انتهت أعمال المناقشة العامة رفيعة المستوى للدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة، بعد الاستماع إلى نحو 191 خطابا. من بين المتحدثين 99 رئيس دولة (منهم ملوك وأمراء) وثلاثة نواب رئيس، و51 رئيس حكومة بينما تمثلت 34 دولة على مستوى وزير. وبلغ عدد النساء اللواتي خاطبن الجمعية العامة 18 امرأة فقط أي بنسبة 9% تقريبا، وهذا يظهر أن العالم بمجمله ما زال ذكوري التوجه.
دولتان فقط لم تخاطبا الجمعية العامة هما ميانمار وأفغانستان؛ الأولى لأن الأمم المتحدة لم تعترف بقيادة الانقلاب الذي وقع في 1 شباط/فبراير 2021 بقيادة قائد الجيش وزعيم الانقلاب الجنرال مين أونغ هلينغ، وأطاح بالحكومة المنتخبة ووضع أونغ سان سو تشي في السجن، وقتل مئات المتظاهرين، أما الثانية فهي أفغانستان، لأن الأمم المتحدة لم تعترف بعد بحكومة طالبان، لكنها أحسنت فعلا عندما منعت ممثل حكومة أشرف غني البائدة بالحديث، على عكس مجلس الأمن الذي سمح له أن يخاطبه مرتين، بضغط أمريكي وغربي.
كان أول المتحدثين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تلاه رئيس الجمعية العامة الجديد عبد الله شاهد (وليس «شهيد كما أخطأ العديدون في نطق اسمه) من جزر المالديف الذي تسلم الرئاسة من سلفه التركي فولكار بوزكير يوم الثلاثاء 14 أيلول/سبتمبر. بعد ذلك وكما جرت العادة منذ إنشاء الأمم المتحدة كانت الكلمة الأولى للبرازيل يليها مباشرة رئيس البلد المضيف، أي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وقد حددت الجمعية مدة 15 دقيقة لكل متحدث التزم غالبيتهم بالوقت، إلا أن البلد المضيف وبعض الدول المهمة وذات القضايا الملحة تجاوزت الوقت دون أن يسبب ذلك إزعاجا كبيرا. المشكلة عندما يخاطب الجمعية أحد البلدان الصغيرة التي لا مشاكل لها مع أحد، ويبدأ ذلك الرئيس ينظر على العالم ويطرح فلسفة كونية تذكرنا بنظريات القذافي، الذي تكلم عام 2009 لمدة 93 دقيقة مستغلا كون رئيس تلك الدورة الليبي علي التريكي، الذي ما كان ليجرؤ على مقاطعته. في هذه الدورة شطح رئيس دولة صغيرة جدا شطحات فلسفية في أصول التنمية وكيفية السيطرة على التغير المناخي، لدرجة أن نبهته رئاسة الجمعية بضرورة الاختصار فاعتذر قائلا «أترك بقية خطابي ليسجل في سجلات الأمم المتحدة كوثيقة وأنهي كلمتي».
لكن الذي لفت انتباهي كذلك خطابا رئيس وزراء الهند نارندرا مودي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيث، تحدث كلاهما بنبرة الدولة العظمى التي تعمل على حل مشاكل العالم كله. مودي دعا جميع شركات الدواء للمجيء إلى الهند لإنتاج اللقاحات هناك، ومن ثم توزيعها على العالم. وأردوغان بشّر بأن قريبا سينزل اللقاح التركي المسمى «تركوفاك» وسيوزعه مجانا على فقراء العالم.
ثلاثة مواضيع مشتركة
تكررت في هذه الدورة ثلاثة مواضيع لم يقفز عنها أحد تقريبا. فبعد أن يمر المتحدث على الديباجة الافتتاحية وتهنئة الرئيس الجديد وشكر الرئيس السابق للدورة 75 (إلا ممثل الإمارات الذي تجاهل الرئيس السابق للدورة المنصرمة التركي بوزكير) يدخل في القضايا التي تخص بلده، والتي عادة تستغرق جل الخطاب.
جائحة كوفيد -19
الغالبية الساحقة من الوفود بدأ حديثه عن آثار جائحة كوفيد -19 التي شملت العالم بأسره، وأثبتت مرة أخرى لمن لا يريد أن يصدق أن سلامة الكون ورفاهيته وحماية سكانه أمر يخص كل الدول، فقيرها وغنيها، ضعيفها وقويها. لم تنج دولة من آثار هذا الوباء الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وللتعافي من هذا الخطر الكبير لا بد أن يواجه بشكل جماعي من قبل المجتمع الدولي «لا أحد آمن إن لم يكن كل واحد من آمن» كما أكد الأمين العام غوتيريش مرارا. وأشار المتحدثون إلى أن آثار هذه الجائحة لن تزول باحتوائها، فقد تركت آثارا عميقة في الاقتصاد والمنظومات الصحية والمالية والاجتماعية والعمالة وقطاع الأعمال والسياحة، التي تستغرق سنوات للتعافي منها. وهذا يتطلب مد يد التعاون والتضامن والتنسيق. وأخطر ما في هذا الداء انعدام العدالة في توزيع اللقاحات، حيث إن 90% من سكان القارة الافريقية مثلا لم يتلقوا اللقاح، بينما وصلت نسبة الذين تلقوا اللقاح في الدول المتقدمة نحو 80% أو يزيد. وكما قال الأمين العام حول غياب العدالة في الحصول على اللقاح: «إنها تهمة أخلاقية لحالة عالمنا. الناس قد يفقدون الثقة ليس فقط في حكوماتهم، لكن في المبادئ نفسها التي تقوم عليها الأمم المتحدة. فالوعود، بعد كل شيء، لا قيمة لها إذا لم ير الناس نتائج». لقد أثبتت هذه الجائحة أن التحديات الكونية المتمثلة في الكوارث الطبيعية والأوبئة وانتشار الفقر المدقع والفجوة الرقمية والأسحة النووية وغيرها، بحاجة إلى معالجة سريعة لإنقاذ الأجيال المقبلة من كوارث محققة. وقد دعا الأمين العام إلى مؤتمر رفيع المستوى لبحث تلك التحديات خلال العام المقبل. «نحن على شفا الهاوية» كما قال، ولا بد من عملية إنقاذ سريعة.
التغير المناخي
تطرق الكثير من المتحدثين إلى موضوع التغير المناخي وضرورة العمل الفوري لإنقاذ كوكب الأرض والحفاظ على ما نصت عليه اتفاقية باريس للمناخ، بحيث يتم حصر ارتفاع درجة حرارة الأرض بما لا يزيد عن 1.5 درجة مئوية، وهذا يتطلب خفض الانبعاثات بنسبة 45% بحلول عام 2030
و100% بحلول عام 2050. وللسيطرة على التغير المناخي هناك ضرورة لبناء الثقة بين الشمال والجنوب، خاصة في مجالات تمويل التحول نحو الطاقة النظيفة، وهذا يتطلب أن تفي الدول الغنية بتعهداتها وتقدم 100 مليار سنويا للدول النامية لمكافحة آثار المناخ والتحول إلى الاقتصادات الخضراء، عن طريق «فرض ضرائب على الكاربون والتلوث بدلاً من دخل الفرد». والعالم بانتظار مؤتمر المناخ (COP26) في غلاسكو في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل للخروج بخطة عملية تحول الوعود إلى برنامج عمل.
مضى الزمن الذي كانت تنسحب فيه الوفود العربية عندما يعتلي ممثل الكيان المنصة ليلقي كلمته.. العكس هو الصحيح
أفغانستان
فرض موضوع أفغانستان نفسه على الدورة السادسة والسبعين بمجملها. ولم تكد تخلو من ذكرها كلمة رئيس وفد، والمرور على الدروس المستفادة من النهاية غير السعيدة للولايات المتحدة في هذا البلد العيي على الانصياع لحكم الأجنبي. وبينما كررت الولايات المتحدة والدول الأوروبية والدول السائرة في ركابها، المقولة نفسها التي تدعو طالبان إلى تشكيل حكومة تشاركية وحماية الأقليات وإعطاء المرأة حقوقها من التعليم والعمل وغير ذلك، ومنع المنظمات الإرهابية من العمل على الأرض الأفغانية قبل الاعتراف بحكومة طالبان، حاولت بعض الدول أن تستلهم درس فشل الاستخدام الأرعن للقوة لفرض نمط من الحكومات العميلة على شعوب الدول النامية والفقيرة. كما دعت إلى فصل الإنساني عن السياسي، وتقديم المساعدات العاجلة خوف انهيار الاقتصاد. كما دعت الصين وروسيا وغيرهما إلى رفع التجميد عن الأموال الأفغانية في بنوك الولايات المتحدة وأوروبا، التي تصل إلى عشرة مليارات. فانهيار الاقتصاد الأفغاني ليس في مصلحة أحد، خاصة دول الجوار.
فلسطين الغائبة
في ما عدا كلمات رؤساء كل من إيران وتركيا والمالديف والأمير القطري وجنوب افريقيا، الذين أسهبوا في التحدث عن القضية الفلسطينية، فقد غابت القضية عن معظم كلمات الوفود، إلا من ترداد جمل خشبية معروفة تدعو إلى الحل القائم على الدولتين، والعودة إلى المفاوضات حسب قرارات الشرعية الدولية التي ستؤدي إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وعاصمتها القدس الشرقية. رئيس وزراء الكيان الصهيوني نافتالي بينيت، تجاهل القضية الفلسطينية وكأنها لا تستحق الذكر من دولة موصوفة رسميا حسب تقرير الأمم المتحدة وهيومان رايتس ووتش ومنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية ميرتس، بأنها دولة فصل عنصري. ووجه جل خطابه نحو إيران، مقتفيا آثار سلفه سيئ الصيت والسمعة بنيامين نتنياهو. أما الرئيس محمود عباس، وإن كان جل كلمته حول القضية الفلسطينية، إلا أنها كانت موجهة للداخل الفلسطيني ردا على انخفاض شعبيته لأدنى مستوياتها ومطالبة العديدين من المثقفين والمفكرين والناشطين الفلسطينيين باستقالته ونزع الشرعية عنه. وقد طرح خيارات ثلاثة في كلمته، إما حل الدولتين أو العودة إلى قرار التقسيم أو الدولة الواحدة التي يتساوى فيها جميع المواطنين، ثم أعطى مهلة لإسرائيل مدتها سنة واحدة لإنهاء الاحتلال، أو أنه «سيعيد النظر في موضوع الاعتراف بإسرائيل». وهذا التهديد لا يعني شيئا فهذه ليست أول مرة يهدد فيها عباس بسحب الاعتراف، أو بإلغاء أوسلو، أو بحل السلطة، وهو يعرف سلفا أنه غير قادر على ذلك حتى لو كان صادقا في هذا التهديد.
لقد مضى الزمن الذي كانت تنسحب فيه الوفود العربية عندما يعتلي ممثل الكيان المنصة ليلقي كلمته. العكس هو الصحيح، فقد تشاور بينيت مع رئيسي وفدي البحرين والإمارات قبل أن يلقي كلمته في آخر أيام المناقشة العامة. إنه الزمن العربي الرديء الذي بدأ من اتفاقيات كامب ديفيد 1979 مرورا باحتلال الكويت 1990 فتوقيع اتفاقيات أوسلو 1993 ووادي عربة 1994 ثم غزو العراق 2003 وصولا إلى الانقسام الفلسطيني 2007، وأخيرا اتفاقيات إبراهيم التطبيعية 2020. فهل نلوم العالم إذا تراجع تأييده للقضية الفلسطينية؟
عبدالحميد صيام
القدس العربي