كان الناخب التركي على موعد مع الانتخابات النيابية التي جرت في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، ليفشل كل من استطلاعات الرأي العام، المنحازة والمرتبطة بدوائر إعلامية تركية وغير تركية معادية لتوجهات السياسة الداخلية والخارجية لحزب العدالة والتنمية. فمنذ أن أعلن رئيس التركي رجب طيب أردوغان في25 آب/ أغسطس من العام الجاري، عن إجراء انتخابات جديدة، لتجاوز الأزمة السياسية في البلاد التي أحدثتها نتائج الانتخابات النيابية والتي جرت في حزيران/يونيو الماضي. إذ صدر عن العديد من المراكز البحثية ووسائل الإعلام التركية استطلاعات رأي يومية وأسبوعية وشهرية ومناطقية في تركيا، حيث أجمعت تلك الاستطلاعات الموجهة، بأن حزب العدالة والتنمية لن يتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده. كما أنه خيب ظن التحليلات”السياسية” المبنية على أساس طائفي والمرتبطة بإيران، والتي راهنت على أن تكون نتائج الانتخابات بمثابة شهادة وفاة لحزب العدالة والتنمية، متخذين من تجربة الرئيس التركي الأسبق تورغت أوزال زعيم حزب الوطن الأم والذي أصبح رئيساً الجمهورية(1989م/1993م) وترك الحزب مثالا على ذلك. ولكن كان للناخب التركي رأي آخر، إذ أعلن بهذه نتائج شبه مؤكدة والمدوية والمتمثلة بفوز حزب العدالة والتنمية على نسبة 49.4 في المئة، وحصوله على 316 مقعد نيابي من أصل 550 من مقاعد المجلس الوطني الكبير”البرلمان”، ومن ثم تمكنه من تشكيل الحكومة التركية المقبله بمفرده دون الحاجة إلى إئتلافات حكومية هشه، فهذه نتيجة تعني تأسيس تحالف إقليمي يضم كل من المملكة العربية السعودية وتركيا ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر الحليف التقليدي لتركيا وقد تنضم إليه جمهورية مصر عربية، لنكون أمام تحالف إسلامي يضع في أولى أولوياته تصفية الخلافات بين دوله وخاصة بين تركيا وقطر من جانب ومصر والإمارات من جانب آخر، بحيث يهدف هذا التحالف إلى إنهاء النفوذ الإيراني في المشرق العربي، وصلفه وغروره الذي وصل إلى مستوى إعلان أحد مسؤولي النظام السياسي الإيراني عن سيطرة نظامه على أربع عواصم عربية” دمشق وبغداد وصنعاء وبيروت”.
سيكون في جدول أعمال هذا التحالف النهوض الانخراط بقوة في الحل القضايا الإقليمية العالقة، إذ أنه سيساهم في حل الأزمة السورية التي طال أمدها، وفق ما يتطلع إليه الشعب السوري في التخلص من ديكتاتور سوريا بشارالأسد، وليس كما ترغب حلفائه في روسيا وإيران وحلفاؤها من المليشيات المنتشرة في بعض دول المشرق العربي في الإبقاء عليه. كما أنه سيعمل في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية بين مكونات المجتمع العراقي وخاصة بين أهم مكونيه السُنة والشيعة التي عملت إيران على تفريقهما من خلال رئيس الوزراء العراقي السابق(2006م/2014م) نوري المالكي. فهذه المصالحة ستفضي إلى دمج سُنة العراق في النظام السياسي العراقي، فلا تعافي ولا فاعلية لهذا النظام السياسي ما لم يتم صهر كل مكوناته لينتج دولة مدنية حداثية معاصرة تختلف تماماً عن دولة ولاية الفقيه التي تحاول إيران نسخ تجربتها الثيوقراطية في العراق. أما في اليمن سيسرع هذا التحالف من خلال عاصفة الحزم العربية من هزيمة الحوثيين والمشروع الإيراني في اليمن وعودتها إلى ما قبل الانقلاب العسكري الحوثي في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، وإعادة تفعيل المبادرة الخليجية التي أعلن عنها في نيسان/إبريل 2011م، كمخرج لتسوية الانتفاضة اليمنية التي اندلعت ضد حكم الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح الذي آثر البقاء في الحكم على حساب شعبه، وانتقام منه في تعاونه مع الحوثيين والايرانين لتسليم اليمن لإيران، ولكن ذلك المخطط أفشلته المملكة العربية السعودية وحلفائها بعاصفة الحزم، كما أنه سينتهي تماما مع التحالف الإقليمي، وبذلك تسقط محاولات إيران في فرض هيمنتها جيوستراتيجية على جنوب الجزيرة العربية. أما في لبنان فإن نفوذ إيران سيأخذ المزيد من الوقت لإنهائه، ففي هذه المرحلة سيصار إلى تحجيم الدور الوظيفي لحليفها حزب الله هناك، هذا الحزب الذي لا يمانع منذ نشأته وإلى يومنا هذا، أن يكون أداتها التخريبية في المشرق العربي وخاصة في سوريا ولبنان.
وهذا تحالف لديه من الامكانيات الدبلوماسية والاقتصادية والدينية في انهاء نفوذ الدولة الإيرانية، كونه يتألف من دول محورية في منطقة الشرق الأوسط، فتركيا قوة إقليمية صاعدة ذات ثقل ديمغرافي، وتمتاز بموقع استراتيجي، ساهم في تعدد دوائر( الأوروبية، الغربية الأطلسية، الشرقية الأوسطية، الأسيوية” آسيا الوسطى والقوقاز، الاسلامية، البحر الأسود،البلقان”. أما المملكة العربية السعودية تتصل بروابط استراتيجية تشمل الجزيرة العربية، والوطن العربي، والشرق الأوسط، والمحيط الهندي، وهي ضمن الدول العشرين الأقوى إقتصادياً في الجماعة الدولية، فهي تمتلك أوراق قوة تستطيع من خلالها التأثير على مسار الأحداث في بيئتها الإقليمية. ناهيك عما تمثله المملكة بوصفها دولة الحرمين الشريفين وما لهما من رمزية عظيمة في نفوس المسلمين عامة والسُنة خاصة. وما أدل على ذلك موقف الرأي العام الإسلامي خاصة لدى أهل السُنة في العالم الذي وقف مع المملكة العربية السعودية ضد محاولات إيران التخريبية في موسم الحج الماضي.
أما مصر فلديها ما تقدمه لهذا التحالف من قوة دبلوماسية وعسكرية وموارد بشرية لا يستهان بها إذا ما وظفت بالشكل الصحيح، وتجاوزت أزمتها الداخلية بتحقيق المصالحة الوطنية مع الإسلام السياسي.في حين قطر والإمارات لديها الطاقة بشقيها النفط والغاز، وهناك أيضا قيمة مضافة لكل هذه الدول فجميعها تطل على أكثر من بحر، فمصر على سبيل المثال تشرف على البحر الأحمر والمتوسط، وتركيا فبالإضافة إلى إطلالتها على البحر الأخير، فهي تشرف أيضاً على بحر مرمره وايجه. أما الامارات وقطر والمملكة العربية السعودية تطل على الخليج العربي، وبهذه الإمكانات والموارد المتاحة لدى كل عضو من أعضائه فنحن أمام تحالف جيوستراتيجي يستطيع أن يفرض إرادته وبقوة على منافسيه. وعليه وسيحظى هذا التحالف بدعم غربي سواء من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، -وخاصة المملكة المتحدة التي لديها الرغبة مجددا في لعب دور بارز في قضايا الشرق الأوسط-، فجميع الدول المنخرطة في هذا التحالف تجمها علاقات جيدة مع الأولى والثانية، كما إن هذا التحالف سيكون رصيد لهما في مواجهة سياسات إيران العدوانية، وروسيا في القوقاز،أضف إلى ذلك ما يمتلكه هذا التحالف يشجع الجميع في التعاون معه على العكس من التحالف الإيراني الروسي الذي يعاني من تراجع اقتصاده نظراً لتدني أسعار النفط عالمياً.
لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق، وإن كانت نتائج الانتخابات الأخيرة تجاوزته، لكن من المهم عرضه في هذا الإطار؟ ما الذي كان ترجوه إيران وحلفائها من نتائج هذه الانتخابات؟ تدرك إيران بشكل جيد من الصعوبة بمكان إخراح حزب العدالة والتنمية من المشهد الانتخابي التركي برمته، ومن ثم استبعاده تماما عن المشهد السياسي في تركيا، فهي كانت تمني نفسها بأن تكرر نتائج الانتخابات النيابية السابقة،وهذا يعني أن حزب العدالة والتنمية لن يكون باستطاعته تشكيل الحكومة التركية القادمة بمفرده، مما يعيده إلى نقطة الصفر ويدفعه مضطراً إلى دخول جولة جديدة في المفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب المعارضة المتمثلة في البرلمان التركي. ما مكاسب ذلك لإيران؟
يمكن القول مع هذا التوقع، إن تغييراً ما سيطرأ على السياسة الخارجية التركية، لكن هذا التغيير لن يكون جذريا أو تحوليا؛ حيث إن حزب العدالة والتنمية في حال استطاع تشكيل حكومة ائتلافية ستكون الحصة الأكبر في الحكومة له، لكنه في الوقت نفسه لن يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية تجاه قضايا السياسة الخارجية تحديداً؛ نظراً إلى وجود معارضة كبيرة له في البرلمان، كما أن الحزب الذي سيشاركه سيقوم بالضغط عليه.
فتشكيل الحكومة الائتلافية يعني أن السياسة الخارجية التركية لن تكون كما كانت عليه في ظل حزب العدالة والتنمية. فحزب الشعب الجمهوري لا تنسجم سياساته مع حزب العدالة والتنمية بشأن سوريا كما بشأن مصر. وحزب الشعوب الديمقراطية لن يكون شريكاً في ائتلاف مع العدالة والتنمية إلا وفق شروط عالية جدا لا يمكن للحزب الحاكم أن يقبل بها. أما حزب الحركة القومية فهو يعارض أيضاً وبشدة سياسة الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان، ويدعو إلى وقف التدخل التركي في شؤون الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا، والتي لا تخدم برأيه سوى مشروع الشرق الأوسط الكبير للولايات المتحدة الأمريكية.
أما طبيعة وشكل التغييران سيتحددان بشكل أوضح بعد معرفة الحزب المشارك مع العدالة والتنمية، ومن الذي سيتولى حقيبة وزراة الخارجية. وذلك مع اعتبار أن فرص التغيير على مستوى السياسة الخارجية في حكومة يشارك بها الحزب الحركة القومية ستكون أقل من حكومة يشارك بها حزب الشعب الجمهوري. نظراً لتقارب الأول مع المنطلقات الفكرية مع حزب العدالة والتنمية.
ومن المرجح في هذا السياق أن أي حزب سيشارك حزب العدالة والتنمية ضمن هذا الائتلاف سيسعى إلى تقليص دور رئيس الجمهورية في تقرير السياسة الخارجية، ولا يعني هذا امتناع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن التدخل والإدلاء برأيه، حيث إن توقفه عن ذلك يتعارض مع شخصيته ودوره التاريخي.
وعليه ينطبق على هذه الحكومة الإئتلافية مضامين نظرية المباراة في العلاقات الدولية إذ سيكون هناك خاسر ورابح إقليمي، فالنسبة للخاسر:دول الخليج العربي، لأنه سيعطل التحالف التركي السعودي القطري في الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، وربما قد تخرج تركيا من هذا التحالف، وهذا ما لا ترجوه السعودية وقطر، كما أن هذه الحكومة ستقوم بتقييم التحالف القطري التركي السعودي في مواجهة تمدد مشروع الإيراني التوسعي في المشرق العربي. كما أن الحكومة الائتلاف على الرغم من أهمية العراق في السياسة الخارجية التركية إلا أنها ستتراجع عن موضوع إدماج سُنته في العملية السياسية.
أما الرابح فستكون إيران وحلفاؤها الإقليميين من الدول وغير الدول، لأنها ستتخلص من انفراد حزب العدالة والتنمية في رسم السياسة الخارجية التركية التي وقفت بشكل واضح ضد حكم بشار الأسد، وانتقادها للسياسات العراقية الداخلية القائمة على إقصاء أهل السنة، هذا الاقصاء الذي يخدم السياسية الإيرانية في العراق، فإن أي حكومة ائتلافية قادمة سوف تعترض على هذا النهج، نظرا للعلاقات الجيدة التي تجمع بين أحزاب المعارضة التركية وإيران، وتدعم بشكل متفاوت بقاء بشار الأسد في الحكم، ودور إيران في العراق ومجمل المنطقة.
ومن هنا نفهم الاحتفالية العارمة التي عبرت عنها وسائل الإعلام الإيرانية، وتلك التابعة للنظامين السوري والعراقي، وأيضاً حزب الله اللبناني، والحوثيون، بعد اعلان نتائج الانتخابات التركية السابقة، إذ تقترب من الاحتفالية الإعلام الغربي حينما تداولت وكالة الأنباء العالمية خبر تفكك الإتحاد السوفييتي، حيث علقت وكالة أنباء فارس الإيرانية والمقربة من حرس الثوري الإيراني بالقول إن:” تداعيات اللعنة السورية ستطارد أردوغان والعثمانيين الجدد، لما ارتكبوه من مجازر بحق الشعب السوري وشعوب المنطقة إلى جانب حلفائهم في السعودية وقطر” وقالت أيضاً” الشعب التركي وقف بالمرصاد لطموحات أردوغان العثمانية، وقبرها إلى الأبد”. أما وسائل الإعلام السوري، فقد احتفلت بما وصفته “الصفعة لأحلام أردوغان التوسعية” كما زعمت بأن النتيجة تعبر عن رفض الشعب التركي ل”استبداد السلطان”. وكذا الأمر في بعض الصحف العراقية واللبنانية واليمنية الممولة من إيران.
وعليه فإن تقييد السياسة الخارجية التركية بتشكيل حكومة إئتلافية وتحجيم دور حزب العدالة والتنمية في تركيا سيصب على المدى القريب والمتوسط لصالح إيران سياسياً واقتصاديا وعسكريا التي ستلقط أنفاسها مع هذا المتغير المهم. وخسارة للجانب العربي وخاصة في الخليج العربي لأنه من الصعوبة بمكان تكوين مشاركة أو إقامة أي تحالف وظيفي لمواجهة إيران مع حكومة ائتلافية في تركيا. وبذلك قد تكون دول الخليج العربي أمام استحقاقات الانكشاف الثاني بعد الانكشاف الجيوستراتيجي الأول والمتمثل باحتلال العراق وانضمامه للمحور الإيراني، أما الثاني مع تشكيل حكومة ائتلافية ضعيفة في تركيا ستنشغل بقضاياها الداخلية.
ولكن الناخب التركي أفشل هذا التصور، وفاجأ كل من كان يرغب بمفاجأته كإيران وحلفاؤها لكن لم يفاجأ من استقرء المشهد السياسي بتركيا خاصة بعد الانتخابات النيابية التي جرت في حزيران/يونيو الماضي،بعناية فالناخب التركي رفض أن تتلاعب دول إقليمية وأحزاب سياسية هشه بمصيره واستقراه. وعليه نقول أن السياسية الخارجية التركية وفق نتائج الانتخابات شبه مؤكدة ووفق الانسجام السياسي الموجود بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والمجلس الوطني الكبير”البرلمان”، ما يشجع على إقامة تحالف إقليمي لاجتثاث النفوذ الإيراني في المشرق العربي، وما الارتياح والفرحة التي ظهرت عبر وسائل الإعلام في بعض دول الخليج العربي من نتائج تلك الانتخابات، إلا مقدمة على تشكيل ذلك التحالف.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية