ملاحظات أخيرة حول الانتخابات العراقية المبكرة

ملاحظات أخيرة حول الانتخابات العراقية المبكرة

لا تزال بروباغندا الخطابات «الوطنية» المزيفة تهيمن على المشهد الانتخابي رغم ادراك الجميع لطبيعة النظام الطائفي القائم في العراق، وهو نظام تصر عليه القوى السياسية المهيمنة على القرار – تحديدا الفاعل السياسي الشيعي- في سياق استمراء جماعي لهذه «الشيزوفرينيا» وتعاطيهم معها بوصفها حالة «طبيعية.
فالعصبوية الدينية او القومية أو المذهبية حاكمة في تشكيل الأحزاب السياسية أمس واليوم، ومراجعة قوائم الأحزاب المسجلة في دائرة الاحزاب السياسية في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تثبت هذه الحقيقة. وقوائم التحالفات الرئيسية التي تم تسجيلها في الانتخابات المبكرة التي ستجري كما هو مفترض، في العاشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قامت جميعها على أسس طائفية بحت؛ فنحن أمام تحالفات شيعية وسنية وكردية وتركمانية صافية، مع «تطعيمها» بأسماء لبضعة أفراد ينتمون إلى قومية أو مذهب مختلف، ليس لكسر السمة القومية أو المذهبية لهذه القوائم، وإنما لاستخدامها للحصول على مقاعد في بعض الدوائر اعتمادا على طبيعة التركيبة السكانية لتلك المنطقة، والتجربة أثبتت أن هؤلاء سيكونون أمام خيارين في حالة الفوز؛ الانشقاق عن التحالفات/ الكتل التي صعدوا من خلالها او باسمها، أو تمثيل وجهة نظر القوى الحاملة لهم وليس تمثيل جمهورهم بطبيعة الحال!
سُجل 21 تحالفا انتخابيا للمشاركة في الانتخابات، 18 منها تشارك على المستوى الوطني في أكثر من محافظة، و3 منها محلية تشارك في محافظة واحدة. الرئيسية فيها، والمرشحة للحصول على مقاعد في مجلس النواب القادم بنيت على أسس هوياتية صريحة، مع ترشيح بضعة أفراد ضمنها ينتمون إلى هويات مغايرة ضمن بعضها. تمثل القوى السياسية الشيعية تحالفات قوى الدولة الوطنية، ودولة القانون، والفتح، وسائرون، وهي القوى التي احتكرت التمثيل الشيعي طوال السنوات الماضية، بعيدا عن تنقلاتها البينية. وتمثل القوى السنية الرئيسية تحالفات عزم وتقدم وجماهيرنا هويتنا على المستوى الوطني، و «التحالف العربي في كركوك» و «تحالف الجبهة العربية الموحدة» المحليان في كركوك، وباستثناء التحالف الأخير، ستحصل على غالبية المقاعد السنية في هذه الانتخابات. أما كرديا فهناك تحالف واحد هو «تحالف كردستان» الذي يضم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني رفقة حركة التغيير الذي سيحصد غالبية المقاعد في محافظة السليمانية، مع بعض مقاعد كركوك. اما الأحزاب التركمانية فقد حاولت أن تتجمع للمرة الأولى ضمن تحالف «جبهة تركمان العراق الموحد» الذي ضم 8 أحزاب، لكن من دون أن يعني ذلك عدم وجود فعاليات تركمانية أخرى تشارك ضمن تحالفات هوياتية (على سبيل المثال ضمن تحالف فتح) أو ضمن قوائم منفردة (كما في حالة النائب ثابت العباسي المشارك ضمن قائمة حسم للإصلاح).
أما التحالف الرئيسي الوحيد الذي ضم كيانا مغايرا هوياتيا، والذي سينافس على بعض المقاعد، فهو تحالف «العقد الوطني» الذي ضم 6 قوى شيعية، فضلا عن الحزب الإسلامي العراقي السني، ولكن الأخير في حالة فوزه ببعض المقاعد، كما حصل في انتخابات العام 2018، سيكون حاضرا في كل الاجتماعات «السنية» بعيدا عن تحالفه، للتفاوض حول «حصته» من الحصة السنية!

إن التحالفات الانتخابية في العراق لا تبنى على أسس أيديولوجية او فكرية، وانها تبنى على أسس هوياتية على المستوى الأفقي، وان أي محاولة لكسر هذه الهوياتية سرعان ما تصدم بطبيعة البنية السياسية للنظام السياسي ككل

في المقابل هناك تحالفات أخرى، بعضها أصبح تقليديا، مثل «التحالف المدني الديمقراطي» الذي يشارك للمرة الثالثة في الانتخابات، حاولت، ولاتزال تحاول، كسر البنية الطائفية للأحزاب والتحالفات العراقية، ولكن تجربتها ما زالت تواجه العديد من التحديات؛ فقد شارك هذا التحالف في انتخابات العام 2018 واستطاع الحصول على مقعد وحيد، ولكن النائب الفائز سرعان ما ترك هذا التحالف لاحقا وانتقل إلى تحالف سائرون، الأمر الذي اضطر التحالف حينها إلى إصدار بيان يتهم فيه النائب المنشق بأنه «لا يختلف عن غيره ممن ركبوا موجة المدنية وتباكوا على العراق وادعوا بأنهم ضد الطائفية والعنصرية وليسوا في الحقيقة سوى طلاب سلطة ومال»! وبعضها تحالفات جديدة ما زالت غير قادرة على التنافس بشكل جدي.
نظام الكوتا هو الآخر فرض على الأقليات العمل ضمن تشكيلات عصبوية، فثمة 9 مقاعد للأقليات، 5 المسيحيين، ومقعد واحد لكل من الأيزيديين والشبك والصابئة والكرد الفيلية، وإن كان هذا لا يمنعهم من المشاركة ضمن القوائم الهوياتية، فغالبا ما يحصل الأيزيديون على مقاعد ضمن الحزب الديمقراطي الكردستاني، ويحصل الشبك والكرد الفيلية على مقاعد ضمن التحالفات الشيعية. قلنا مرارا إن التحالفات الانتخابية في العراق لا تبنى على أسس أيديولوجية او فكرية، وانها تبنى على أسس هوياتية على المستوى الأفقي، وان أي محاولة لكسر هذه الهوياتية سرعان ما تصدم بطبيعة البنية السياسية للنظام السياسي ككل، وبطبيعة السلوك الطائفي للناخبين أنفسهم! وكان القائمة العراقية في انتخابات العام 2010 النموذج الأبرز في هذا السياق، فرغم البروباغاندا التي رافقت هذه القائمة بوصفها «وطنية» عابرة للهويات، لكن الوقائع أثبتت أنها كانت محاولة فاشلة بامتياز، فقد تحكمت العوامل الهوياتية في تفكيك هذه القائمة بعد مدة قصيرة من إعلان النتائج، وكان النموذج الثاني القائمة الوطنية التي حصلت على 21 مقعدا في انتخابات العام 2018 الأسرع في تفككها، فقد انشق النواب السنة الـ 17 الذين فازوا على هذه القائمة بعد إعلان النتائج مباشرة!
وإذا كانت الأحزاب/ التحالفات الكردية والشيعية، المشكلة على أساس هوياتي، قادرة عمليا على ضمان «وحدتها» لأسباب موضوعية عديدة، على رأسها قدرة «الردع»! فان التحالفات السنية هي الأكثر هشاشة، بسبب غياب القدرة على «الردع» أولا، وبسبب طبيعة العوامل التي تحكم تشكيل هذه التحالفات، وهي ثلاثية: المال السياسي، والعلاقة بالدولة وأجهزتها ومن بينها القدرة على التأثير على نتائج الانتخابات عبر التزوير، وعدد الأصوات المحتمل التي يمكن ان يحصل عليه المرشح! والجميع يتعامل مع هذه التحالفات على انها مجرد وسيلة لعبور الانتخابات، وهم مستعدون للتخلي عن هذه الوسيلة وتبني أخرى بعد إعلان نتائج الانتخابات مباشرة لضمان صفقة أكثر ربحا؛ فالمصداقية والالتزام لا مكان لهما في البازار الانتخابي السني! ستكون الانتخابات القادمة هي الانتخابات الخامسة لبرلمان ما بعد إقرار الدستور العراقي، وجميع المؤشرات تؤكد أن العراق لا يزال بعيدا جدا عن أحزاب/تحالفات انتخابية قائمة على أسس أيديولوجية أو فكرية، أو بعيدة عن المحدد الهوياتي، حتى ولو من خلال معادلة وهمية تم تسويقها طويلا وهي أن (طائفي + طائفي = كتلة وطنية)! وأن الانقسام المجتمعي، والصراع السياسي، مهما حاول «المهيمنون» التمويه عليه، لن يكون سوى دورانا في حلقة مفرغة لن تنتج سوى هدوءا هشا قابلا للكسر مع أي متغير!

القدس العربي