المعارضة المغربية: واقع وخيارات المرحلة القادمة

المعارضة المغربية: واقع وخيارات المرحلة القادمة

2015112101958402734_8

ملخص:
تستعد أحزاب المعارضة بالمغرب لخوض غمار سنةٍ سياسية صعبة في أفق الانتخابات التشريعية لسنة 2016، بينما لا تتوفر على خيارات كثيرة للمناورة وتحقيق الأهداف؛ فالانتصار الذي حققه حزب الأصالة والمعاصرة تحول إلى هزيمة معنوية، ليس لأنه لم يفز في المدن فقط، ولكن لأنه لم ينجح في الحفاظ على علاقات التنسيق والتعاون مع باقي أحزاب المعارضة كذلك. وكانت لحظة فوزه برئاسة مجلس المستشارين فارقة في تأكيد عزلته السياسية عمَّا يسمى بأحزاب الصف الديمقراطي.

ويبدو أن أمام هذا الحزب خيارًا وحيدًا هو الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة، بأي ثمن، من أجل كسر عزلته، وإلا سيكون مجبرًا على الاختيار إمَّا بين الاستمرار في المعارضة وبالتالي احتمال تفككه، لأنه لا يتوفر على بنية حزبية حقيقية، ولأن قاعدته من الأعيان لا تحتمل البقاء بعيدًا عن حلاوة السلطة أو الانضمام إلى حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية؛ مما يُفقده هويته السياسية كونه جاء لمحاربة الإسلاميين.

أمَّا حزب الاستقلال، الذي أنجز نقدًا ذاتيًّا بعد الانتخابات الأخيرة، فقد أعلن صراحة تغيير خطه السياسي من المعارضة للحكومة إلى المساندة النقدية لها، وهو تحو ل يعني في أساسه وضع مسافة نقدية مع حزب الأصالة والمعاصرة. لقد اختار هذا الحزب بشكل مبكر التموقع في الوسط بين القوتين الأبرز، أي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، حتى يكون ممكنًا له العودة إلى الحكومة المقبلة.

لكن لا يبدو أن لحزب الاتحاد الاشتراكي خيارات أصلًا، فبسبب أزمته البنيوية، ونتائجه الانتخابية الأخيرة، سيجد نفسه مضطرًّا إمَّا لتبنِّي خيار المساندة النقدية للحكومة، أو البحث عن تحالف مع الأحزاب الصغرى لليسار، وفي كلتا الحالتين يتطلب الأمر منه نقدًا ذاتيًّا عميقًا، إذا أراد البقاء حيًّا فوق سطح الحياة السياسية المغربية.

خلَّفت المعطيات المتعلقة بنتائج الانتخابات الجماعية والجهوية ليوم 4 سبتمبر/أيلول الماضي بالمغرب تساؤلات حول الخيارات التي ستعتمدها أحزاب المعارضة في المرحلة المقبلة. وفي الوقت الذي أكَّدت تلك المعطيات على الدور البارز لطبقة أعيان البادية في رسم الخريطة السياسية للبلاد وتراجع القوة الانتخابية لليسار، أسفرت بالملموس عن تصدع عميق بين أحزاب المعارضة، التي جمعتها علاقات تنسيق وتعاون منذ عام 2013 ضد الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية.

أولًا: النتائج ودلالاتها

من بين النتائج التي كشفت عنها المعطيات التفصيلية للانتخابات الأخيرة بالمغرب، استمرار الصلاحية التفسيرية لأطروحتين سياسيتين حول الحياة السياسية: الأولى تؤكد على الدور المحوري لأعيان البادية، باعتبارهم القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي، التي يتحكم من خلالها في تشكيل الخرائط السياسية، وهي أطروحة لا يبدو أنها فقدت الكثير من بريقها منذ نهاية الستينات إلى اليوم، رغم التحولات الاجتماعية العميقة التي عرفها المجتمع. أما الأطروحة الثانية، فتُدافع عن استمرارية تآكل القوة الانتخابية لليسار في المشهد السياسي المغربي، منذ خوضه تجربة التناوب التوافقي سنة 1998، حتى الانتخابات الأخيرة.

أ‌- دور حاسم لأعيان البادية
من بين المفارقات الثابتة في العمليات الانتخابية بالمغرب، أن المدينة تُصوِّت في الغالب للأحزاب التي لها عمق شعبي نضالي، بينما تصوِّت البادية للأحزاب التي نشأت بإيعاز من السلطة. وهي مفارقة أكدتها الانتخابات الأخيرة كذلك، حيث فاز حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أسَّسه، سنة 2008، صديق الملك ومستشاره الحالي، فؤاد عالي الهمة، بينما صوَّتت المدن الكبرى والمتوسطة بكثافة لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، الذي حلَّ في المرتبة الثالثة من حيث المقاعد، لكنه الأول من حيث الأصوات.

وتعكس هذه المفارقة طبيعة التوازنات التقليدية التي أرساها نظام الملك الراحل الحسن الثاني منذ الستينات من القرن الماضي، وتعرَّض لها بالتحليل المتين، الباحث الفرنسي، ريمي لوفو Rémy Leveau، في كتابه “الفلاح المغربي المدافع عن العرش”(1)، والذي تطرَّق للصراعات التي شهدها المغرب خلال السنوات اللاحقة على استقلال المغرب سنة 1956، بين طرفين: النخب المدينية المنظَّمة في أحزاب وطنية من جهة، والقصر الملكي من جهة ثانية.

ويرى لوفو أنه في الوقت الذي استعملت أحزاب الحركة الوطنية الجهاز الإداري، نسج القصر تحالفاته مع الأعيان، أي كبار الفلاحين والملاك العقاريين في البوادي. وهو تحالف كان مربحًا للطرفين، كونه خَلَّص الأعيان من “أسر الشبهات الجماعية التي تتهمهم بالتعاون مع (سلطات) الحماية”. وفي المقابل، قام “الأعيان بتأمين الضمان السياسي لصالح القصر من قِبل الأرياف”(2). والنتيجة أنه “انطلاقًا من عام 1960، أصبحت النخب المحلية تُكوِّن مركز الثقل في النظام السياسي لصالح النظام الملكي”(3)، وأضحت كل السياسات الموجهة للعالم القروي، تتم بموافقة الأعيان ولصالحهم، مقابل الحفاظ على الاستقرار في البادية، وأساسًا ضبط وتحييد هذه الأخيرة في الصراع بين الملكية والنخب المدينية حول السلطة.

وبموجب تلك الصفقة، أضحى الأعيان بمثابة وقود انتخابي لا ينتهي للأحزاب التي تنشأ بإيعاز من القصر، وتحت مسؤولية النخب المولوية، مثل حزب “الفديك” (جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية) الذي أسَّسه صديق الملك الحسن الثاني ووزيره في الفلاحة والداخلية، رضى أكديرة، سنة 1963. أو حزب التجمع الوطني للأحرار الذي أسَّسه صهر الملك والوزير الأول، أحمد عصمان، سنة 1978. وصولًا إلى حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أسَّسه صديق الملك الحالي، محمد السادس، ووزيره المنتدب في الداخلية سابقًا، السيد فؤاد عالي الهمة، سنة 2008.

في الواقع، إن النتائج التي حصل عليها حزب الأصالة والمعاصرة في انتخابات 4 سبتمبر/أيلول 2015 لم تكن مفاجئة، سوى أنها أكَّدت النتائج التي حصل عليها سنة 2009، بينما لم يكن قد مرَّ على تأسيسه سوى أقل من بضعة أشهر(4). ففي كلتا المحطتين الانتخابيتين، كان مركز ثقله الانتخابي في البادية وليس المدينة، اعتمادًا على عاملين اثنين: الأعيان من كبار ومُلَّاك عقاريين من جهة، والتقطيع الانتخابي الذي تُعده وزارة الداخلية بمرسوم خاص، والذي يُغلِّب البادية على المدينة(5) من حيث الدوائر الانتخابية (1282 مقابل 221).

ب‌- تآكل قوة اليسار
ظل اليسار المغربي، وخاصة حزب الاتحاد الاشتراكي، طرفًا رئيسيًّا في الصراع السياسي حول السلطة الذي شهده المغرب طيلة العقود الأربعة الموالية للاستقلال. لكن منذ قراره المشاركة في آخر حكومة شكَّلها الملك الحسن الثاني قبل رحيله في صيف 1999، كانت البداية لكي يفقد الكثير من قوته. غير أن تآكل قوة اليسار المغربي لا تتعلق بسياق محلي خاص، بل هي جزء من أزمة اليسار عالميًّا، تجلَّت بوضوح إثر سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي. وفي نظر عبد الحي المودن(6)، بدأت الأزمة بتراجع “الأطروحات الفكرية” لهذا اليسار عن “المواقف المؤسسة من السوق الحرة ومن الطبيعة الطبقية للدولة الرأسمالية”، أي في الفترة التي عَرَفت، وهنا تكمن المفارقة، وصولَ أحزاب يسارية إلى السلطة عبر الانتخابات في عدد من الدول الأوروبية، وفي أميركا اللاتينية.

في المغرب، يمثِّل وصول اليسار إلى الحكومة، في نظر المودن، اتجاهًا مشابهًا نسبيًّا لما حدث على المستوى العالمي، حيث تراجع اليسار المغربي عن مواقفه المعادية لنظام السوق الحرة وللطبيعة الطبقية للدولة، لكنه تميَّز عن اليسار الأوروبي مثلًا بمعطيين اثنين: الأول: أنه مارس الحكم في سياقات وشروط تأثَّرت بظروف التخلف الاقتصادي، والحجم المحدود للسوق، وبطبيعة النظام غير الليبرالي للدولة. والأمر الثاني: أنه دخل الحكومة وسط خلافات عميقة ضمن اليسار حول منهجية وأولويات الإصلاح، عُمِّرت طيلة نصف قرن، وكان من مخلَّفاتها انشقاقات تنظيمية لم تتوقف إلى اليوم. وهي معطيات أثَّرت سلبًا على القوة الانتخابية للاتحاد الاشتراكي بشكل غير مسبوق.

ففي الانتخابات الجماعية لسنة 2003، وهي أول انتخابات محلية نُظِّمت بعد أن قاد الحزب حكومة التناوب بين الفترة 1998 و2002، حلَّ الاتحاد الاشتراكي في المرتبة الثانية بعد حزب الاستقلال، وحصل على 3373 مقعدًا بعدد من الأصوات تجاوز 990 ألف صوت(7)، لكنه في ثاني انتخابات جماعية بعد ذلك، جرت في سنة 2009، فقد الحزب نحو 300 ألف صوت مرة واحدة؛ حيث حصل على نحو 668 ألف صوت منحته 3225 مقعدًا وحلَّ في المرتبة الرابعة حسب النتائج العامة، بعد حزب الأصالة والمعاصرة ثم حزب الاستقلال ثم حزب التجمع الوطني للأحرار(8).

هذا المنحى التراجعي ظهر بوضوح كبير كذلك في الانتخابات الأخيرة؛ إذ تراجع من حيث القوة الانتخابية إلى المرتبة السادسة، بعد أن حاز 2656 مقعدًا بنسبة 8.43 في المائة من الأصوات(9). ولأول مرة، طيلة تاريخه السياسي، بات الاتحاد الاشتراكي يُصنَّف ضمن الأحزاب السياسية الصغيرة كحزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الدستوري، من حيث قوته الانتخابية، خصوصًا بعد أن أسفرت معركة رئاسة الجهات، وعددها اثنتا عشرة، عن خسارته وعدم ظفره بأية واحدة منها.

ثانيًا: الخيارات الممكنة

حتى ليلة الإعلان عن نتائج الاقتراع، بدت أحزاب المعارضة متماسكة وموحدة المواقف تجاه تطورات العملية الانتخابية(10). إلا أن التطورات السياسية التي جرت لاحقًا، وخصوصًا التنافس الحاد بين حزبي الأصالة والمعاصرة والاستقلال، أولًا: حول رئاسة الجماعات والجهات، وثانيًا: حول رئاسة مجلس المستشارين، قد أدَّت إلى وضع مختلف تمامًا، اتسم بدرجة عالية من التفكك، وأظهر معالم استراتيجيات مختلفة في أفق المرحلة المقبلة.

أ‌- حزب الأصالة والمعاصرة: تحدي العزلة
رغم انتصاره انتخابيًّا، وهو في موقع مكَّنه من انتزاع رئاسة خمس جهات إضافة لرئاسة مجلس المستشارين، أي الغرفة الثانية في البرلمان، فإن حزب الأصالة والمعاصرة يواجه تحديًا من مستويين: الأول: عدم تحقيق أي اختراق انتخابي بالمدن، وثانيًا: فشله في إدارة علاقاته بحلفائه(11)؛ الأمر الذي دفع خصومه للحديث عن نصر بطعم الهزيمة، كيف ذلك؟

منذ تأسيسه في صيف 2008، قدَّم حزب الأصالة والمعاصرة نفسه للوسط الحزبي السياسي على أنه مدافع عن قيم التقدم والحداثة من جهة، ومناهض للإسلاميين من جهة ثانية، ومن أجل تحقيق ذلك، دعا إلى تشكيل جبهة للتيار الحداثي في وجه التيار المحافظ. ورغم أن آثار الربيع العربي على المغرب استطاعت تحجيم هذا التوجه، إلا أنه استطاع أن يحقِّق اختراقًا نسبيًّا منذ سنة 2012، بعد استمالة حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال أساسًا من أجل تشكيل “تحالف” حزبي ضد الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية. وهكذا باسم المعارضة، خاض الأحزاب الثلاثة، ولو بشكل انتقائي، معارك عدة في مواجهة الإسلاميين، وبفضلها تمكَّن الأصالة والمعاصرة من تكسير الطوق الذي عانى منه منذ نشأته.

ويبدو في نظر محلِّلين أن هذا المكتسب فقده خلال خوضه معركة التحالفات التي جرت من أجل تشكيل المجالس المنتخبة، وخاصة رئاسة مجلس المستشارين، التي شهدت انقسامًا حادًّا بين أحزاب المعارضة وأحزاب الأغلبية على السواء؛ إذ لأول مرة اصطفت أحزاب الإدارة، وهي تلك التي نشأت بإيعاز من القصر، في مقابل أحزاب الحركة الوطنية مدعومة بحزب العدالة والتنمية. وفي تعليق لافت على المشهد، كتب الباحث حسن طارق، أن حزب الأصالة والمعاصرة “بدأ يصعد إلى عزلته”.. لأنه “لا معنى لهذا الحزب إذا ارتبط بأحزاب الإدارة”(12).

يبدو أن حزب الأصالة والمعاصرة يعيش وضعية أزمة في علاقاته بمحيطه الحزبي، بسبب سوء إدارة نتائج النصر الانتخابي، وهي وضعية صعبة ومعقدة، خاصة وأنه أعلن من الآن عن شروعه في الاستعدادات من أجل الفوز في الانتخابات التشريعية لـ2016. مما يبرر التساؤل التالي: ما هي الخيارات السياسية الممكنة أمام هذا الحزب؟

تكمن قوة حزب الأصالة والمعاصرة في شبكة الأعيان التي يتوفر عليها، وهي فئة لها مصالح وتتصور أن القرب من السلطة هو السبيل لحمايتها، فجعلت من الانتخابات حرفة، حيث تتقن كيفية الحصول على مقعد انتخابي سواء بالتحالف مع رجال السلطة أو توظيف المال، وبسبب سُمعتها السيئة في المجتمع، يلحق الضرر كذلك بسمعة الأحزاب التي تفتح أبوابها لها طمعًا في مقاعد أكبر، ومن هنا بعض الثمن الذي قد يدفعه حزب الأصالة والمعاصرة، وقد يعمل لأجل التخلص منه.

وفي لقائه مع منتخبي الحزب في الجهات والجماعات، تحدَّث القيادي في الحزب إلياس العماري، ورئيس اللجنة المركزية للانتخابات(13)، عن نية حزبه “استقطاب أشخاص ذوي كفاءة، والقطع مع الأشخاص السيئين”، دون تفاصيل أكثر. وهو توجه كان منتظرًا من قيادة الحزب، التي استعانت بشبكة من الأعيان تزيد على 18 ألف في الانتخابات الأخيرة، حقَّقت لها فوزًا عدديًّا لكنه خال من أي معنى سياسي(14).

لقد كشفت المعطيات التفصيلية في الانتخابات الأخيرة أن المرشح المناضل يمكنه هزيمة سلطة المال، ولعل هذه الخلاصة يستحضرها جيدًا قادة الأصالة والمعاصرة؛ لذا سيحتاج هذا الحزب إلى أن يشترط في مرشحيه المزاوجة بين المال والحضور الميداني، أي البحث عن منتخبين يتوفرون على شبكة وسطاء قوية وفعالة وحركية، فضلًا عن شرط القرب من الناخبين.

يشكِّل هذا الخيار المحور الرئيس في الخيارات الممكنة لهذا الحزب، لأنه يدرك أن الفوز في الانتخابات التشريعية المقبلة، وبأي ثمن ممكن، شرط جوهري في البقاء، لأن الفوز يعني رئاسة الحكومة المقبلة طبقًا لما ينص عليه دستور 2011 (المادة 47)، وهو الموقع الذي سيحل له باقي الإشكالات، مثل علاقاته بالنخب والأحزاب، بما فيها تلك التي لا تُكِنُّ له الكثير من الودِّ مثل حزب العدالة والتنمية.

أمَّا في حالة عدم الفوز في تلك الانتخابات، وفوز خصمه حزب العدالة والتنمية، فيعني أحد الخيارين: إمَّا الاستمرار في المعارضة حتى سنة 2021، وهذا خيار صعب ومكلف جدًّا، يطرح عليه بشكل جدي سؤال البقاء والوجود، لأنه، من جهة، لا يتوفر على بنية حزبية حقيقية، ومن جهة ثانية، لأن أغلب مكوناته شبكة من الأعيان تعتقد دومًا أن مصلحتها مع من بيده السلطة. أمَّا الخيار الثاني، فهو إلزامه بالانضمام إلى حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية، وهذا يُفقده هويته كونه جاء لمحاربة الإسلاميين.

ب‌- حزب الاستقلال: العودة إلى الحكومة
حلَّ حزب الاستقلال في المرتبة الثانية في الانتخابات الأخيرة من حيث عدد المقاعد؛ حيث حصل على 5106 مقاعد بنسبة 16.22 في المائة من الأصوات، بتراجع طفيف مقارنة مع نتائج انتخابات 2009؛ حيث حصل على 5292 مقعدًا بنسبة 19 في المائة من الأصوات. وفي المجمل، فقد حافظ هذا الحزب على قوته الانتخابية، ومصدرها شبكة خاصة به تتشكَّل من أعيان البوادي والعائلات العريقة في المدن، لكن الهزيمة القاسية لأمينه العام، حميد شباط، الذي خسر انتخابات مجلس مدينة فاس بعدما ترأَّسه منذ عام 2003، أعطى الانطباع بأن الحزب انهزم.

وقد حاول حزب الاستقلال استدراك الخسارة التي لحقته، من خلال السعي إلى الحصول على رئاسة مجلس جهة فاس مكناس لرمزيتها بالنسبة إلى أمينه العام ومساره السياسي، وقد تقدم حميد شباط بترشيحه شخصيًّا للمنصب، لكنه انسحب من السباق في مواجهة مرشح الأغلبية الحكومية، امحند العنصر، قبل ساعات فقط من يوم الاقتراع(15)؛ وهو قرار جاء في صيغة ردِّ فعل، لأنه اتُّخذ ضمن حزمة قرارات مفاجئة، كان من أبرزها الانتقال من موقع المعارضة للحكومة إلى موقع المساندة النقدية لها.

وللتذكير، فقد كان حزب الاستقلال جزءًا من الأغلبية الحكومية خلال الفترة ما بين مطلع عام 2012 وصيف عام 2013، قبل أن يقرر الخروج إلى موقع المعارضة، في ظروف لم تتضح ملابساتها بعد. سوى أن هذا الموقف تقرر بعد وصول الأمين العام الحالي، حميد شباط، إلى رئاسة الحزب في 2012. ويبدو أن الغرض من ذلك، كان هو خلخلة استقرار حكومة عبد الإله بنكيران والإطاحة بها في سياق إقليمي عرف الإطاحة بحكومات الربيع العربي، خاصة في مصر وتونس، ثم تشكيل حكومة جديدة من دون حزب العدالة والتنمية. ومثل هذه الخطط أفشلتها تماما انتخابات 4 سبتمبر/أيلول 2015، وهي الرسالة التي يبدو أن قيادة حزب الاستقلال تلقتها بشكل جيد، كونها القيادة الحزبية الوحيدة لحد الآن التي شرعت في القيام بعملية نقذ ذاتي صريح ومعلن، من نتائجه التخلي عن الخط السياسي السابق، وإنجاز مصالحة سياسية مع حزب العدالة والتنمية، وهو التوجه الذي ظهر بوضوح يوم انتخاب رئيس مجلس المستشارين في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2015، لما قرر حزب العدالة والتنمية التصويت لفائدة مرشح الاستقلال، عبد الصمد قيوح، لرئاسة المجلس، ويُنتظر أن يتأكد هذا التوجه أكثر في التصويت على مشروع قانون المالية لسنة 2016 المعروض حاليًا على البرلمان.

وبين المشاركة في الحكومة ثم الخروج منها ثم الرغبة في مساندتها، وذلك خلال فترة زمنية لا تتعدى سنتين، دلَّ على ارتباك قوي حصل في الخط السياسي لدى القيادة الجديدة للحزب، قد يكون ثمنه أكبر مما دفعه حتى الآن، لكنه جعل الخيارات المتاحة أمامه ضئيلة، وأبرزها تنزيل خيار “المساندة النقدية” في العلاقة مع الحكومة، الذي يعني في نفس الوقت وضع مسافة نقدية تجاه حزب الأصالة والمعاصرة. إن حُسن التموقع في الوسط بين حزبين غريمين: الأصالة والمعاصرة وحزب العدالة والتنمية، هو ما يبحث عنه حزب الاستقلال من أجل العودة إلى الحكومة مجددا(16).

ت‌- الاتحاد الاشتراكي: تحدي البقاء
كانت النتائج الانتخابية التي حصل عليها حزب الاتحاد الاشتراكي متوقعة، وأكدت المسار التراجعي للقوة الانتخابية لليسار لأن هذا الحزب عاش خلافات وانقسامات تنظيمية جديدة بعد مؤتمره الأخير سنة 2012، شملت اثنتين من أدواته السياسية الفعالة: الفريق البرلماني ونقابته، الفيدرالية الديمقراطية للشغل.

ومع ذلك، يبدو أن تلك النتائج كانت صادمة لقيادة الحزب، لسببين: أولًا: أنها علَّقت آمالًا على خط سياسي جوهره التودد إلى نظام الحكم ومعارضة الحكومة(17). وثانيًا: بسبب وعود الكاتب الأول للحزب، إدريس لشكر، بتحقيق اختراقات انتخابية، وعزا ذلك إلى كون “الاتحاد لا يعيش أزمة”، بل “مرحلة إعادة بناء”(18)، ستؤتي ثمارها.

ولعل أقوى مؤشر على الصدمة، أن 14 قياديًّا في المكتب السياسي للحزب تقدموا لهذه الانتخابات، ولم يحصل سوى أربعة منهم على مقاعد، بينما لم يستطع غالبيتهم تجاوز العتبة الانتخابية، المحددة قانونًا بنسبة 6% من أصوات الناخبين. وهي رسالة قاسية جدًّا، أحد معانيها دعوة الحزب إلى التخلي عن خطه السياسي.

لكن يبدو أن التفاعل مع تلك الرسالة بطيء جدًّا؛ فخلال الندوة الصحفية التي عقدها الكاتب الأول للحزب من أجل تقديم نتائجه، يوم الثلاثاء 6 أكتوبر/تشرين الأول 2015، انحاز إلى المشككين في نزاهة الانتخابات وشفافيتها. وبالنسبة إليه “لا مجال للحديث عن ضعف نتائج الاتحاد”، ما دامت الانتخابات قد “عرفت تزويرًا”(19). وتعكس تلك المواقف في جوهرها ارتباكًا سياسيًّا؛ فحتى لو افترضنا أن قيادة الاتحاد الاشتراكي قررت خيار التصعيد، فإن ذلك يحتاج، على الأقل، إلى تفويض من المجلس الوطني الحزب، والذي لم يُدْعَ إلى أي اجتماع لتقييم الانتخابات رغم مرور شهرين على إجرائها. وفي ظل الارتباك الحاصل، يبقى أمام الاتحاد خيارين فقط:

الأول: الالتحاق بحزب الاستقلال في تبني خيار المساندة النقدية للحكومة، مع وضع مسافة نقدية من حزب الأصالة والمعاصرة، وقد تُغري الحزب مجددًا الدعوة إلى تشكيل كتلة ديمقراطية بينه وبين حزب الاستقلال والعدالة والتنمية، وهي دعوة طالما روَّج لها مثقفون مرُّوا بالحزب، وتجدد الحديث عنها يوم انتخاب رئيس مجلس المستشارين.
الثاني: الاتجاه يسارًا؛ ذلك أن اختراقات حققتها أحزاب فيدرالية اليسار في دوائر انتخابية محدودة، قد أنعشت الآمال في عودة اليسار، وتشكيل حزب يساري كبير، وهو خيار طُرح قبل سنوات كذلك، من قبل رموز يسارية عديدة. لكنَّ تبنِّي خيار مثل هذا من قبل قيادة الاتحاد الاشتراكي يتطلب منها إنجاز مراجعات سياسية جوهرية، لا يبدو أنها مقتنعة بها حتى اللحظة.

ومهما كان الخيار الممكن، فإن أزمة الاتحاد الاشتراكي تشبه “حكاية موت معلن”(20)، حسب تعبير أحد أبرز رموزه ووزير الثقافة السابق، محمد الأشعري. وهي أزمة ضاغطة لا تترك له مجالًا للتفكير بأريحية في فرص الفوز، بل في كيفية البقاء حيًّا فوق سطح الحياة السياسة المغربية.
______________________________
إسماعيل حمودي – باحث وصحفي مغربي

المصادر
1- ريمي لوفو، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، ترجمة: محمد الشيخ، منشورات مجلة “وجهة نظر”، سلسلة أطروحات وبحوث جامعية، الطبعة الأولى 2011.
2- ريمي لوفو، المرجع السابق، ص 2702.
3- ريمي لوفو، المرجع السابق، ص 273.
4- حصل الأصالة والمعاصرة على 6655 مقعدًا في انتخابات 2015، بنسبة 21.12 في المائة من الأصوات، بزيادة طفيفة مقارنة مع انتخابات 2009، التي حصل فيها على 6015 مقعدًا بنسبة 21.7 في المائة الأصوات. انظر في هذا الصدد: http://www.ahdath.info/?p=104525
5-تُشكِّل نسبة المدينة وفقًا للإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014 أزيد من 60%، انظر تفاصيل أكثر على الموقع التالي:
file:///C:/Users/akhbar147/Downloads/note_resultat_rgph2014_19_03_15_ar.pdf
6-عبد الحي مودن، اليسار المغربي: الفكرة والممارسة، الدفاتر الزرقاء (منشورات مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد)، عدد 14، 2009.
7- انظر بخصوص نتائج 2003 على الموقع التالي: http://www.adrare.net/XYIZNWSK/collelocales.htm
انظر بخصوص نتائج انتخابات 2009 الموقع التالي:-8 http://www.adrare.net/XYIZNWSK/elections09.htm
انظر بخصوص نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية لسنة 2015 الموقع التالي:-9 http://www.elections.ma/communiques/docs/Comm_05092015.pdf
10- الإشارة هناك إلى بلاغ مشترك لأحزاب المعارضة يتحدث عن ممارسات وتجاوزات وخروقات خطيرة شابت الاستحقاقات الانتخابية “التي تُعتبر ذبحًا للديمقراطية”، ودعوتها إلى عدم الانخراط في أي تحالف يقوده حزب العدالة والتنمية تحديدًا، انظر نص البلاغ على الموقع التالي: http://www.pam.ma/elections/2015-08-21-10-28-38/2015-08-22-17-28-06/590-2015-09-05-18-14-25
11- صحيفة أخبار اليوم، عدد 1806، بتاريخ: 19 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
12- صحيفة أخبار اليوم، عدد 1808، بتاريخ: 21 أكتوبر/تشرين الأول 201512
انظر تفاصيل اللقاء على الموقع التالي: -13 http://www.hespress.com/politique/281692.html
14 – صحيفة أخبار اليوم، عدد 1799، بتاريخ 10/11 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
15- لاحقًا، تسرَّبت مداولات للمجلس الحكومي حول الانتخابات، هاجم فيها وزير الداخلية، محمد حصاد، الأمين العام لحزب الاستقلال واتهمه بابتزاز الدولة من أجل الحصول على رئاسة جهة فاس مكناس. انظر في هذا الصدد: http://www.alyaoum24.com/380078.html
16-صحيفة أخبار اليوم، عدد 1799، بتاريخ 10/11 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
17- خلال مشاركته في برنامج تليفزيوني على القناة الثانية، وصف إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، نفسه بأنه “معارضة جلالة الملك” في مقابل “حكومة جلالة الملك”، انظر الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=wFvPjhjCq6U
صحيفة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 5 أغسطس/آب 2014-18
-19صحيفة أخبار اليوم، عدد 1796، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
-20صحيفة أخبار اليوم، عدد 1795، بتاريخ 6 أكتوبر/تشرين أول 2015

إسماعيل حمودي

 المصدر: مركز الجزيرة للدراسات