تمرير الزيادات بتحذير المصريين من أن البديل هو الأزمات الإقليمية

تمرير الزيادات بتحذير المصريين من أن البديل هو الأزمات الإقليمية

القاهرة- استطاعت الحكومة المصرية أن تمرر زيادات متفاوتة في أسعار الخدمات التي تقدمها للمواطنين بهدوء، وفي كل مرة تعول على تقبلهم دون مواجهة مشكلات حقيقية، وهو ما حدث مؤخراً بعد أن أقدمت الحكومة على زيادة أسعار الوقود ووسائل النقل والمواصلات، مراهنة على تحذير المصريين وتخويفهم من مآسي الإقليم (اغتيالات وتفجيرات وتدمير شامل ونزوح بالملايين مثل ما حصل مع السوريين والسودانيين).

وقررت مصر زيادة أسعار تذاكر مترو الأنفاق والقطارات بداية من أغسطس الجاري بنسبة تتراوح بين 17 و33.3 في المئة، على خلفية زيادة أسعار منتجات الوقود في البلاد قبل أيام، وجرى الربط بين هذه الزيادات وبين تعهد مصر بخفض دعم الوقود في إطار اتفاقها مع صندوق النقد الدولي.

وقال رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي مؤخرا إنه من المتوقع أن تتواصل عملية رفع أسعار المنتجات البترولية تدريجيا حتى ديسمبر 2025.

ومرت زيادة أسعار وسائل النقل والمواصلات دون صخب دائما ما يكون حاضرا على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعج بانتقادات سلبية مع إقدام الحكومة على خطوات من هذا النوع.

وبدا واضحا أن الاهتمام الشعبي منصب على تأثير حادث اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على تطورات الشرق الأوسط وقطاع غزة الملاصق للحدود الشرقية لمصر، وتعقيدات الصراع الدائر في كل من ليبيا والسودان.

وهناك حاجة إلى تفويت الفرصة على إحداث قلاقل داخلية قد تكون نتيجتها دمارا تعانيه شعوب عربية وفد إلى مصر الآلاف من أبنائها كلاجئين ورأوا فيها مكانا يمكن العيش فيه، وثمة تشكك في قدرة المصريين على تحمل الزيادات مع تراجع قيمة الجنيه وتدهور القدرة الشرائية واقتطاع أقساط من رواتبهم الشهرية، وعلى تحمل رفع الدعم عن وسائل النقل والمواصلات. والأمر ذاته ينطبق على الكهرباء وتحول الحكومة إلى الدعم النقدي بدلاً من العيني.

وأشارت فريدة محمود، وهي موظفة في إحدى شركات القطاع الخاص تستقل مترو الأنفاق يوميًا للوصول إلى عملها الواقع بحي مدينة نصر (شرق القاهرة)، إلى أن زيادة أسعار التذاكر أكثر من عشرة أضعاف قيمتها التي اعتادت عليها قبل سنوات قليلة أمر يضغط على ميزانيتها للمصروفات الشهرية.

وقالت إن “الأزمة الحقيقية تتمثل في ضعف رقابة الحكومة على القطاع الخاص الذي يرفض الاستجابة لطلبات زيادة الحد الأدنى للأجور، وأحصل على راتب شهري لا يتجاوز مئة دولار وهو ما يجعل تحمل النفقات مستحيلا”.

وأضافت لـ”العرب”: “في المقابل ليس أمامي سوى تقبل ما أقرته الحكومة من زيادات جديدة رغم اعتراضي عليها، وحينما أسمع قصص هروب جاراتي السودانيات من بلدهن إلى مصر أشعر بأنني في نعمة يجب أن أحافظ عليها إذا كان بإمكاني إطعام أبنائي وتعليمهم بإحدى المدارس التي تقدم الحد الأدنى من التعليم المقبول”.

الأمر نفسه ذهب إليه طارق حمدي، رب أسرة مكونة من خمسة أفراد ويعمل موظفَا بإحدى الجهات الحكومية، قائلا “إن ارتفاع أسعار الخدمات يضغط بشكل كبير على ميزانية المصروفات الأساسية في كل شهر، وهناك العديد من الخطط المستقبلية جرى التنازل عنها وغض الطرف عنها لصالح الإيفاء بالالتزامات الآنية، وندرك أن اتخاذ القرارات الراهنة ضروري لعدم تراجع الأوضاع الاقتصادية على نحو أكبر ومازال لدينا أمل في تحسن الأوضاع المعيشية وفقًا لما تؤكده الحكومة مراراً وتكراراً”.

وأكد في تصريح لـ”العرب” أنه “لن يكون مجديا التوقف أمام الزيادات المستمرة طالما أن الأوضاع ملتهبة في غزة والسودان وليبيا، إلى جانب صراعات أخرى مؤثرة على الدخل القومي في البحر الأحمر مع اضطراب حركة الملاحة في قناة السويس”.

ولفت إلى أن حالات الفوضى تقود إلى تدهور اقتصادي، وليس الوصول إلى حالة رخاء، وهناك حالة رخاوة أمنية تحيط بالمنطقة تجعل من الأمن أولوية قصوى وإن تزايدت صعوبات الحياة على نحو يفوق قدرات البعض.

ويشير مراقبون إلى أن توالي زيادات أسعار الخدمات على مدار السنوات الماضية أوجد اعتيادا عليها، لكن ذلك لا يكفي لضمان تحمل المصريين، لأن الطبقات الفقيرة ستكون بحاجة إلى تدخلات عاجلة على مستوى اتساع رقعة مساحات الحماية الاجتماعية وزيادة الرواتب بما يجعلها مقتنعة بأن الحكومة تعوضها عن خطواتها التي تقول بشكل مستمر إنها لا مفر منها وتخدم المواطنين على المدى البعيد.

وذكر أستاذ العلوم السياسية في مركز البحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة حسن سلامة أن الاختيار بين الحفاظ على محددات الأمن القومي والاعتراض على زيادات السلع والخدمات يجعل الأولوية للخيار الأول، وتوجد مخاوف حقيقية جراء ما يحدث في بعض دول الجوار التي لم تصبح دولاً بتعريف العلوم السياسية، وأن الخبرات الاجتماعية للمصريين تجعلهم ينحنون انتظاراً لمرور العاصفة دون الانخراط في الفعل أو الممارسة السياسية، وأن ذلك جزء من الموروث الثقافي.

ولفت في تصريح لـ”العرب” إلى أن الحفاظ على المجتمع والأرض من التفكك يبقى أولوية بالنسبة إلى المصريين وإن تحملوا المزيد من الأعباء إلى حد معين، لكن الرهان على تحمل المصريين بشكل مستمر غير متوقع العواقب، وسيتوجب على الحكومة أن تركز أولوياتها على توفر إجراءات الحماية الاجتماعية وتحسين الخدمات التي توفرها، والبحث عن سبل أخرى يمكن خلالها خفض الدعم من خلال الضرائب التصاعدية أو استخدام نظام الشرائح وحماية الطبقات الفقيرة واتخاذ قرارات بشكل متدرج لا يشكل عبئَا ثقيلاً مرة واحدة على المواطنين.

ولئن كانت زيادة أسعار مترو الأنفاق دائما ما تكون مقترنة بفتح خطوط جديدة وتسهيل عملية الانتقال داخل العاصمة القاهرة، فإن القطارات مثلاً بحاجة إلى تطور مماثل مع تراجع مستوى الخدمة التي تقدمها، كذلك الوضع بالنسبة إلى الكهرباء التي شهدت ارتفاعا في وقت يتخوف فيه المصريون من عودة تخفيف الأحمال مرة أخرى.

وأكد سلامة في حديثه لـ”العرب” أن مشكلات رفع أسعار الخدمات تتمثل في الضغط على الأجيال الصاعدة التي تشكل أداة يجب أن توظفها الحكومات المتعاقبة للحفاظ على استقرار الدولة، وأن هؤلاء الذين يمثلون الجزء الأكبر من المصريين سيجدون أنفسهم أمام صعوبات جمة إذا استمرت عمليات رفع الدعم دون تقديم تسهيلات تساعدهم على تحمل أعباء الحياة.

وتعد زيادة أسعار مترو الأنفاق السادسة التي تقرها الوزارة في فترة لا تتجاوز 6 سنوات ونصف العام، بإجمالي نسبة 1900 في المئة مقارنة بما كان عليه سعر التذكرة قبل عام 2017، ويستقله الملايين من الأشخاص في القاهرة وضواحيها للذهاب إلى أعمالهم، ورفعت مصر قبل أسبوع أسعار الوقود المحلية بما يصل إلى 15 في المئة للمرة الثانية خلال العام الجاري.

ويرجع تقبل زيادات أسعار الخدمات إلى قدرة الجهات المسؤولة على تهيئة المواطنين لتقبلها، لأن الحديث بوضوح خلال الأسابيع الماضية وشرح أبعاد رفع أسعار المحروقات وربط ذلك بما يحدث في الاقتصاد العالمي جعل البعض يقتنع بأن صانع القرار المصري يضطر إلى اتخاذ إجراءات مؤلمة.

العرب