أثار قرار السلطات الإسرائيلية في أكتوبر ٢٠٢١، بالموافقة على بناء المزيد من الوحدات الاستيطانية في مستوطنات الضفة الغربية الكثير من التعليقات الرافضة والمتحفظة من قبل السلطة الفلسطينية والأطراف الإقليمية والدولية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. والقرار، الذي يعد الأول خلال حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، وإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والأول بعد حرب غزة الرابعة يمثل تطبيقاً لسياسات بينيت اليمينية، وتحدياً أمام حكومة بايدن وجهود الحفاظ على التهدئة بعد الحرب. وفي حين يؤيد بينت الاستيطان ويرفض التسوية السياسية، تدعم إدارة بايدن سياسات تؤيد التسوية السياسية وتدعم التهدئة تنفيذاً لتوجيهات تؤكد على أهمية التركيز على قضايا أكثر أهمية للولايات المتحدة الأمريكية من قضية السلام في الشرق الأوسط.
وإلى جانب ما تمثله سياسة التوسع في الاستيطان بصفة عامة، ببناء المزيد من المستوطنات أو توسيع المستوطنات القائمة، من مخالفة للقانون الدولي وما ينص عليه من أدوار بالنسبة لسلطة الاحتلال، يمثل قرار التوسع في مستوطنات الضفة الغربية عائقاً إضافياً أمام فرص التسوية السياسية التي تتآكل مع الوقت. ويتمثل التحدي الأساسي للقرار في تأثيره على الدولة الفلسطينية المنتظرة، حيث يقف أمام فرص إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
ويتعلق جزء من التطورات التي تحيط بالاستيطان بتصاعد التوجهات اليمينية في إسرائيل وتأثيرها على التحالفات السياسية، بالإضافة إلى دور ترامب، وما يمكن تسميته “عامل ترامب” وتأثيره على القضية الفلسطينية فيما يخص التطورات القائمة على صعيد الاستيطان والقدس والتصور النهائي للتسوية. ويربط اليمين الإسرائيلي بين الاستيطان وخطاب التمسك بالأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي يشار لها بالاسم التوراتي في تلك الحالة وهو يهودا والسامرة، من مداخل دينية تعيد استخدام الدين من أجل تبرير الاحتلال في السيطرة على المزيد من الأراضي أو رفض الانسحاب منها، وبالمجمل رفض التسوية على أساس حل الدولتين. كما ساهم الحديث عن المستوطنات القابلة للحياة، والنمو الطبيعي للمستوطنات القائمة وفقاً لتفاهمات مرحلة ترامب، في دعم التوسع في المستوطنات من أجل التأثير على مخرجات التسوية عندما يتم التفاوض على القضايا المؤجلة للتسوية النهائية.
ولم تقف السياسات الإسرائيلية عند حدود السيطرة على منازل فلسطينية لصالح جماعات استيطانية، وإخلاء ومحاولات إخلاء المنازل في حي الشيخ جراح وسلوان وبطن الهوى لنفس السبب، وامتدت إلى تجريف المقبرة اليوسفية في القدس من أجل تحويلها إلى حديقة توراتية. كما تتخذ الحكومة الإسرائيلية السياسات والخطوات التي تعمل على ترسيخ السيطرة على المزيد من الأراضي، وبدلاً من التراجع عن خطط الاستيطان الجديدة والاستجابة للانتقادات المتصاعدة دولياً ضد مخطط الوحدات الاستيطانية الجديدة، ولو مرحلياً، عاد الحديث في إسرائيل عن إمكانية ضم أراضٍ من الضفة الغربية بشكل رسمي.
وتستهدف خطوة الضم في حال حدوثها، والتوسع في الاستيطان، كما يحدث، تقليص فرص الحل السياسي القائم على خيار الدولتين في اللحظة والمستقبل. كما تفرض تلك الأوضاع المزيد من الضغوط على الحكومات الإسرائيلية القادمة، وتزيد من سيطرة اليمين على السياسات الإسرائيلية بما يقيد فرص إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة. وبهذا، ورغم رفض الاستيطان من جانب الأطراف المعنية، سمحت السياسات القائمة على أرض الواقع للمستوطنات بالنمو والامتداد بهدف أن تتحول إلى ثابت أو رقم صعب في المفاوضات السياسية.
ويضاف إلى الوقائع السابقة الموقف السلبي للحكومة الإسرائيلية القائمة من المسار السياسي، والتأكيد على أن التسوية السياسية غير مطروحة خلال فترة تلك الحكومة، وبشكل خاص خلال الفترة التي يشغل فيها بينيت منصب رئيس الوزراء في ظل تأكيده المستمر على عدم وجود فرص للمسار السياسي أو للدولة الفلسطينية في الوقت الراهن. وفي ظل حرص الأطراف المشاركة في الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة الأمريكية على بقاء الائتلاف الحكومي في إسرائيل، تبدو الفرص مهيأة للتوسع في الاستيطان. وتساهم تلك السياسات بدورها في الضغط على السلطة الفلسطينية وخيار التسوية السياسية من جانب، وعلى الفصائل الفلسطينية ومطالبتها بالتحرك في مواجهة تلك السياسات وانعكاساتها المباشرة والمستقبلية من جانب آخر. وبهذا، تعيد تلك الأحداث إلى الواجهة الأجواء التي ساهمت في شن حرب غزة الرابعة في مايو ٢٠٢١، وما يمكن أن تقود إليه قرارات التوسع في المستوطنات والسيطرة على الأراضي من اشتباكات وتصعيد للصراع في حالة توفرت العوامل المساعدة وخاصة فشل جهود صفقة تبادل الأسرى وتخفيف الحصار عن قطاع غزة.
ويساهم الناتج النهائي المتصور من التحركات الإسرائيلية في ملف الاستيطان ودعمه والتسوية وتجميدها في تفسير ردود الفعل التي صاحبت القرار الخاص ببناء الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة الغربية. وفي حين يرفض البعض مثل الاتحاد الأوروبي القرار بسبب تأثيره المباشر على التسوية ومستقبلها، يرفض البعض الآخر تلك التحركات بسبب التأثير المحتمل على الأوضاع السياسية في المنطقة وفرص تصعيد العنف والوصول إلى حالة الحرب كما هو الوضع بالنسبة للموقف الأمريكي الرافض للتصعيد في القضية والإقليم. في حين تنطلق بعض المواقف الرافضة للتحركات الإسرائيلية الأخيرة، كما هو الحال بالنسبة للموقف المصري، من مخاطر التأثيرات المباشرة والممتدة للقرار على صعيد التهدئة، بالإضافة إلى التأثيرات المستقبلية على الحقوق الفلسطينية وفرص التسوية السياسية والاستقرار في الإقليم في اللحظة والمستقبل.
القرار الأخير: خطوة ضمن خطوات ممتدة
تضمنت التطورات الأخيرة مصادقة مجلس التخطيط الأعلى، التابع للإدارة المدنية الإسرائيلية، في اجتماع هو الأول منذ ما يقرب من عام، على مخطط لبناء وحدات استيطانية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية. وتضمن القرار، الصادر في ٢٤ أكتوبر ٢٠٢١، بناء ٣١٤٤ وحدة استيطانية وفي حين حصلت ١٨٠٠ وحدة استيطانية من الإجمالي على تصريح نهائي لمباشرة البناء، تم الدفع قدما بخطط بناء ١٣٤٤ وحدة استيطانية تحتاج إلى تصاريح إضافية لتصبح نهائية.
وتتوزع الوحدات التي تقع في المنطقة (ج)، والتي تشكل بدورها حوالي ٦٠٪ من الضفة الغربية التي يفترض أن تؤسس للدولة الفلسطينية المستقبلية، والخاضعة بالكامل للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية [1] على ٣٠ مستوطنة وبؤرة استيطانية في الضفة الغربية والقدس. وتقع بعض المستوطنات في عمق الضفة الغربية، وهي المستوطنات المثيرة للجدل بالنسبة للطرف الأمريكي حالياً، حيث حصلت إدارة بايدن على وعود من وزير الدفاع بيني غانتس بالسيطرة على قرارات الاستيطان، والاقتصار على المناطق القريبة من الخط الأخضر مع تجنب التوسع في عمق الضفة الغربية من أجل تجاوز الإشكاليات المرتبطة بمثل تلك الخطوات في المستقبل.[2]
وسبق القرار الصادر في النصف الثاني من شهر أكتوبر الفائت، إعلان القناة السابعة الإسرائيلية عن مخطط لبناء ١٠٤ وحدات استيطانية في مستوطنة جيلو جنوب غربي القدس المحتلة. وتقوم مجموعة كارتا الإسرائيلية للمشاريع العقارية ببناء الوحدات على قطعة أرض اشترتها في وسط المستوطنة. ويكتسب المخطط، الذي يتضمن بالإضافة إلى الوحدات السكنية مشروعاً تجارياً، أهميته من موقعه على محور السكك الخفيفة وهو الأمر الذي يزيد من أهمية المشروع بالنسبة للمستوطنين، كما يساعد في محاصرة القدس وفصلها عن الضفة الغربية مضيفاً لتحديات حل الدولتين.
وإضافة لما سبق تم الإعلان في ٢١ سبتمبر ٢٠٢١ عن اعتزام الحكومة إنشاء معابد يهودية في مستوطنات الضفة ومناطق أخرى في البلاد وطرحها ضمن خطة الأولويات الوطنية للحكومة، وهي الخطوة التي تضيف لجهود تكريس الاستيطان، وترسيخ الصبغة الدينية لتلك المستوطنات من أجل تهديد محاولات السلام وفرص إقامة الدولتين. وفي هذا السياق، نشر وزير شئون الأديان، ماتان كاهانا تغريدة له على “تويتر” في ٢٠ سبتمبر الفائت أعلن من خلالها دعم بلاده لإنشاء المعابد اليهودية في بعض المدن والبلدات الإسرائيلية ومن بينها مستوطنات الضفة الغربية، مؤكداً على أن القرار يعتبر أولوية بالنسبة للحكومة.[3] ومن المقرر وفقاً لتلك المخططات توزيع ٦,٢٥ مليون دولار على ٣٠ مستوطنة بدعوى وجود نقص في المعابد أو المباني المخصصة من أجل الطقوس اليهودية، وأن ميزانية العام الجاري ستخصص للمستوطنات.
وإلي جانب الخطط التي أعلنت عنها الحكومة بالفعل، قالت حركة السلام الآن الإسرائيلية أن الحكومة تعمل على تنفيذ ٧ خطوات استيطانية كبرى في الأراضي المحتلة، بما فيها التقدم في ٣ مشاريع استيطانية ضخمة بالقدس الشرقية ومحيطها. وأكدت أن الحكومة لم تحافظ على “الوضع الراهن” في ما يتعلق بالاستيطان وعملت بنشاط على “تعزيز الاستيطان وتعميق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية”.[4]
ورغم التقارب الزمني الواضح بين توقيت الإعلان عن تلك الخطط، إلا أنها ليست خطوات جديدة بشكل كامل، وتتعلق بعض الخطوات المعلنة، بالإضافة لما سبق، بمخططات وقرارات صدرت خلال فترة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو. وكان يفترض الإعلان عن خطة بناء الوحدات السكنية في الضفة الغربية قبل شهرين ولكن تم تأجيل القرار من قبل الإدارة المدنية الإسرائيلية من أجل تحقيق أهداف سياسية تتجاوز الداخل الإسرائيلي إلى العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وتجاوز الخلافات التي صاحبت حرب غزة الرابعة وانعكاساتها على الرأي العام الأمريكي. ومن ضمن الأسباب التي أدت إلى التأجيل، عدم رغبة بينيت في أثارة المزيد من التحديات قبل أو خلال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس الماضي. كما حرص بينيت خلال الزيارة والحديث مع بايدن على تأكيد استمرار حكومته في السماح للمستوطنات القائمة بالنمو مع الوعد بعدم ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، وبهذا جاء القرار الخاص بالوحدات الاستيطانية بعد فترة من اللقاء في محاولة لتمرير الفكرة قبل الإعلان عنها رسمياً وهو ما ينعكس بالتالي على رد الفعل الأمريكي.
وبالإضافة إلى الوحدات الاستيطانية أعلنت الحكومة الإسرائيلية الموافقة على ١,٦٠٠ وحدة سكنية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو القرار الذي يمكن تبريره بوصفه محاولة لتمرير خطط الوحدات الاستيطانية الجديدة بوصفها خطوة ضمن سياق أوسع يتضمن احتياجات السكان في الضفة، على الرغم من أن القرار لا يتناسب مع الاحتياجات الفلسطينية، ولا مع عدد السكان حيث يعيش في الضفة الغربية أكثر من ٢,٥ مليون فلسطيني مقابل ٤٤٠ ألف مستوطن. كما لا تتناسب تلك السياسات مع المسئولية الدولية لسلطة الاحتلال وكل ما يتعلق بوضع المستوطنات من جانب ومتطلبات التسوية السياسية من جانب آخر.
ويمثل الرقم المعلن من وجهة نظر فلسطينية جزءاً بسيطاً للغاية من الاحتياجات الحقيقية في ظل صعوبة موافقة إسرائيل على البناء الفلسطيني في المنطقة (ج)، مع رفض الغالبية العظمي من الطلبات التي تقدم. وخلال الفترة من ٢٠١٦ و٢٠١٨، وافقت وزارة الدفاع على ٢١ طلب من أصل ١,٤٨٥ طلباً فلسطينياً للحصول على تصاريح بناء في المنطقة (ج)، بنسبة ٠,٨١ بالمائة فقط من الطلبات المقدمة.[5] وإلى جانب صعوبة الحصول على موافقة رسمية، لا يتم تنفيذ كل الطلبات التي يتم الموافقة عليها بالضرورة. وفي حين وافق مجلس الوزراء الأمني عام ٢٠١٩ من حيث المبدأ على ٧٠٠ تصريح بناء للفلسطينيين، وهو القرار الذي تم التعامل معه بوصفه محاولة لمنع محكمة العدل العليا من منع المزيد من عمليات هدم الممتلكات الفلسطينية على أساس أنه من المستحيل على الفلسطينيين البناء بشكل قانوني في ظل الأوضاع القائمة، ومحاولة التجاوز عن الانتقادات الدولية ضد إسرائيل بسبب عدم الموافقة على طلبات البناء للفلسطينيين، تم في الواقع، إصدار عدد قليل للغاية من تصاريح البناء المفترضة من الرقم المعلن في ٢٠٢٠، وهو الأمر الوارد تكراره في تنفيذ المخطط الجديد.
المستوطنات في الضفة وتقليص فرص الدولة
بشكل عام، وبعيداً عن الجدل الخاص بعدم شرعية مفهوم الاستيطان في حد ذاته وتقسيماته بين استيطان رسمي واستيطان غير رسمي من وجهة النظر الإسرائيلية، تضم الضفة الغربية مع القدس الشرقية ١٤٥ مستوطنة كبيرة و١٤٠ بؤرة استيطانية عشوائية (غير مرخصة من قبل الحكومة الإسرائيلية).[6] وبلغ عدد المستوطنين حتى ٢٠٢١ نحو ٦٦٠ ألف إسرائيلي، يعيش ٢٣٠ ألفاً منهم في القدس الشرقية ومحيطها، في حين تعيش الأغلبية، ٤٤٠ ألفاً، في الضفة الغربية، وتحديداً في الكتل الاستيطانية الكبرى، ويشكلون ١٤ بالمائة من سكان الضفة.[7]
ولا يتوقف توسع المستوطنات عند قرارات إنشاء وحدات سكنية جديدة فقط حيث ترتبط المستوطنات بالسيطرة على الكثير من الأراضي بشكل رسمي وغير رسمي بمبررات تشمل تقديم الخدمات وشق الطرق التي تربط المستوطنات بعضها ببعض أو تربط المستوطنات بأراض دولة إسرائيل غرب الخط الأخضر وإنشاء المناطق الصناعية وغيرها من الخطوات التي تغير تضاريس الضفة الغربية.[8]
وتوضح الخريطة رقم (١) تطور عدد المستوطنات الرسمية، المعترف بها من قبل السلطات الإسرائيلية، في الضفة الغربية خلال الفترة من ١٩٦٧ وحتى ٢٠١٨ حيث يشير اللون الأزرق إلى إسرائيل والأصفر إلى الضفة الغربية، في حين تعبر النقاط الزرقاء عن المستوطنات الرسمية. ويتضح كيف زاد عدد المستوطنات منذ السبعينات مع زيادة ملحوظة خلال الثمانينات وما بعدها، بما فيها فترة ما بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣.
شكل رقم (١) تطور عدد المستوطنات المعترف بها من السلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية ما بين ١٩٦٧– ٢٠١٨
المصدر: المستوطنات الإسرائيلية بالضفة الغربية: ماذا تعرف عنها؟ ولماذا أنشئت؟،” موقع بي بي سي،١ يوليو ٢٠٢٠.
ويعيد الجدل حول المستوطنات وسلوك المستوطنين إلى الواجهة الحديث الذي دار بين الفلسطينية مني الكرد، من سكان حي الشيخ جراح في القدس، والمستوطن أمريكي الجنسية يعقوب فاوتشي، الذي يسكن جزءاً من منزل العائلة المهددة بالتهجير. وفي الحديث الذي دار خلال التطورات التي قادت إلى حرب غزة الرابعة، أعلن فاوتشي ما اعتبر المنهج الحاكم للمستوطنين بقوله: “إذا لم أسرقه أنا (المنزل)، سوف يسرقه شخص آخر”. بالإضافة إلى تبريره تواجده في المنزل، وهو الأمريكي الغريب عن القضية، بالرغبة في التأكد من أن المنزل “لن يفقد في أي اتفاقية سلام مستقبلية”. كما أعاد الحدث وتفاصيل حديث فاوتشي مع الكرد وتصريحاته في لقاء تلفزيوني خلال الأحداث الجدل حول الاستيطان ومعناه وآليات تنفيذه وأهدافه الحقيقية، وخاصة حقيقة عدم ارتباط فاوتشي موضوعياً ودينياً بالصراع أو التسوية وأنه مجرد رقم إضافي في عملية الاستيلاء على المنزل أو الأماكن والمساحات التي يفترض أن تكون ضمن الدولة الفلسطينية المستقلة.[9] كما أعاد فاوتشي التركيز على أهمية مفهوم المستوطنات القابلة للحياة، وكيف يتحول الوجود إلى آلية للسيطرة على المنازل بوصفها أملاك يهودية مع طرد المواطنين الفلسطينيين ورفض الاعتراف بالملكية الفلسطينية على تلك المنازل.
وبعيداً عن الدين ومحاولة تأسيس علاقة بينه وبين الاستيطان، تقدم السلطات الإسرائيلية الكثير من الامتيازات والمحفزات من أجل السكن في المستوطنات والعمل ضمن المناطق الصناعية في الضفة الغربية عبر تخفيض أسعار الأراضي ودعم تشغيل القوى العاملة، والامتيازات الضريبية الكبيرة التي تقدم لعدد من المستوطنات. وإلى جانب المستوطنات المعترف بها من قبل السلطات الإسرائيلية تشجع السلطات إقامة بؤر استيطانية قروية في الضفة يتم من خلالها الاستيلاء على مساحات من الأراضي الزراعية الفلسطينية. وبسبب السياسات الاستيطانية تم تقسيم الضفة الغربية عرضياً من الشرق إلى الغرب من خلال كتلة المستوطنات التي أقيمت جنوب بيت لحم وكتلة المستوطنات التي أقيمت وسط الضفة الغربية. وتضم الكتلة الأولى من الغرب مستوطنتين هما بيتار عيليت وإفرات، ومستوطنات يجمعها مجلس إقليمي غوش عتصيون وتطوق جميعها بيت لحم وقراها. وتضم الكتلة الثانية مستوطنات أريئيل ورحليم وعيلي ومعليه لبونه وشيلو والبؤر الاستيطانية التي حولها، وتقسم تلك الكتلة الضفة الغربية عرضياً وتمتد حتى سفوح الجبال المطلة على منطقة الأغوار.[10]
وتهدف إسرائيل من دعم السكن والعمل في المستوطنات والمناطق الصناعية المقامة فيها إلى مضاعفة عدد السكان، وكذلك الخدمات والطرق المصاحبة بشكل يجعل من الصعوبة التفاوض على إخلاء المستوطنات من وجهة النظر الرسمية. ويعتبر الجناح المؤيد للمسار السياسي في إسرائيل أن سياسة حكومة بينيت تقوم على أساس تنفيذ توجهاته المؤيدة للاستيطان وتفضيل “أرض إسرائيل” على الديمقراطية والهوية، واستنتاج فشل حل الدولتين وطرح تصورات أخرى غير قابلة للتنفيذ.[11]
وبشكل عام جاء الإعلان عن بناء الوحدات الجديدة دعماً لمواقف إسرائيلية أكدت على عدم حدوث تغيير في خطط الاستيطان رغم تغير الإدارة الأمريكية، واستمرار إدارة بينيت في التحرك فيما يخص المستوطنات وفقاً لما تم التفاهم عليه خلال فترة ترامب- نتنياهو حين سمحت إدارة ترامب لإسرائيل بالاستمرار في بناء المستوطنات في الضفة الغربية ما دام لم يتجاوز البناء المجتمعات القائمة. ومما يساعد على استمرار هذا التوجه العام، وفقاً لما يتم الإعلان عنه إسرائيلياً، أن إدارة بايدن تحدثت بشكل عام عن عدم الموافقة على بناء المستوطنات ولكن بدون وضع سياسات أو خطوط محددة للنقاش مع الجانب الإسرائيلي. وأعاد الموقف الإسرائيلي وما صاحبه من إحياء للحديث عن ضم المستوطنات إلى دولة إسرائيل الحديث عن خطة الضم التي دافع عنها نتنياهو وحاول تطبيقها قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي تحمل في جوهرها تطبيقاً عملياً لخطة ترامب للتسوية والمعروفة باسم صفقة القرن بشكل أو آخر. ورغم عدم تحديد نتنياهو للتفاصيل الخاصة بفكرة الضم وحدود ما يتم ضمه من المستوطنات القائمة، ساهمت بعض القيود المرتبطة بردود الفعل الفلسطينية والإقليمية والدولية في تقييد فرص الإعلان الرسمي على الخطة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ٢٠٢٠.
بدوره ساعد التفاهم الذي تم التوصل إليه خلال فترة ترامب بشكل كبير في توسع المستوطنات، حيث زادت المشاريع الموافق عليها مقارنة بالوضع القائم خلال فترة الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. وفي العام الأخير من حكم ترامب، وتحديداً خلال الفترة من ١ نوفمبر ٢٠١٩ وحتي ٣١ أكتوبر ٢٠٢٠، تمت الموافقة على وتفعيل خطط بناء ٩,٣٠٠ وحدة استيطانية جديدة في مستوطنات الضفة، وحوالي ٤٠٠ وحدة في القدس الشرقية، في حين وصل عدد الوحدات التي تم الموافقة عليها في العام السابق على الفترة المذكورة إلى ١٣,٦٠٠ وحدة استيطانية في الضفة و٢,٠٠٠ وحدة في القدس الشرقية.[12] وبشكل عام، تمت الموافقة على ٢٧ ألف وحدة استيطانية خلال سنوات حكم الرئيس ترامب،[13] ووفقاً للمعدل السنوي وصلت الزيادة في عدد الوحدات الاستيطانية التي تم الموافقة عليها والبدء في تنفيذها أو وضعها في مراحل التنفيذ في فترة حكم ترامب إلى ٢٨ بالمائة مقارنة بفترة حكم أوباما السابقة عليه.[14] وفي حين ترى بعض الأصوات أن تغيير السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية منح فرصة للقضية الفلسطينية مقارنة باستمرار ترامب والتوسع الاستيطاني، يرتبط التقييم الحقيقي بقدرة إدارة بايدن على إدارة العلاقات مع إسرائيل، عبر الضغط والحوافز، من أجل تجميد الاستيطان في وقت تعمل حكومة بينيت على تجميد السلام. ويمكن من خلال تجميد الاستيطان وجهود تهويد المستوطنات وغيرها من التحركات الخلافية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، والحفاظ على الأقل على الوضع الراهن، توفير فرصة للتسوية السياسية في المستقبل. وعلى الرغم من صعوبة القيام بخطوات مماثلة في ظل الائتلاف الحكومي القائم في إسرائيل، ورغبة إدارة بايدن في عدم بذل الكثير من الجهد في قضية التسوية، ولكنها خطوات مهمة من أجل الحفاظ على فرص التسوية السياسية.
ويؤدي واقع الاستيطان والتطورات التي تشهدها القضية الفلسطينية عبر سنوات إلى تصاعد الأصوات التي تطالب بتجاوز فكرة حل الدولتين والعمل على تأسيس دولة واحدة، وهو الأمر الذي ينتهي بشكل غير مباشر في خانة دعم الأوضاع القائمة والمستوطنات القابلة للحياة ويرسخ فكرة مسبقة عن فشل خيار الدولتين ويقيد من فرص المتاح للجانب الفلسطيني في اللحظة والمستقبل. وتكرس تلك التصورات وتكرارها، بكل ما يحيط بها من حديث عن المستوطنات والمستوطنين والعنف الممارس والأبعاد الدينية للمستوطنات، تعظيم رؤية تستبعد تسوية النزاع وفقاً لحل الدولتين الذي تؤكد على أنه غير ممكن ولم يعد قابلاً للتطبيق على أرض الواقع. وبهذا، بدلاً من تركيز الجهود على إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة يتزايد الحديث عن صعوبة تحقيق هذا الهدف، وهو ما يساهم، ليس فقط في تعقيد القضية وتفريع النقاش، ولكن في تهميش المسار السياسي وكل ما ارتبط به من مقترحات بشكل يعيق التسوية السياسية وينعكس على المواقف الشعبية التي يترسخ لديها تصور أن المستوطنات وجدت من أجل البقاء وأنها وصلت إلى وضع لا يمكن التراجع عنه، أو أن المستوطنات تقدم فرصاً أفضل لدولة إسرائيل في المستقبل.
وينعكس هذا الاتجاه بدوره على استطلاعات الرأى العام وموقفها من فكرة حل الدولتين، وبعد أن كانت نسبة تأييد حل الدولتين ٧١ بالمائة بالنسبة للفلسطينيين و٦٨ بالمائة بالنسبة للإسرائيليين عام ٢٠٠٦، انخفضت تلك النسبة في عام ٢٠١٨ لتصل إلى ٣٦ بالمائة من الفلسطينيين و١٩ بالمائة فقط من اليهود الإسرائيليين و٥٦ بالمائة من عرب الداخل،[15] في حين وصلت نسبة التأييد بين الفلسطينيين في مارس ٢٠٢١ إلى ٤٠ بالمائة وبين الإسرائيليين إلى ٤٢ بالمائة.[16] وبالإضافة إلى تأثر الرأي العام بالأوضاع المحيطة بالاستطلاعات والتقدم أو التراجع في مسار المباحثات السياسية وغيرها من المواقف والظروف المؤثرة على النتائج، يحتاج الخيار المتفق عليه والقائم على حل الدولتين إلى موقف دولي رافض للمستوطنات ورافض للمبررات التي تقدم من أجل الحفاظ عليها في المستقبل بشكل يمنع قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، والتأكيد على أولوية الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة بوصفها الخيار الأكثر استدامة والمؤيد من الأطراف المعنية. ويحتاج التعامل مع هذا التحدي إلى تفكيك الفجوة بين الرؤية القائلة بأن المستوطنات تحولت إلى واقع لا يمكن تغييره، وبين التعامل مع الاستيطان بوصفه أداة سياسية تم توظيفها في خدمة السيطرة على الأراضي الفلسطينية وضرورة طرح حلول مدنية للتعامل معها إسرائيلياً ودولياً من أجل التوصل إلى حلول سياسية قابلة للتنفيذ.
المواقف الفلسطينية والإسرائيلية: خلافات لا تغير السياسات
أدى القرار الإسرائيلي بالتوسع في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية عبر الإعلان عن خطط بناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة إلى تزايد الانتقادات من قبل الجناح اليساري في الحكومة الإسرائيلية بالإضافة إلى السلطة الفلسطينية وغيرها من الأطراف المعنية بالتسوية السياسية. ويعود السبب الأساسي وراء النقد المتزايد لما تمثله الضفة الغربية بالنسبة للدولة الفلسطينية المنتظرة من أهمية وفقاً لمسار التسوية السياسية، وتأثير الاستيطان على تحقيق هذا الهدف. ومما يعقد الأوضاع عدم وجود مفاوضات سلام جوهرية بين إسرائيل والسلطة منذ أكثر من عقد، ومعارضة بينيت للمسار السياسي والدولة الفلسطينية.
وكما هو متوقع، انتقد رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتيه القرار الإسرائيلي وطالب الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل. كما ثمّن الجانب الفلسطيني المواقف الأمريكية والأوروبية، وخاصة بعد سنوات حكم ترامب التي غابت فيها المعارضة الأمريكية وحل محلها التأييد العلني. ومن جانبها، تعاملت العديد من الفصائل الفلسطينية مع الخطوة الإسرائيلية بوصفها فرصة لتأكيد فشل المسار السياسي وأهمية المقاومة في استعادة الحقوق الفلسطينية ومطالبة السلطة الفلسطينية بمراجعة مواقفها. وبشكل عام، تعيد المخططات الإسرائيلية للواجهة مخاطر فكرة المستوطنات القابلة للحياة والنمو الطبيعي، وانعكاساتها الممثلة في نمو المستوطنات على حساب الدولة الفلسطينية القابلة للحياة بناءً على المسار السياسي الذي دشن رسمياً مع اتفاقية أوسلو ١٩٩٣. وعلى الرغم من احتمال تراجع الضغوط على إسرائيل بعد فترة، كما يتكرر عادة، يظل التحدي قائماً ويتجاوز حدود قرار بناء وحدات استيطانية جديدة إلى غيره من القرارات التي تصب في نفس النتيجة وتقلص مع الوقت فرص الوصول إلى دولة فلسطينية قابلة للحياة وتفرض واقعاً لا يمكن الرجوع عنه بحكم الجغرافيا والديموغرافيا وجهود التهويد.
وعلى الجانب الإسرائيلي، عكست المواقف الانتماءات الحزبية والمواقف السياسية المختلفة في الائتلاف الحكومي المكون من أحزاب لها توجهات سياسية مختلفة تتراوح من القوميين المتطرفين الذين يدعمون الاستيطان والتوسع فيه، إلى اليسار الذي يؤيد المحادثات السياسية وحل الدولتين. وفي حين رحب وزير الإسكان والتعمير زئيف إلكين، من حزب الأمل الجديد اليميني، بتسويق المناقصات، أكد وزير الصحة ورئيس حزب ميرتس اليساري، نيتسان هوريتس، أن حزبه “لن يوافق على التحركات التي تضر بفرص التوصل إلى حل”.[17] وفي حين تحدث هوريتس عن التزام الحكومة بالحفاظ على “الوضع الراهن من دون بناء مستوطنات جديدة، وبدون إقامة نقاط استيطانية أمامية جديدة، وبدون قرارات مهمة جديدة من شأنها تغيير الوضع على الأرض”[18]، قالت حركة “السلام الآن” المعارضة للاستيطان أن “التزام الحكومة الجديدة بالوضع السياسي الراهن قد تم الكشف عن أنه قفزة في الطريق إلى استمرار سياسة الضم التي انتهجها نتنياهو”.[19]
بدوره أعاد وزير الخارجية يائير لبيد التأكيد على التزام الحكومة بعدم بناء مستوطنات جديدة مع السماح بالنمو الطبيعي للمستوطنات القائمة. وفيما يتعلق بملامح سياسته خلال السنوات الأربع القادمة، أشار إلى “القتال من وقت لآخر حول المستوطنات والفلسطينيين والأمن والاقتصاد”.[20] ولا تحمل تصريحات لبيد الجديد بالنظر إلى سياسة الحكومة القائمة على تأجيل المسار السياسي مع الحفاظ على التهدئة التي تسمح للائتلاف بالبقاء، مع استبعاد الحرب والاستمرار في العمل وفقاً لتفاهمات مرحلة ترامب- نتنياهو مع بعض الإضافات التي يضعها بينيت للحفاظ على مكانة الحكومة داخلياً بوصفها حكومة يمينية لا تقل عن حكومة نتنياهو في الدفاع عن المستوطنات وحماية أمن إسرائيل كما تؤكد عبر تصريحاتها المختلفة.
وفي حين تطرح الخلافات والمواقف السياسية المتعددة داخل الحكومة الإسرائيلية التساؤل حول قدرة الائتلاف الحاكم على الاستمرار، وهو الأمر الذي تحول إلى هدف رئيسي للعديد من الأطراف المعنية خاصة الموقف الأمريكي، إلا أن الأمور لم تصل إلى حد القطيعة بعد. وكما حدث عند لقاء أعضاء حزب ميرتس مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، في سبتمبر الماضي، دون موافقة بينيت ودون الإعلان عن معارضته بشكل يهدد الائتلاف، أكد هوريتس أن الائتلاف لن يتأثر بالخلاف حول المستوطنات وأن الميزانية سوف تتم الموافقة عليها قبل الموعد النهائي في ١٤ نوفمبر ٢٠٢١ دون تغيير. كما استبعد وزير الدفاع بيني غانتس حل الحكومة رغم الخلافات بين الكتل الائتلافية، مؤكداً على التزام الجميع باحترام الاتفاقيات الائتلافية الموقعة مهما كانت الاختلافات القائمة، وأولوية المصادقة على مشروع قانون موازنة الدولة بعد ثلاث سنوات كانت فيها الدولة تدار بدون ميزانية. وفي ٤ نوفمبر الجاري (٢٠٢١) تم الموافقة على موازنة عام ٢٠٢١،[21] مثيرة الكثير من الجدل حول الاستيطان ومؤكدة على قدرة الائتلاف على التواجد والتماسك في وجه المعارضة والتحديات الناتجة عن الاختلافات القائمة داخله.
بهذا، يمكن القول إن الهدف الأساسي من السياسات الاستيطانية، بما تشمله من زيادة الوحدات السكنية وزيادة أعداد المستوطنين، هو إخراج المستوطنات أو الكتل الاستيطانية الكبيرة من المسار السياسي المستقبلي والاحتفاظ بها ضمن دولة إسرائيل. وتساهم عملية البناء ضمن النمو الطبيعي للمستوطنات في خلق دولة فلسطينية غير قابلة للحياة بما يبرر ردود الفعل الرافضة والمطالبة بتجميد المستوطنات، وهي المطالب المتجددة والمستمرة مع كل خطوة إسرائيلية مماثلة.
المواقف الدولية: معارضة شبه دائمة وتأثيرات شبه غائبة
تعد المستوطنات غير قانونية وفقاً للقانون الدولي، وهو الأمر الذي تؤيده معظم الدول المعنية وتتعامل معه بأساليب مختلفة بما فيها مقاطعة المستوطنات والمنتجات المرتبطة بها وغيرها من الأنشطة، بالإضافة إلى المطالبة بتجميد المستوطنات وعدم التوسع فيها. ورغم ثبات تلك الرؤية ساهمت عدة اعتبارات في زيادة الاهتمام بالقرارات الإسرائيلية الصادرة في أكتوبر الماضي بخصوص المستوطنات وخاصة حرب غزة الرابعة، والتهدئة الهشة، واحتمالات التصعيد من حرب في غزة أو الجبهة الشمالية مع حزب الله إلى حرب إقليمية، بالإضافة إلى تعدد المشكلات الإقليمية والدولية ومحاولة الحد من النزاعات وتصعيد الأوضاع القائمة في الإقليم، إلى جانب أنه القرار الأول من الحكومة الإسرائيلية القائمة، وبعد فترة تغيرات نتجت عن سياسة ترامب في القضية وانعكاساتها السلبية.
وبهذا شهد القرار الإسرائيلي الصادر في أكتوبر ٢٠٢١ ردود فعل غاضبة من الأمم المتحدة والقوى الإقليمية والدولية. وأكد منسق الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، تور وينسلاند، خلال إفادة في مجلس الأمن يوم ٢٧ أكتوبر ٢٠٢١، إن “تجميد خطط الوحدات الاستيطانية الإسرائيلية يجب أن يصبح دائماً”، مطالباً إسرائيل بوصفها سلطة احتلال بضمان أمن الفلسطينيين.[22] كما أكد على أن “جميع المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي، ولا تزال تشكل عقبة كبيرة أمام السلام، ويجب أن تتوقف على الفور”.[23]
بدوره انتقد الاتحاد الأوروبي الموقف الإسرائيلي، وطالب بتجميد القرار وإيقاف عملية توسيع المستوطنات. وجاء استياء الاتحاد الأوروبي متماشياً مع ردود فعل الاتحاد خلال وبعد حرب غزة الرابعة حيث يتحول الدعم الاقتصادي والمشاريع التنموية والسكنية المختلفة إلى جزء من خسائر الحرب، وعملية مستمرة من تقديم المعونات والتدمير وتقديم المزيد من المعونات من أجل بناء ما تم تدميره. وقال الناطق باسم الاتحاد: “إن المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي وتشكل عقبة رئيسية أمام تحقيق حل الدولتين والسلام العادل والدائم والشامل بين الطرفين”. كما أكد على أن الاتحاد “لن يعترف بأي تغييرات على حدود ما قبل ١٩٦٧، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، بخلاف تلك التي يتفق عليها الطرفان”، وطالب الحكومة الإسرائيلية بوقف البناء وعدم المضي قدماً في المناقصات المعلنة.[24]
على الصعيد الأمريكي، جاء الإعلان عن الوحدات الاستيطانية الجديدة مخالفاً لتعهد حكومة بينيت بخفض التصعيد والصراعات مع الفلسطينيين، وبمثابة تحدى لإدارة بايدن الذي وعد بالالتزام بمواقف أكثر تشدداً فيما يخص الاستيطان اتساقاً مع المواقف الأمريكية التي خرج عنها ترامب، مع مطالبته بخفض التصعيد من أجل الحفاظ على مسافة تباعد مطلوبة بالنسبة له عن الشرق الأوسط وقضاياه. وتمثل المستوطنات اختباراً مهماً في ظل موقف ترامب الذي اعتبر مغايراً للمواقف العامة، بما فيها المواقف الأمريكية السابقة على إدارته التي أعلنت في ٢٠١٨ أنها لا تعتبر المستوطنات مخالفة للقانون الدولي، مؤيدة للموقف الإسرائيلي الذي يرى أن تلك المناطق لا تخضع للاحتلال ولكن تم الاستيلاء عليها من الأردن في حرب دفاعية.
واعتبر اتصال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بوزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس واعتراضه على قرار الموافقة على تخطيط وبناء الوحدات الجديدة أعلى مستوى نقلت من خلاله إدارة بايدن إلى حكومة إسرائيل اعتراضها وعدم ترحيبها بقرار البناء الجديد مقارنة برسائل أخرى تم تبادلها بشكل أكثر هدوءاً وعلى مستويات أدنى أو تصريحات من قبل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية. ويمكن تفسير تلك الخطوة بحقيقة أن القرار الإسرائيلي هو القرار الأول خلال حقبة بايدن، وأنها جاءت بعد حرب غزة الرابعة التي أعادت الولايات المتحدة الأمريكية إلى القضية الفلسطينية بدون رغبة حقيقية ووسط جدل متصاعد في الداخل الأمريكي حول الدعم المقدم إلى إسرائيل واستخدامه ضد الحقوق الفلسطينية، بالإضافة إلى تناقض تلك الخطوة مع السياسة المطلوبة أمريكياً والقائلة بالحفاظ على حكومة إسرائيل ودعم الائتلاف، مع الحفاظ على التهدئة وعدم تصعيد الأحداث مرة أخرى. بالإضافة، إلى حاجة الإدارة الأمريكية إلى إنتاج وترسيخ صورة مغايرة عن فترة ترامب من خلال الحفاظ على سياسة تسمح بوجود مساحة من التواصل مع الجانب الفلسطيني وتدعم الأطراف الإقليمية المؤيدة للمسار السياسي، وتتميز بوجود بعد أخلاقي وقيمي في القضايا السياسية عبر علنية النقد والرفض.
وعلى الرغم من الاعتراض الأمريكي العلني على المخططات الأخيرة، وما نشر في الإعلام الإسرائيلي من إجراء محادثة هاتفية متوترة بين بلينكن وغانتس، وتأكيد غانتس في المحادثة على أنه قلص نطاق البناء بقدر الإمكان، مع الوعد بالقيام بالمزيد من الخطوات من أجل الفلسطينيين، تستبعد التصريحات الإسرائيلية تصعيد الموقف بشكل حقيقي مع الإدارة الأمريكية، وتؤكد أن الإدارة الأمريكية لن تمنع توسيع الاستيطان على الرغم من المعارضة القوية والعلنية، وأنها لا تهتم كثيراً بالتوسع الاستيطاني ولن تمانع تحركات مماثلة في المستقبل. ومن خلال الأحاديث التي تمت مع الإدارة الأمريكية، بما فيها خلال زيارة بينيت للولايات المتحدة الأمريكية، تؤكد التصريحات على تفهم الجانب الأمريكي للوضع السياسي في المنطقة وعدم الرغبة في حدوث تدهور في العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية.
وتستطيع حكومة بينيت تقديم نفسها للغرب بوصفها حكومة هشة تواجه العديد من التحديات وتحتاج إلى تمرير قرارات صعبة للداخل الإسرائيلي وغيرها من الخطوات التي يمكن أن تعيد المشهد إلى حالات سابقة من المخططات والرفض ثم القبول الدولي المتحفظ في ظل سياق أوسع يتم فيه تقديم بعض المكتسبات للسلطة الفلسطينية وسكان قطاع غزة. ويضيف لهذا التحرك الدخول في مناقشات الموافقة على الموازنة في نوفمبر ٢٠٢١، وإمكانية التوصل إلى تفاهمات جديدة تبدو فيها حكومة بينيت قوية في مواجهة اتهامات رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو لها بالضعف وعدم القدرة على حماية أمن إسرائيل من أجل الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع الربط بين المكتسبات التي تقدم للجانب الفلسطيني والموقف الأمريكي، وتسويق تلك التحركات بوصفها تنازلات من قبل الحكومة الإسرائيلية من أجل حماية العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين. وتفسر تلك الجزئية الخطوات التي أعلن عنها غانتس بعد الانتقادات الأمريكية مثل الدعم المالي للسلطة من أجل مواجهة الأزمة المالية، وتقديم عدد من الموافقات على وحدات فلسطينية وتصاريح العمل وغيرها من الخطوات المؤثرة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تواجه السلطة الفلسطينية، وأولوية صفقة تبادل الأسرى وإعمار غزة بالنسبة للفصائل الفلسطينية.
خاتمة
يشغل الاستيطان موقعاً مهماً ومؤثراً في قلب التحديات التي تواجه الدولة الفلسطينية المنتظرة. وفي حين يغير الاستيطان الحقائق على الأرض ويقيد من فرص إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة، يستخدم واقع الاستيطان نفسه للتأكيد على صعوبة تنفيذ حل الدولتين ودعم خيارات أخرى لا تتمتع بنفس القدر من الدعم الفلسطيني والدولي. وبشكل عام، لا يتصور التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية دون اتخاذ مواقف حاسمة في ما يخص الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وهو ما يفرض تحديات حقيقية على الجهود المؤيدة للتسوية السياسية من أجل التوصل إلى حل قائم على حل الدولتين، والأكثر أهمية التأكد من الحفاظ على فرص إعلان الدولة الفلسطينية القابلة للحياة من أجل الوصول إلى تسوية قابلة للاستدامة.
عبير ياسين
مركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية