بوتين في سوريا: عسر تحصيل الإيرادات

بوتين في سوريا: عسر تحصيل الإيرادات

قليلة، أو حتى نادرة، التحليلات المعمقة التي يكتبها باحثون روس حول التدخل العسكري الروسي في سوريا، وذلك لاعتبارات عديدة لعلّ أبرزها أنّ تناول هذا الموضوع من زاوية انتقادية أو مناوئة أو معارِضة يفضي بالضرورة إلى مقدار من المسّ بالجيش الروسي، وهذا خيار غير شعبي بما يكفي للمجازفة؛ فضلاً عن اعتبار ثانٍ يفيد بأنّ مشروع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا يحظى بشعبية ملحوظة تدغدغ نوستالجيا الإمبراطورية والفخار القومي. اعتبار ثالث، أكثر اتصافاً بالعمومية، هو أنّ الإسهامات التي تتناول شخص بوتين أو معمار السلطة الذي أقامه قليلة أصلاً، بالنظر إلى ضعف القوى المعارضة للكرملين ومؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وبالتالي محدودية المنابر الإعلامية أو البحثية التي يمكن أن تشجّع على تلك الإسهامات، أو تحتضنها.
وهذه حال تستدعي الترحيب الشديد بكتاب الباحثة الروسية أنّا بورشيفسكايا الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية، ضمن منشورات I.B.Tauris، بعنوان «حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا»؛ وتنهض معادلاته البحثية على إقامة التوازنات، أو توصيف غيابها، بين محورَيْ العنوان الفرعي، وما إذا كان مشروع بوتين من وراء التدخل في سوريا ينتهي إلى طراز من السياسة الخارجية تستكمله في مقام ملموس أنساقُ غياب مشروع أمريكي موازٍ، حتى إذا لم يكن مضاداً تماماً. وفضيلة الكتاب الأولى، بمعزل عن مزايا البحث والتحليل والاستخلاص التي تتمتع بها بورشيفسكايا، أنّ انتماء الكاتبة إلى روسيا وتمكّنها من اللغة الروسية وصلاتها الوثيقة مع مصادر أصلية عالية القيمة، مكّنها من توفير مستوى توثيقي رفيع يخدم خلاصاتها المعمقة؛ خاصة حين يتصل الأمر بنقاط حساسة حول الأدوار الحيوية التي يلعبها الجيش، والفروع الحكومية أو الخاصة أو شبه الحكومية التي ترتبط بوزارة الدفاع، في صياغة السياسة الخارجية.
ليس أقلّ أهمية ما تستعرضه بورشيفسكايا، بتفصيل مثير حقاً وجدير بتفسير الكثير من خيارات الكرملين وسلوك بوتين شخصياً، في ربط السياسة الخارجية لجهة دور الجيش في مشاريع التدخل الخارجي، بالسياسة الداخلية واستدراج الالتفاف الشعبي وحشد التأييد الشعبوي. والمعطيات التي تسوقها الكاتبة حول أنماط استفادة شرائح شعبية غير قليلة من التدخل العسكري الروسي في سوريا، على أصعدة سوق العمل بادئ ذي بدء ومداخيل صناعات السلاح والخدمات الخفية ذات الطابع المافيوزي؛ تبرهن، على نحو يبدو مفاجئاً أحياناً، أنّ المكاسب الجيو ـ سياسية أو العسكرية أو الاستثمارية ليست هي أولى البواعث؛ أو الأحرى القول إنها رأس جبل الجليد، وما خفي أعظم وأشدّ إغواءً وفائدة.
ورغم أنّ غالبية استطلاعات الرأي في روسيا لا تتمتع بمصداقية منهجية وعلمية، فإنّ المؤشرات تعطي مع ذلك صورة معبّرة عن مزاج الرأي العام الروسي بصدد التدخل الروسي في سوريا: في مطلع تشرين الأوّل (أكتوبر) 2015، أي بعد أسابيع قليلة على بدء التدخل الفعلي، كانت نسبة التأييد في حدود 56٪؛ وأمّا في آذار (مارس) 2016، فقد قفزت النسبة إلى 70٪، وترافق ازدياد شعبية التدخل مع تسابق محموم على بذل الوساطات للالتحاق بالوحدات العسكرية الروسية المتوجهة إلى سوريا. ولا يخفى أنّ الحماس للجيش، أو حتى تأجيج مشاعر الكراهية للولايات المتحدة بوصفها وراء الصراع في سوريا حسب الإعلام الرسمي الروسي، أو الخشية من انتقال «الإرهاب الإسلامي» إلى الداخل الروسي مروراً من شيشنيا أو الجمهوريات الإسلامية؛ لم تكن البواعث الوحيدة المحرّكة لمشاعر الشارع الشعبي أو الشعبوي، بل كانت وحدات عسكرية وأمنية خاصة من طراز «فاغنر» ليست حكومية بالضرورة ولكنها مقرّبة من الجيش أو الكرملين، قد تحوّلت إلى أرباب عمل لتشغيل المئات والآلاف من العسكر المتقاعدين أو العاطلين عن العمل، وإرسالهم إلى سوريا.

لأنّ مشروع بوتين في سوريا بدأ استثمارياً، وهكذا يستمرّ منذ 6 سنوات؛ فإنّ شلل موسكو أمام عسر تحصيل الإيرادات لا يُبقي من أرباح المغامرة العسكرية إلا فتات الأسد نفسه، أو… عصاب وعصائب «النمر» سهيل الحسن!

لهذا فإنّ الفصل الذي تخصصه بورشيفسكايا لظاهرة «شركات التعاقد العسكري الخاصة» أو الـChVK في المختصرات الروسية، يساجل ضدّ الخطأ الشائع في الصحافة العالمية حول تسمية هذه المجموعات بالمرتزقة؛ لأنّ المرتزق، في تعريفها، هو ذاك الذي يقتل لقاء أجر مالي، لكنه غير معنيّ بالمضامين السياسية لممارسة مهنته هذه. مهامّ المتطوعين ضمن صفوف «فاغنر» لا تقتصر، في المقابل، على مهمة القتل وحدها بل تتعداها إلى وظائف أمنية وسياسية وعسكرية ودفاعية شتى، تخدم جميعها أغراض السياسة الخارجية الروسية، وهي استطراداً جزء لا يتجزأ من الجيش الروسي الرسمي حتى إذا كانت غير مرتبطة به إدارياً. وتعريف هذه المجموعات كما تعتمده أدبيات وزارة الدفاع الروسية يشير إلى أنها «هيكل تجاري خاصّ مسجّل رسمياً، يتألف من أخصائيين ذوي تدريب عالٍ، تشرف عليه الدولة ويعمل بما يخدم مصالح الدولة، وهذا هو الفارق الجوهري عن المفارز الكلاسيكية للمرتزقة والإرهابيين. وهذه الشركات خاصة بمعنى نسبي فقط، لأنها فعلياً تعمل لصالح الدولة، وتتبع الخطط ذاتها وتسعى إلى الأهداف نفسها المناطة بالجيوش النظامية».
وتعقد بورشيفسكايا الجزء الأوّل من كتابها لاستعراض تاريخ العلاقة بين روسيا/ الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط، ابتداءً من عهود القياصرة وما انطوت عليها من إشكاليات الهوية الروسية والإسلام والمسلمين، وصولاً إلى مناخات الحرب الباردة وغزو أفغانستان، ثمّ مقاربات أمثال يفغيني بريماكوف ونظام تعدّد الأقطاب. الفصول اللاحقة تتناول انشغال بوتين في إعادة روسيا إلى الشرق الأوسط، وإقامة محور روسي/ إيراني/ سوري، والتدخل المباشر لإنقاذ نظام بشار الأسد من السقوط، وتقلّب خيارات بوتين ضمن متغيرات القوى الداخلة على الخطّ السوري من إيران وتركيا إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا، والتعقيدات اللاحقة ذات الصلة بحلقات استخدام الأسلحة الكيميائية، والتفاهمات مع إدارة الريس الأمريكي السابق باراك أوباما بالمقارنة مع خَلَفه دونالد ترامب، وتشابك اقتسام الهيمنة مع إيران وتركيا…
ذلك غيض من فيض الملفات الأخرى التي تعالجها بورشيفسكايا، وخلاصتها تنتهي إلى أنّ بوتين قد ضمن لروسيا قواعد في شرق المتوسط تتيح استعراض القوّة نحو مياه الخليج الدافئة وأفريقيا؛ وهذا ما عجز القياصرة عن إنجازه. لكنّ روسيا بوتين في حال من العجز عن تحصيل إيرادات المغامرة لأنّ نفقات تدخلها في سوريا ليس لها أيّ صيرفي، إيراني مثلاً، يمكن أن يغطيها. وثمة، إلى هذا كلّه وسواه، معضلة كبرى عالقة اسمها إدلب، حيث يحتشد خارج سيطرة النظام نحو ثلاثة ملايين سوري بينهم مليون طفل، وتقيم فصائل الجهاديين المختلفة هذا الشكل أو ذاك من السيطرة والإدارة المحلية، كما تمارس تركيا نفوذها العسكري والسياسي بما يتجاوز احتواء الاكراد أو مناوشة النظام وروسيا معاً…
خاتمة بورشيفسكايا تسير هكذا: «استمدّت موسكو درساً من التجربة السوفييتية في أفغانستان، بأنها لا تستطيع التأثير لإحداث تغيير حقيقي في البلد. لذلك لم تبذل محاولة كهذه في سوريا، بل اكتفت بإلقاء قفاز التحدي في وجه الولايات المتحدة والغرب، انطلاقاً من حاجة مَرَضية لاستعراض صورتها، ولأنّ الشرق الأوسط هامّ في ذاته للدولة الروسية. والحقّ أنّ الغرب لم يعمد إلى تحدّي الموقف الروسي في سوريا، بل أعطى سوريا إلى موسكو من دون كبير قتال، ربما لأنه جزئياً أقرّ بأنّ الغرب، مثل روسيا، ليس في وسعه القيام إلا بالقليل من أجل توازن البلد أو المنطقة».
ولأنّ مشروع بوتين في سوريا بدأ استثمارياً، وهكذا يستمرّ منذ 6 سنوات؛ فإنّ شلل موسكو أمام عسر تحصيل الإيرادات لا يُبقي من أرباح المغامرة العسكرية إلا فتات الأسد نفسه، أو… عصاب وعصائب «النمر» سهيل الحسن!

القدس العربي