من العبارات الشائعة التي تنسب حينا لعلي بن أبي طالب، ولابن عباس حينا آخر، القول بأن القرآن الكريم «حمال أوجه» وفي رواية أخرى أنه «ذو وجوه». هذه العبارة، بمعزل عن مدى صحتها أو ضعفها، تصلح تماما لتوصيف الدستور والقانون في العراق، وقد قلت في دراسة نشرت عام 2006 عن الدستور العراقي بأنه «سلطة التأويل» التي ترتبط، بعلاقات القوة، والتي، هي وحدها، من سيكون «الحكم» في النهاية وليس النص نفسه!
يرسم قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق رقم 31 لسنة 2019، شروط وآليات تقديم الشكاوى والطعون المتعلقة بالانتخابات، ومن بين هذه الشروط أنه «لا يجوز الطعن بقرارات مجلس المفوضين إلا أمام الهيئة القضائية للانتخابات في الأمور المتعلقة بالعملية الانتخابية حصرا» وأن قرارات هذه الهيئة هي «باتة»؛ ومعنى باتة هنا أنها غير قابلة للطعن بأي شكل من الأشكال!
في العام 2018 رفعت دعوى لدى المحكمة الاتحادية، وكان المدعى عليه فيها رئيس المحكمة الاتحادية نفسه إضافة لوظيفته، تطلب عدم المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات التي جرت في ذلك العام، وقدم المدعي ثمانية أسباب لهذا الطلب؛ من بينها حجم التزوير الواسع، ورفض مفوضية الانتخابات الإجابة على الطعون، وعدم موافقتها على العد والفرز اليدوي، فقررت المحكمة الاتحادية أن «ان القضاء لا يخاصم ولا يعد خصما في وقائع ينسب صدورها إلى الغير» وانه «حيث ان موضوع الدعوى يخص المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهي صاحة الشأن في قبول الشكاوى والاعتراضات على الخروقات المدعى بها والتي تحدث إثناء العملية الانتخابية، وحيث أن قراراتها تخضع للطعن بها امام جهة قضائية هي غير المحكمة الاتحادية ولا يشترك رئيس هذه المحكمة (المدعى عليه إضافة لوظيفته) مع تلك الجهة» وتم رد الدعوى (86/ اتحادية/ 2018)!
وفي السياق نفسه صدرت مجموعة من القرارات التي ردت فيها المحكمة دعاوى تتعلق بالانتخابات لعدم الاختصاص، ففي العام نفسه تم رفع دعوى أمام المحكمة الاتحادية تطالب المفوضية بعد المصادقة على النتائج المرسلة من المفوضية العليا المستقلة للانتخابات المتعلقة بالكوتا المسيحية، فأصدرت قرارها المرقم (177/ اتحادية/ 2018) قرارا باتا وملزما للسلطات كافة بأنه ليس من «اختصاصها» النظر في الطعون المتعلقة بالانتخابات!
كما أصدرت قرارات أخرى مفادُها أن قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات قد أقرّ آلية محددة للمنازعات والطعون المتعلقة بالانتخابات، وان النظر فيها «خارج اختصاص المحكمة الاتحادية»!
في السياق نفسه أصدرت المحكمة الاتحادية القرار (208/ اتحادية/ 2018) والذي قررت فيه أن قرارات الهيئة القضائية للانتخابات «نهائية ولا تقبل الطعن بأي شكل من الأشكال» بموجب قانونها!
علاقات القوة هي التي تحكم في النهاية قرارات المحكمة الاتحادية، ومن ثم لن تستطيع المحكمة اتخاذ أي قرار بشان المصادقة على نتائج الانتخابات من عدمها دون ضوء سياسي أخضر يحددُ طبيعة ذلك القرار
اليوم تُرفع دعوى مشابهة لدى المحكمة الاتحادية تطالب بعدم المصادقة على نتائج الانتخابات، وتعقد المحكمة جلسة استماع أولى، ثم تقرر تأجيل النظر في الدعوى إلى يوم 13 كانون الأول/ ديسمبر 2021، والسؤال هنا هل سترُدُ المحكمة الدعوى لعدم الاختصاص، أم أن المحكمة سيكون رأي (تأويل) آخر؟
حدد الدستور العراقي في المادة 93 اختصاصات المحكمة الاتحادية، ومن بين هذه الاختصاصات «المصادقة على النتائج النهائية العامة لعضوية مجلس النواب» وبعيدا عن مدى دستورية استمرار المحكمة الاتحادية على وضعها الحالي بسبب التواطؤ السياسي الذي قد حسم هذه المسألة، فإن المصادقة هنا تعني أنها صلاحية حصرية للمحكمة الاتحادية، تماما كما أن المادة 73 من الدستور المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية قد أشارت إلى أن «المصادقة على أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المختصة» صلاحية حصرية لا يمكن منازعته عليها، لهذا وجدنا رؤساء الجمهورية المتعاقبين لا يصادقون حتى اللحظة على أحكام إعدام صدرت منذ أكثر من عقد، إما لأسباب سياسية كما في الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الخاصة، او بسبب الشكوك في مدى عدالة المحاكمات التي أصدرت تلك الأحكام. وبالتالي هذا التفسير يبدو وكأنه يعطي صلاحية للمحكمة الاتحادية بالتصديق على نتائج الانتخابات من عدمه، ولكنه لا يعطي أي صلاحية للمحكمة في التدخل او الاعتراض او النظر في نتائج الانتخابات نفسها، أو الإجراءات المتعلقة بها، كما أفتت هي نفسها في قرارات سابقة عديدة.
وما يصدق على المصادقة على احكام الإعدام، لا يمكن أن يصدق على المصادقة على نتائج الانتخابات، فالأخيرة ترتبط بالنظام السياسي والدولة ككل، وبالتالي ليس من المنطق أو العقل تأخير المصادقة عليها، والإبقاء على فراغ دستوري بغياب سلطة تشريعية في دولة نظامها السياسي هو نظام نيابي، او الإبقاء على حكومة تصريف أمور يومية/ تصريف أعمال يفترض أنها محدودة الصلاحيات (أقول يفترض نظريا لأنه عمليا الحكومة تمارس مهامها من دون أي التفات لذلك).
وبعيدا عن هذا السياق الدستوري/ القانوني، يعرف الجميع أن علاقات القوة هي التي تحكم في النهاية قرارات المحكمة الاتحادية، ومن ثم لن تستطيع المحكمة اتخاذ أي قرار بشان المصادقة على نتائج الانتخابات من عدمها دون ضوء سياسي أخضر يحددُ طبيعة ذلك القرار! وهذا يشترط، بطبيعة الحال، صفقة سياسية باتجاه تخفيف حدة الاستقطاب القائم بين الفائزين والخاسرين من جهة، وباتجاه مسارات تشكيل الحكومة القادمة وتبعاتها، ومن بينها اختيار رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية، من جهة أخرى.
عندما تفتقد الدولة، أي دولة، إلى جهة «حكم» يثق بنزاهتها وحياديتها ومصداقيتها الأغلبية إن لم يكن الجميع، فهذه وصفة للكارثة، وتلك محنة العراق، فلا وجود لهكذا جهة على الإطلاق، وكل شيء يخضع لعلاقات القوة، والعلاقات الزبائنية الملحقة بها، وهو ما يحوّلُ الانتخابات، في النهاية، إلى «شكل» خال من أي محتوى، يحرص الجميع على استمرارها لضمان تدوير علاقات القوة على الأرض، ومنع اصطدامها ببعضها، ولا أحد يحرص على ضمان تمثيل حقيقي لمصالح للجمهور!
القدس العربي