ما يشهده خط المواجهة الروسي – الأطلسي أخيراً أحد ثمار استعادة السياسة الخارجية الأميركية مسارها التاريخي التقليدي، بعد منعطف بدأ على استحياء في نهاية عهد باراك أوباما، وتحوّل خلال حكم دونالد ترامب إلى تيارٍ جارف، كاد يقتلع أعمدة خيمة الدبلوماسية الأميركية التي بقيت راسخةً منذ الحرب العالمية الثانية، بلا انقطاع تقريباً. فخلال عهد باراك أوباما، تجرّأت روسيا على القيام بعمل عسكري بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وفي الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للمرة الأولى، أنّها روسية إلى الأبد!
والصورة التي يرسمها إعلام “التفكير بالتمنّي” حفل بأوهامٍ كثيرة أسهمت في تغييب وعي شرائح واسعة من النخبة في ما يتصل بـ “ثوابت” السياسة الخارجية الأميركية، وبالتحديد حدث عجز عن إدراك المدى الذي يمكن أن تصل إليه البراغماتية الأميركية في التعامل مع القوى الدولية المعادية للديمقراطية، والتيارات السياسية الفاشية، والقدر الذي يمكن “ابتلاعه” أميركياً منها. ومنذ الحرب العالمية الثانية، تشدّ السياسة الخارجية الأميركية موجات مدّ وجزر في الاهتمام الأميركي بالديمقراطية في العالم كـ “نموذج” وكـ “وسيلة” معاً. ومن النماذج الكاشفة عن حقيقة ما يخفيه ركام التحليل السطحي للسلوك السياسي الأميركي، بحث عنوانه “فهم النظام الدولي الحالي”، وتم إنجازه خلال عامين، برعاية مكتب التقييم الشفاف التابع لمكتب وزير الدفاع، وأجري في مركز سياسات الدفاع والأمن الدولي التابع لمعهد الأبحاث الوطني، برعاية مكتب وزير الدفاع وعدة هيئات عسكرية واستخباراتية أميركية، وأصدرته في 2016 مؤسسة “راند”.
صمت الأوروبيين على لهجة التهديد الأميركية (والأطلسية) غير المسبوقة بحق روسيا، مؤشّر على أنّ الأمر أكبر من أن تعاكسه مواقف أوروبية مشاكسة
استشهد البحث الذي يزيد قليلاً عن ثمانين صفحة عدة مرات بعباراتٍ من وثائق رئاسية أميركية عن الأمن القومي منذ أربعينيات القرن العشرين تؤكد أهمية الديمقراطية للمصالح الأميركية، وهو منحى في الفهم والتفسير يتناقض تماماً مع معزوفةٍ لا يمل الإعلام العربي عن ترديدها تؤكد أنّ البراغماتية السياسية “أميركياً” تعني أولاً: التحالف (سراً أو علناً) مع المستبدّين. وهو نوع بدائي من خداع الذات جعل المعدة العربية تواجه “عُسر هضم” في التعاطي مع التحولات الكبيرة التي طرأت على السياسة الخارجية الأميركية في عهد جوزيف بايدن. ولغة الأطلسي والخارجية الأميركية، وصولاً إلى إعلان بايدن الواضح رفضه أيّ “خطوطٍ حمراء” في أزمة أوكرانيا، استعادة من المفترض أن تقلق بعض القياصرة العرب، بالقدر نفسه الذي تقلق به “قيصر الكرملين”.
ولا يعني هذا أنّ ساكن البيت الأبيض المخضرم يستهين بقرار المواجهة العسكرية أو يظنها، إن حدثت، ستكون نزهة، لكنّه يعني، على الأرجح، أنّ أهدافاً أميركية استراتيجية تتجاوز روسيا وما يمكن أن تمثله سياسياً وعسكرياً، أصبحت تفرض على البيت الأبيض أن يذهب إلى آخر الشوط في اضطرار روسيا لقبول التوسّع الأطلسي، والاقتناع بأنّ زمن “الضمانات” ولَّى. وصمت الأوروبيين على لهجة التهديد الأميركية (والأطلسية) غير المسبوقة بحق روسيا، مؤشّر على أنّ الأمر أكبر من أن تعاكسه مواقف أوروبية مشاكسة. ولنتذكّر هنا لغة الاحتجاج الفرنسية العالية على القرار الأميركي بإطاحة نظام صدام حسين في عام 2003، وكيف اكتسحت آلة الحرب الأميركية الاحتجاجات الفرنسية والروسية من دون تردّد.
صانع القرار الأميركي لن يكون مضطراً لأن يتسامح مع معاداة للديمقراطية في منطقتنا
ودخان العاصفة الأميركية التي تهب في شرق أوروبا، متجاوزة أوكرانيا إلى بولندا وغيرهما، يرسل رسائل واضحة، جنوباً وشرقاً، وما لا ينطق به الخطاب الدبلوماسي الرسمي، سرعان ما تترجمه الممارسات الرسمية في صمت، وموجة تقويض الديمقراطيات التي قادتها روسيا في جوارها (ولاحقاً في الشرق الأوسط) سوف تنحسر، فالمقايضات التي قبلها أوباما في السنتين الأخيرتين من عهده، والاختراقات التي حققتها روسيا في عهد ترامب، أثمرت هذا الوضع المرشّح للانفجار. وصانع القرار الأميركي الذي يقرر ألّا يبالي بإمكانية بناء توافق أميركي – روسي على قاعدة من البراغماتية السياسية وتبادل المصالح الميكيافيلي القح، لن يكون مضطراً لأن يتسامح مع معاداة للديمقراطية في منطقتنا، جلبت نفوذاً روسياً غير مسبوق، ورسمت خطوط مواجهة إقليمية بين حلفاء أميركا نفسها، وقد جرّبت أوروبا خطيئة “التغاضي” عن هتلر، فانتهى الاسترضاء بحربٍ عالميةٍ كانت حتمية، وجرّبت أميركا “التغاضي” عن قائمة طويلة من الطغاة شرقاً وغرباً، من صدّام حسين إلى بوتين، وها هي تغير الوسائل وترتيب الأولويات.
شظايا المعركة قادمة إلينا لا محالة.
العربي الجديد