أحسب أن وضع مشاهد الانتخابات المصرية ومشاهد الانتخابات التركية الأخيرة بعضها إلى جانب بعض ليس هو كل المطلوب من هذا المقال أن ينجزه، بل لعله آخر المطلوب منه، ولولا أن هذه السطور قد تبقى حتى يقرأها من لم يشهد هذه المرحلة، لما كان ثمة فائدة في أن نعيد ونكرر ذكر مشاهد ناطقة أمام أعين العالم كاشفة عن عمق الشقة واتساع الهوة بين “ديمقراطية” مصر الحالية وديمقراطية تركيا.
فالشيء الأهم من هذا الرصد المجرد والمقارنة الصامتة أن نقرأ دلالات ذلك على المستويين الوطني والإقليمي في كلا البلدين، ونطوح بعيدا بعض الشيء في ما عسى أن تحمله التجربتان من تطورات متوقعة لمصر وتركيا في المدى القريب على الأقل.
أول ما يقابلنا في الانتخابات المصرية التي أجريت جولتها الأولى في أكتوبر/تشرين الأول الماضي هو أن قائد الانقلاب أبطلها قبل أن تبدأ، فحرم الحزب الفائز من تشكيل الحكومة؛ وذلك حين أعلن أن الحكومة التي تشكلت قبل جولة الانتخابات الأولى بأيام برئاسة شريف إسماعيل لن تترك مواقعها عقب الانتخابات، وليس عليها أكثر من عرض خطتها على البرلمان.
“السيسي أكمل اغتيال الانتخابات مبكرا بما تسرب من نيته تغيير مواد في الدستور الحالي رأى أنها تمنح مجلس الشعب سلطات أكثر من اللازم؛ أي تعوق انفراده التام بالسلطة، وقد أطلق تصريحا من تصريحاته الشهيرة أعلن فيه أن الدستور وضع بحسن نية، وأن البلاد لا تُدار بهذه الطريقة!”
بل أكمل السيسي اغتيال انتخابات مصر مبكرا بما تسرب من نيته تغيير مواد في الدستور الحالي رأى أنها تمنح مجلس الشعب سلطات أكثر من اللازم؛ أي تعوق انفراده التام بالسلطة، وقد أطلق تصريحا من تصريحاته الشهيرة أعلن فيه أن الدستور وضع بحسن نية، وأن البلاد لا تُدار بهذه الطريقة!
في المقابل، أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جميع الفرقاء السياسيين حقهم في التنافس من جديد على نيل ثقة الشعب التركي عقب فشلهم في يونيو/حزيران الماضي في تحقيق أي منهم نسبة نجاح مئوية تعطيه الحق في تشكيل الحكومة منفردا، وعدم توصلهم فيما بعد إلى صيغة حكم ائتلافي لإدارة البلاد خلال الدورة البرلمانية الحالية.
ومع أن حزب الدعوة الإسلامية الكردي قاطع الانتخابات في تركيا بدعوى عدم الثقة في أنها ستجلب الاستقرار للبلاد، فإن أحدا لم يواجهه بفتاوى دينية مؤثّمة أو مفسِّقة ولا بتهديدات قانونية بدفع غرامات مالية.
وأما في مصر، فقد هبّ خصوم الانقلاب يدعون إلى مقاطعة انتخابات ما أسموه “برلمان الدم” الذي أراد الانقلاب أن يثبّت به أقدامه في الحكم على أشلاء ضحاياه، وحاول هؤلاء الخصوم من جهتهم دعم موقفهم ببعض الفتاوى الشرعية التي ربما لم يكونوا في حاجة إليها.
فخرجت علينا من الجهة المقابلة فتاوى رنانة ترمي من لا يشارك في الانتخابات بمخالفة صريح الشرع، حتى بدا كأن من يقاطع الانتخابات قد فرّ يوم الزحف! كما قام الإعلام بدوره في تهديد الناخبين بتوقيع غرامات موجعة عليهم إن لم يدلوا بأصواتهم.
وبعد أن هدأت الدعاية الانتخابية في كلا المشهدين المصري والتركي، ودخل المرشحون وأنصارهم في صمت اضطراري، راحت التخمينات والتوقعات تبشر بحضور كثيف هنا وهناك، وما هي إلا ساعات حتى انكشف المشهد المذاع على العالم مباشرة يوم الانتخاب عن فضيحة هنا وصورة باهرة هناك، فما التُقطت في الانتخابات المصرية صورة حقيقية واحدة لطابور من الناخبين، في حين كانت الحركة أمام اللجان في الانتخابات التركية تشير إلى حجم الإقبال المذهل من أبناء الشعب على اختيار مرشحيهم، ولم لا والحاضرون في انتخابات مصر لم يتجاوزوا 5% من الناخبين (أرقام حكومة الانقلاب وصلت بها إلى أكثر من 26%) في مقابل نحو 90% في انتخابات تركيا.
عند مقارنة عدد الناخبين في مصر بعددهم في تركيا نجدهم متقاربين كثيرا (نحو 53 مليونا و57 مليونا على الترتيب)، إلا أن نسبة من لهم حق الانتخاب من مجمل السكان يصل في تركيا إلى نحو 74%، في حين أنه يصل في مصر إلى نحو 57% فقط، ومع هذا رُتِّبت الانتخابات في مصر بحيث تُجرَى على مرحلتين، وأجرتها تركيا بصورة مشرفة خلال نهار الأول من نوفمبر/تشرين الثاني فقط.
ومع أن هذا قد لا يؤخَذ على الانتخابات المصرية الأخيرة وحدها؛ لأن نوبات الانتخاب والاستفتاء السابقة التي جاءت ببرلمان الثورة في مصر أواخر عام 2011 وأوائل 2012، وبأول مجلس شورى ثوري في يناير وفبراير من العام نفسه، وبأول رئيس مصري منتخب منتصف عام 2012، وبدستور الثورة في أواخر العام نفسه، كلها أجريت على مرحلتين أو ثلاث وفق هذا النظام نفسه، فإن إصرار الحكم الحالي على حشر القضاء معه شاهدَ زور في الانتخابات هو الذي اضطرهم إلى هذا الضيق، فجاءت الفضيحة العريضة في فصل، وبقي فصل آخر.
“عند مقارنة عدد الناخبين في مصر بعددهم في تركيا نجدهم متقاربين كثيرا (نحو 53 مليونا و57 مليونا على الترتيب)، ومع هذا رُتِّبت الانتخابات في مصر بحيث تُجرَى على مرحلتين، وأجرتها تركيا بصورة مشرفة خلال نهار الأول من نوفمبر/تشرين الثاني فقط”
ومع هذا، فإن المرشحين الذين تنافسوا في الانتخابات التركية هم وجوه متنوعة تنتمي إلى تيارات لها تمثيلها العميق وسط الشعب بمختلف ميوله وتوجهاته، وهم من التنوع بحيث نجد فيهم الإسلامي والليبرالي والقومي المتطرف التركي أو الكردي، وقد عرضوا على الناس بضاعتهم بالكامل، واختار الشعب منهم من اختار بصورة حرة تماما.
وأما مصر الحزينة، فثمة صراع على من يفوز بكعكة اليتيم التي لا صاحب لها (مصر)، أو التي صار أصحابها بين شهيد وسجين ومطارد داخل وطنه ومطرود خارجه ومضطر إلى الصمت. فإما أن يفوز بها السياسيون ورجال الأعمال والإعلاميون المتماهون في الانقلاب حتى يكون البرلمان أداة تشريعية تحت الطلب مثلما هو حال السلطة القضائية المحزن، وإما التكتل الخفي لبقايا الحزب الوطني الذي حكم مصر طوال عهد مبارك، ولم يقبض ثمن تحالفه مع الانقلاب إلى الآن.
وفي فهم دلالات ذلك كله، نجد أن الناس خرجت إلى الانتخابات في تركيا بكثافة عالية جدا وهي تعلم أن أصواتها لها قيمتها واحترامها، وأنها ستصنع الواقع التركي بالفعل، فتوجهوا إلى صناديق الاقتراع بحثا عن الاستقرار السياسي الذي افتقدوه طوال الأشهر الماضية، وأثر على كل مجاري الحياة في البلاد؛ خاصة أمنها واقتصادها.
وأما المصريون فما قل حضورهم لأنهم ملوا من “كثرة الاستحقاقات الانتخابية” -كما زعم محللو الحكومة أو المبررون لكل فشل عقب الجولة الأولى من الانتخابات- بل أكدت الشواهد أن صورة الوطن وسياساته قد قُرِّرت سلفا، وأن المواطن سواء خرج للإدلاء بصوته أم لم يخرج فالنتيجة واحدة، خاصة مع ما يحيط به من تجليات للفشل الكارثي في إدارة البلاد.
وما زالت ذكريات الفساد والانتخابات المزورة من عهد مبارك ماثلة في الأذهان إلى اللحظة الحالية، بل ليست انتخابات الرئاسة التي جاءت بالسيسي ولا الاستفتاء على الدستور الحالي من الناخبين ببعيد.
ومن أخطر ما يمكن رصده في كل من الانتخابات المصرية والتركية الأخيرتين: أن إخراج المشهد التركي جاء تركيا وطنيا بامتياز، فأجهزة الدولة التركية المعنية هي التي رسمت الخطط، واتخذت التدابير، ونفذت الإجراءات الانتخابية من ألفها إلى يائها، بل إن الخارج حاول بطرق مختلفة أن يؤثر على حظوظ بعض الأحزاب على حساب الاستقرار العام في البلاد، لكن الوعي ودقة التنظيم أخرجا لتركيا مشهدا انتخابيا رائعا بكل المقاييس.
وأما مصر فجاء مشهدها الانتخابي بائسا، وهو نتيجة طبيعية لتدخلات خارجية وتحالفات إقليمية سابقة أفرغت المشهد السياسي المصري من كل معاني المصداقية، وأجهضت التجربة الوليدة قبل أن تأخذ فرصتها الكافية في المضي بالبلاد في هذا الطريق الذي يمنح المواطن كرامته وحقه في أن يختار الطريقة التي تدار بها البلاد والشخصيات التي تديرها.
والانتخابات التركية كذلك شهادة جديدة للإسلاميين على أنهم -وبصورة عملية كاملة- لم يسلكوا طريق الإقصاء والإبعاد الظالم لخصومهم، وأنهم ينافسون غيرهم منافسة شريفة. وإن كان من الإسلاميين متشددون ينفون خصمهم حتى دون أن يكونوا في السلطة، فإن من الظلم أن نعمم ذلك، ونتخذه وسيلة للدعاية المضادة والتشويه.
“تركيا أنجزت ما أنجزت ليس لأنها تركيا، وكذلك مصر فشلت هذا الفشل المخزي ليس لأنها مصر، ولكن لأن الذين قاموا على الأمر في تركيا شخصيات وطنية تعمل وفق تخطيط محكم، وتتقي الله في شعبها وبلادها، والباقي يعرفه كل الناس”
وأما التجربة المصرية، فجاءت شاهدا وافيا على أن حكم العسكر لا صديق له إلا من يمشي حذاء حذائه، فمع أن جمهرة الليبراليين المصريين تحالفت مع جنرالات العسكر ضد الإسلاميين، وقبلت فيهم كل وجوه الظلم والتنكيل التي لحقت بهم، بل شجع كثير منهم على القتل والسحق علنا وصراحة، مع هذا فإن كل يوم يشهد منهم أشخاصا جددا يعلنون خيبة أملهم في حكم العسكر، وكأنهم لا يفهمون طبيعة هذا اللون البشع من الحكام، وكأنهم لم يشاركوا بصورة أو بأخرى في قتل مئات أو آلاف الأبرياء.
ولكن، هل سقط النظام في مصر بهذا الفصل الجديد من الفشل؟ وهل ستتوقف المؤامرات على تركيا بهذا النجاح الجديد؟
لقد صارت تركيا منذ زمن هدفا من أهداف التحالف الإقليمي الدولي المعادي لثورات الربيع العربي -ومصر السيسي عضو فاعل في هذا التحالف- ذلك لأن أنقرة اختارت من البداية أن تقف تحت قيادة حزب العدالة والتنمية في صف الشعوب الباحثة عن حريتها، وهبت عليها لأجل هذا عواصف كثيرة أثرت في وضعيها السياسي والأمني بقوة.
والحقيقة أن تركيا لا يمكنها التراجع عن هذه المواقف؛ لأنها صارت دولة مكشوفة التوجهات؛ خاصة بعد سلسلة أزمات عاشتها علاقاتها بإسرائيل خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلا أنه يمكن لصانع السياسة التركي أن يعمل بشكل أساسي على الحفاظ على الجبهة الداخلية مستقرة بلا تغييرات كبيرة في نظام إدارة الدولة، مع مواصلة طريق التنمية الاقتصادية الصاعد، وتتفرغ بعض الشخصيات -وعلى رأسها رئيس الدولة ووزير الخارجية- لرسم ملامح التعاطي مع الخارج، متوقعين أن تأخذ الخطط المضادة خطوات أكثر حدة في شغل تركيا بنفسها؛ خاصة في ما يتعلق بالأكراد.
وأما الانقلاب في مصر، فسيواصل -كما يتوقع- وظيفته في الهجوم على تركيا، والتعاون مع خصومها الظاهرين والباطنين، ورمي “السلطان” أردوغان -كما تلمزه الصحافة المصرية- بكل نقيصة؛ حتى هدم الديمقراطية، وإدارة تركيا بديكتاتورية بغيضة!
وفي المقابل، لن يجدّ جديد في أداء الانقلاب في إدارة البلاد، فقد بدأت فصول الإخفاق مبكرا، وما زالت تتواصل، ولا أظنها ستتوقف حتى نهاية هذا الفصل الكئيب من تاريخ مصر؛ لأن العقول التي تحكم هنا ضيعت أفضل مراحل الدعم الإقليمي والدولي -السياسي والاقتصادي- لها، واشتغلت في إدارة البلاد على نفس خطة إدارة الانقلاب؛ إبعاد واستبعاد وكذب وخداع ونهب لا يتوقف.
مهما يكن، فإن تركيا أنجزت ما أنجزت ليس لأنها تركيا، وكذلك مصر فشلت هذا الفشل المخزي ليس لأنها مصر، ولكن لأن الذين قاموا على الأمر في تركيا شخصيات وطنية تعمل وفق تخطيط محكم، وتتقي الله في شعبها وبلادها، والباقي يعرفه كل الناس.
نبيل الفولي
المصدر : الجزيرة