لكنه لا يستمر، ولا يبقى في وجدان الناس منه شيء، وربما تهيمن لسنوات، وقد تحظى بحليف قوي ما، ولكن بوصلة التيارات السياسية تتغير، بينما اليد البيضاء داخل العراق هي التي تستمر وتديم هذه العلاقات، وكلنا نعرف الويلات التي وقعت على الشعب العراقي بسبب هذه السياسات غير المتزنة.
> كان العراق لعقود مسرحاً خصباً للثقافة والسياسة والتاريخ المعاصر… ماذا حصل للنخبة العراقية؟ هل تتحمل اللوم أم هي مجني عليها؟
– أعتقد أنه خلال فترة النظام السابق، جرى تهميش النخبة العراقية، تلك التي خرجت من الطبقة الوسطى في البلد، من طبقة كبار الموظفين والأدباء والأطباء والقضاة، وهي التي قامت ببناء البلد، وشكلت الدولة العراقية الحديثة بعد سنة 1921، ولكنها انهزمت أمام صعود العسكر منذ حكمهم للعراق بعد 1958، واستبدادهم بالأمر منذ 1968 حتى 2003. كانت خلالها القوى الثقافية من نخب ومبدعين مكسورة، في المنافي أو في ركاب السلطة بعد ترويضها بشكل كامل، أو هي معارضة تعاني من التنكيل. ونموذج علي الوردي في تفكيكه للحالة العراقية خير مثال، ولكنه منع من التدريس، ومنعت كتبه من التداول، وأخيراً مات ميتة غريبة، وشيّعه بضع أفراد في بداية التسعينات، وهو من خيرة النخب لدينا، ومثله الجواهري، وما حدث له من النفي في براغ، وعودته القصيرة، ثم ما لبث أن استأنف هجرته، وآثر الموت في مقبرة الغرباء؛ النخب الثقافية انكسرت نرجسيتها أمام النخب العسكرية.
> كأنك تنفي عن النخب أي مسؤولية تاريخية تجاه تحمّل واجباتها الأخلاقية أو تبني دور سلبي من بعضها؟
– سلطة البعث من 1968 استدرجت عدداً كبيراً من النخب الثقافية، بعضها قديرة فكراً وأدباً ومعرفة، ولكنها روضت فيما بعد، وأصبحت في ركاب السلطة، وأنا أعتقد أن المثقف الذي لا يكون نقدياً لا يمكن الوثوق بإنتاجه. أما بعد 2003، فالأمر اختلف أيضاً، وصدحت هناك أصوات نخبوية ثقافية، لكن الحياة اختلفت، ومواقع التواصل الاجتماعي سحبت البساط كاملاً من هذه النخب، وأضحت غير مؤثرة، ويمكن الآن لمدون شاب لديه ملايين المتابعين أن يؤثر في الناس ويغير من مزاجهم، في حين لا يمكن لأي مفكر عربي أن يستقطب 10 إعجابات لمنشور يكتبه، فيه كثير من الوعي والثقافة، حتى فكرة النخب انسحبت كثيراً إلى الخلف، ومواقع التواصل الاجتماعي أجهزت بالكامل عليها، ومرحلة ما بعد الحداثة قصمت ظهر كل نخبوي. في المقابل، لو جرى إنصات حقيقي من السياسيين لهذه النخب ربما شاهدنا بعض التغيير المعقول، ولكن للأسف الصراخ السياسي أعلى ضجيجاً من صوت المعرفة والعقل.
> كيف تنظرون بصفتكم نخبة عراقية مثقفة إلى مرحلة التحولات في السعودية، واحتمالات انعكاسه على المشهد العربي عموماً، من واقع محورية السعودية في هذا المشهد، بصفتها مصدراً مؤثراً فاعلاً رئيسياً في العالم العربي والإسلامي؟
– خلال السنوات الأربع الأخيرة، رأينا هذا الانفتاح الكبير الذي صنعه الأمير محمد بن سلمان، ووجدنا عالماً آخر في السعودية؛ أداءً مختلفاً في السياسة، انفتاحاً هائلاً لصناعة الحياة، بدلاً عن صناعة الرثاء، وسيكون ذلك مصدر إلهام كبير، والسعودية على باب واسع لمرحلة من الأداء السريع والانفتاح الهائل وتقبل التعدد وصنع فضاء جديد يستوعب أنماط الثقافة، وستكون التجربة قابلة للتصدير ونموذجاً للإلهام.
الشرق الاوسط