تصب العديد من التحركات الإسرائيلية، منذ إعلان حكومة نفتالي بينيت في يونيو ٢٠٢١، في صالح تهميش القضية الفلسطينية، وتعظيم الصراع مع إيران، وتقديم الجبهة الشمالية، ممثلة في سوريا ولبنان، بوصفها الهاجس الأمني الرئيسي لإسرائيل التي تُعمِّق علاقاتها مع الجوار العربي ولا ترغب في تحديد موقعها من مدخل القضية الفلسطينية. وشملت الخطوات الإسرائيلية لتأسيس تلك الرؤية التعامل مع سوريا بوصفها ساحة مواجهة للتهديدات الإيرانية بشكل استباقي عبر الاستهداف المتكرر للأراضي السورية بذريعة وجود أسلحة أو قوات تابعة لكل من إيران أو حزب الله، والتركيز على الوجود الإيراني في سوريا بوصفه محور النقاش في الاجتماع الأول الذي عُقد بين بينيت والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوتشي في ٢٢أكتوبر الفائت. ومثّل الإعلان عن استهداف صواريخ إسرائيلية لمبنى غير مأهول في دمشق، في ١٧نوفمبر الجاري، القصف الرابع الذي تتعرض له سوريا منذ سوتشي بكل ما صاحبه من حديث عن ضوء أخضر روسي وتصعيد إسرائيلي. ورغم تزايد التحركات الإسرائيلية في سوريا منذ تولي بينيت، إلا أن وتيرة العمليات تثير الكثير من التساؤلات حول تفاصيل المشهد على الجبهة السورية.
وتيرة متصاعدة وأهداف ثابتة
استُهدِفت سوريا ٢٣مرة منذ بداية العام الجاري. ويؤشر هذا الرقم إلى حدوث العمليات الإسرائيلية بمتوسط عمليتين شهرياً. وفي ظل تعرض الأراضي السورية لضعف هذا العدد خلال الشهر التالي للقاء سوتشي، يمكن الحديث عن زيادة في العمليات خلال الفترة الأخيرة. وبالعودة للتقرير السنوي للجيش الإسرائيلي، تم تنفيذ ٥٠غارة جوية عام ٢٠٢٠بمتوسط ٤عمليات شهرياً. وبهذا، لا يعبر الحديث عن العمليات في الوقت الراهن عن زيادة في العدد الإجمالي للعمليات أو متوسطها مقارنة بالعام الماضي، ولكن عن زيادة وتكثيف العمليات خلال فترة زمنية قصيرة من العام الحالي، وفي وقت تبذل الجهود للتهدئة بما يبرز تلك العمليات وأهميتها في سياق الأحداث.
وتطورت الأهداف الإسرائيلية من عدم السماح بتهديد إيران لأمنها على الحدود الشمالية إلى إخراج الأخيرة وحزب الله من سوريا، والحيلولة دون تحول الجنوب السوري إلى جبهة تهديد أمني مثل جنوب لبنان. ولهذا تحرص إسرائيل على ترسيخ فكرة ارتباط عملياتها في سوريا بزيادة التحركات والتهديدات الإيرانية، وبالتالي ربط تكثيف العمليات بتصور تزايد التهديدات. وبشكل عام، وضعت إسرائيل مجموعة من الخطوط الحمراء و”اللاءات” تركزت في الوقوف ضد التموضع الإيراني، ومنع وصول أسلحة إلى حزب الله والفصائل الفلسطينية في غزة وخاصة الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة، وعدم تهديد وجودها في الجولان المحتل.
سوتشي وترتيبات عالم جديد
يحضر العامل الإيراني بقوة في سوريا بالنسبة لإسرائيل التي أكدت بعد سوتشي على التوافق مع روسيا على استمرار تفاهمات مرحلة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو وإجراء العمليات بحرية بالتنسيق مع روسيا، وإعادة تفعيل تفاهم خفض التصعيد وإبعاد التواجد الإيراني ٨٠كيلومتراً شمالاً عن الجولان، والعمل على إخراج إيران وحزب الله من سوريا. وتؤكد إسرائيل على إمكانية تحقيق المصالح الاستراتيجية العليا في سوريا دون التعارض مع روسيا من خلال الإعلان عن: تفهم أهمية الوجود الروسي في سوريا من أجل القواعد العسكرية وتأمين الوصول للبحر المتوسط، ورغبتها في تجنب الصدام مع دولة كبرى ترى أنها جارها الشمالي بشكل ما كما صرح بينيت، والتأكيد على أن الحفاظ على النظام السوري لا يتناقض مع مصالحها في حالة تم تقييد الوجود الإيراني ووقف المساعدات العسكرية إلى حزب الله والفصائل الفلسطينية.
هذا، وتتشكل الكثير من المواقف حول سوريا من التعامل مع التطورات الحالية بوصفها مرحلة نهاية حرب وبداية ترتيبات عملية إعادة الإعمار بكل ما يترتب عليها من سياسات على صعيد سوريا والإقليم. وفي ظل اختلاف مرحلة الصراع والحرب عن مرحلة التهدئة والإعمار، تتغير صور وأدوار الحلفاء، ويمكن أن يكون حليف الأمس في ساحة الحرب والتصعيد عدو الغد في ساحة التهدئة والمصالحة. وفي هذا السياق تعبر بعض التحركات السورية الأخيرة عن الرغبة في تحقيق التهدئة عبر تقييد العلاقة مع الحليف الإيراني والحفاظ على التوازن الذي يحققه الحليف الروسي، وإن كان من غير المتصور حدوث قطيعة بين سوريا والحلفاء حالياً، يمكن تغيير الأشخاص واختيار غض الطرف والصمت مرحلياً من أجل التهدئة وتقييد فرص الصراعات الجديدة مع دفع جهود الاستقرار والإعمار.
تناقضات وتساؤلات
تُثار العديد من التساؤلات حول الموقف الروسي وتبرير العمليات رغم الحديث عن أهمية وضرورة “احترام السيادة السورية”، كما أعلن مبعوث الرئيس الروسي الكسندر لافرنتييف يوم الهجمات الإسرائيلية في ١٧نوفمبر. وتحمل التصريحات مجموعة من الأفكار المهمة حول الموقف الروسي الرافض للعمليات بوصفها “لا إنسانية”، والرافض للرد باستخدام القوة، والمُطالِب بالتواصل مع إسرائيل لضمان السيادة السورية ووقف الهجمات دون توضيح طبيعة التواصل والجهة التي يفترض أن تقوم به، وإن كان ضمن الحوار الروسي- الإسرائيلي أو حوار سوري- إسرائيلي مفترض ضمن ترتيبات إقليمية جديدة. بهذا يتعلق الموقف الروسي بالسياق العام، وفي حين ارتبطت الفترة الأولى من حكومة بينيت بمرحلة ما بعد حرب غزة الرابعة وما صاحبها من مخاطر وتهديدات إقليمية وتطورات داخلية إسرائيلية، تميزت مرحلة سوتشي وما بعدها بواقع مختلف على صعيد العلاقات السورية- العربية، وحديث ما بعد الحرب، وما يجب ويمكن أن يقدم من وإلى النظام السوري في تلك المرحلة.
يساهم تكثيف العمليات في تحقيق عدد من الأهداف التي ترتبط بالتطورات الإقليمية والرؤية الإسرائيلية للصراعات الإقليمية في اللحظة والمستقبل. فمن جانب، ترغب إسرائيل في التأثير على جهود التحضير لمفاوضات فيينا وترسيخ الرؤية القائلة بخطورة إيران وتأثيرها السلبي على التطورات السورية والإقليمية. ومن جانب آخر، تساهم تلك التحركات في رسم عالم تتحرك فيه إسرائيل بوصفها شريكاً في الإقليم، تواجه الخطر الإيراني، وتعمل على حماية أمنها عبر التحركات الاستباقية، وتعيد رسم خريطة التهديدات والمصالح حيث تمثل القضية الفلسطينية جزءاً هامشياً من القصة، وتوفر الترتيبات في سوريا فرصة من أجل إعادة تموضع إسرائيل ذاتها، وليس إيران فقط، في الإقليم الذي يفترض أن يتشكل مع دخول سوريا في مرحلة الإعمار وما تتطلبه من خطوات تشمل التحرك على ساحة العلاقات مع إسرائيل والإقليم والعالم.
مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية