تكتسب الانتخابات البرلمانية الحالية في مصر أهمية بالغة لأسباب كثيرة، ربما كان أهمها أنها أول انتخابات برلمانية منذ ثورة كانون الثاني (يناير) 2011 تجري في ظل دستور دائم، وفي وجود رئيس منتخب، وبالتالي يفترض أن تفضي إلى تأسيس سلطة تشريعية تكتمل بها أضلاع نظام سياسي ظلّ يدور حتى الآن في حلقة مفرغة من مراحل انتقالية متتابعة تبدو بلا نهاية.
فخلال السنوات الخمس الأخيرة، اندلعت في مصر ثورتان: الأولى في 25 يناير2011 ضد نظام حسني مبارك، الذي حكم البلاد لمدة 30 عاماً، والثانية في 30 حزيران (يونيو) 2013 ضد جماعة «الإخوان»، التي لم تُمكَّن حقيقةً من حكم مصر، وإن كانت قد تمكنت من التحكم في مصيرها لأكثر من عامين. وشهدت مصر خلال هذه الفترة الطويلة المضطربة: 1- صياغة دستورين وافق عليهما الشعب في استفتاء عام نُظم في فترتين مختلفتين. 2- تعاقب على حكمها أربعة رؤساء للجمهورية، اثنان منهما موقتان وغير منتخبين: أحدهما عسكري هو المشير حسين طنطاوي، والآخر مدني هو المستشار عدلي منصور، واثنان منتخبان: أحدهما مدني ينتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وفاز بنسبة 51 في المئة من الأصوات، في انتخابات خاضها 13 مرشحاً يمثلون ألوان الطيف السياسي، قبل أن تطيحه ثورة شعبية أيَّدها الجيش بعد عام واحد من انتخابه، وهو الدكتور محمد مرسي، والآخر عسكري خرج من صفوف القوات المسلّحة المصرية، وفاز بنسبة 97 في المئة في انتخابات لم يترشح فيها سوى شخص واحد، وهو المشير عبدالفتاح السيسي الذي يتولى مقاليد السلطة منذ أكثر قليلاً من عام واحد. 3- انتخابات برلمانية واحدة، فازت فيها جماعة «الإخوان» بأكثرية المقاعد (أكثر من 40 في المئة من إجمالي المقاعد)، وفاز فيها التيار الإسلامي ككل بالغالبية الساحقة من المقاعد (أكثر من 75 في المئة من إجمالي المقاعد). ومعنى ذلك، أن الانتخابات التي تجري حالياً هي الانتخابات البرلمانية الثانية منذ ثورة يناير، والأرجح أنها ستفرز برلماناً خالياً تماماً من «الإخوان المسلمين»، وربما من ممثلين عن التيار الإسلامي كله.
يتّضح من هذا الاستعراض الموجز، أن التنافس السياسي في مصر منذ اندلاع ثورة يناير 2011 بات محصوراً بين قوتين، هما: المؤسسة العسكرية من ناحية، وجماعة «الإخوان المسلمين» من ناحية أخرى، على رغم قيام ثورتين شعبيتين كبيرتين ضد رمزين من رموزهما، استهدفتا أولاً وقبل كل شيء، التأسيس لنظام ديموقراطي يشارك فيه الجميع. فالثورة الأم، والتي اندلعت في يناير 2011، قامت في مواجهة رجل ينتمي الى المؤسسة العسكرية، هو حسني مبارك، وثورة التصحيح، والتي اندلعت في 30 يونيو 2013، قامت في مواجهة رجل ينتمي الى جماعة «الإخوان المسلمين» هو الدكتور محمد مرسي، ولم تُمكَّن القوى التي أشعلت الثورة في الحالتين من الوصول إلى السلطة حتى الآن، بل ليس من المتوقع أن تلعب هذه القوى دوراً يذكر من داخل البرلمان الذي ستفرزه الانتخابات الحالية. والسؤال: هل يمكن هذه الانتخابات، وهي أول انتخابات برلمانية في مصر منذ ثورة يناير تجري في ظل دستور مستفتى عليه ورئيس منتخب، كما سبقت الإشارة، أن تشكل اللبنة المفقودة لنظام سياسي جديد قابل للدوام والاستمرار، أم أنها على العكس ستشكل بداية لمرحلة جديدة من عدم الاستقرار؟
أظنّ أن الوقت ما زال مبكراً لتقديم إجابة حاسمة عن هذا السؤال، غير أن امتناع نسبة كبيرة من الناخبين المصريين عن المشاركة في المرحلة الأولى من هذه الانتخابات، ورفض الغالبية الساحقة من الشباب التوجه إلى صناديق الاقتراع، يوحيان بأن مصر مقدِمةٌ على مرحلة جديدة من عدم الاستقرار وليس العكس. إذ تشير الأرقام الرسمية التي أعلنتها اللجنة المشرفة على هذه الانتخابات، إلى أن عدد الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع في مرحلتها الأولى، لم يزد كثيراً عن رُبع عدد الناخبين المسجلين في الكشوف الانتخابية، وهي نسبة يراها البعض مبالغاً فيها وتزيد كثيراً عن النسبة الحقيقية، لكنها تظل مع ذلك أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات البرلمانية، كما تشير هذه الأرقام إلى أن نسبة الأصوات الباطلة بلغت حوالى 10 في المئة من إجمالي من أدلوا بأصواتهم، وهي أيضاً نسبة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات البرلمانية، وتؤكد أن نسبة الأصوات الصحيحة إلى إجمالي عدد المقيدين في الجداول الانتخابية لم تتجاوز 15 في المئة على أكثر تقدير.
يحلو لكثر من المراقبين إرجاع أسباب تدني نسبة المشاركة في التصويت في هذا الشكل الصارخ، إلى عوامل فنية من نوع: عدم وضوح قانون الانتخابات الجديد، اتساع الدوائر المخصصة لقوائم تحتوي على عدد كبير من المرشحين يصعب على الناخب أن يتعرف إليهم، كما يصعب على معظمهم أن يتواصل مباشرة مع الناخبين، ضيق الفترة المخصصة للدعاية الانتخابية، اطمئنان الناخب إلى أن البرلمان المقبل سيكون في جميع الأحوال، بحكم نوعية معظم المرشحين على مقاعده، برلماناً متعاوناً مع رئيس يثق به… الخ.
غير أنني أعتقد جازماً أن هذه العوامل ذات الطبيعة الفنية، على أهميتها، لم تلعب إلا دوراً ثانوياً، وأن العزوف الجماعي عن المشاركة يُفسَّر بعوامل سياسية تصب في اتجاه عدم اقتناع الناخب بجدية أو بجدوى هذه الانتخابات، وهي عوامل يمكن إجمالها على النحو التالي: تعرُّض خريطة الطريق التي أعلنت عقب تنحية مرسي، والتي أيَّدتها غالبية القوى التي شاركت في ثورة 30 يونيو، لسلسلة من التعديلات المفاجئة التي أخلَّت في النهاية بقدرتها على إفراز نظام جديد أكثر كفاءة وأفضل من نظامي مبارك ومرسي. فوفقاً للترتيب الوارد في هذه الخريطة، تعيَّن أولاً صياغة دستور جديد ثم إجراء انتخابات برلمانية قبل الانتخابات الرئاسية، التي كان يفترض أن تأتي كمرحلة أخيرة. وفجأة، أُدخل تعديل يسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية، وهو ما تم بالفعل. وكان يفترض أن تبدأ إجراءات الانتخابات البرلمانية بعد فترة لا تتجاوز ستة أشهر من تولّي الرئيس المنتخب، لكن حدث تحايل على هذا النص سمح بتأخير بلا أي مبرر واضح أو مفهوم لفترة طالت لأكثر من عام، جمع فيها الرئيس بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وصدرت خلالها عشرات القوانين المثيرة للجدل والمتناقضة أحياناً مع نصوص دستورية صريحة، وجرى تقييد واضح للحريات الفردية والجماعية.
كانت غالبية القوى السياسية الرئيسية في مصر قد عبرت صراحة عن رفضها مشروع القانون الذي تجري الانتخابات الحالية على أساسه، وطالبت بقانون يمزج بين التمثيل النسبي، وليس القوائم المطلقة والمغلقة، والدوائر الفردية، وبنسبة 50 في المئة لكل منهما. وجاء الإصرار على العمل بالقانون الحالي بمثابة دليل قاطع على رغبة النظام الحاكم في تصميم برلمان على مقاسه، وهو ما بدا واضحاً في شكل قاطع إبان المحاولات التي استهدفت تشكيل ائتلافات انتخابية للتغلّب على عقبة الدوائر الكبيرة التي تعيَّن شغل مقاعدها وفقاً لنظام القوائم المطلقة.
تعرضت القوى كافة التي شاركت في ثورة 25 يناير من خارج التيار الإسلامي، بخاصة الشباب منها، لحملات دعائية ممنهجة استهدفت تشويههم وتلطيخ سمعتهم، ولم يكونوا مستهدفين لأشخاصهم بقدر ما كان الهدف الحقيقي تشويه ثورة يناير نفسها، التي تم تصويرها باعتبارها مؤامرة خارجية قام بها عملاء الداخل لحساب قوى أجنبية معادية، وبالتالي إظهار ثورة يونيو وكأنها ثورة على «مؤامرة» يناير! بل إن رموزاً شبابية كانت قد شاركت بفاعلية في ثورتي يناير ويونيو، وجدت نفسها تقبع خلف القضبان وتُقدم للمحاكمة بتهمة التظاهر! وكان لافتاً أن حملات التشويه هذه اشتدت كثيراً عقب وصول السيسي إلى السلطة، بل أصبحت وكأنها شعار رسمي تجري الانتخابات الحالية تحت مظلته الإعلامية.
كان من الطبيعي في سياق كهذا، أن تمتنع الغالبية الساحقة من الشباب عن التوجّه إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية الحالية، وهو موقف يشبه موقف الحَكَم الذي يقرر رفع البطاقة الصفراء. ولعلّها الرسالة التي أراد الشباب المصري إيصالها.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية