إيران وإسرائيل والعودة الأميركية المحتملة إلى الاتفاق النووي

إيران وإسرائيل والعودة الأميركية المحتملة إلى الاتفاق النووي

مضى أكثر من أربع سنوات على انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق البرنامج النووي الإيراني. وعلى الرغم من اعتراف الرئيس الأميركي، بايدن، في حملته الانتخابية إبّان انتخابات الرئاسة التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 بأن قرار الانسحاب الأميركي، والذي اتخذه الرئيس السابق، دونالد ترامب، عام 2018، كان خطأ كبيرا، وعد بتصحيحه إذا أصبح رئيسا للولايات المتحدة، إلا أن ذلك لم يحدُث بعد، على الرغم من مضي أكثر من عام على دخول بايدن البيت الأبيض. صحيحٌ أن إدارة بايدن دخلت بالفعل في مفاوضاتٍ غير مباشرة مع إيران، عن شروط العودة الأميركية إلى هذا الاتفاق وإجراءاتها، وصدرت تصريحاتٌ رسميةٌ تؤكّد اكتمال الجوانب الفنية لهذه المفاوضات، غير أن القرار السياسي بالعودة لم تتّخذه بعد إدارة بايدن. فما هي الأسباب التي عطلت هذه العودة، وربما تحول دون حدوثها أصلا؟ هناك أسباب كثيرة، لكن العامل الإسرائيلي ربما يكون أهمها أو أقواها.

لم تُخف إسرائيل قط انزعاجها وقلقها من الاتفاق الذي وقعه الرئيس الأميركي الأسبق، أوباما، عام 2015، ما دفعها إلى ممارسة كل ما يمكن وما لا يمكن تصوّره من وسائل الضغط لحمله على التراجع، قبل التوقيع عليه وبعده، إلى درجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في ذلك الوقت، قرّر الذهاب بنفسه إلى مبنى الكابيتول، لإلقاء خطاب أمام أعضاء الكونغرس، بمجلسيه، هاجم فيه الاتفاق الذي وصفه بأنه ينطوي على “تهديد وجودي” لإسرائيل، كما هاجم أوباما شخصيا في الوقت نفسه! صحيحٌ أن حملته للضغط على أوباما فشلت، لكن نتنياهو سرعان ما حصل على الجائزة الكبرى، حين تمكّن ترامب من الفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016. وبالتالي، لم يكن في حاجةٍ إلى ممارسة ضغوط كبيرة على القادم الجديد للبيت الأبيض، لإقناعه بالانسحاب من الاتفاق. لذا يمكن القول إن نتنياهو كان أسعد الناس، حين وجد أن ترامب لم يكتف بالانسحاب من الاتفاق مع إيران، وإنما انتهج معها سياسة “العقوبات القصوى”، لكنه لم يكتف بما تحقّق، وإنما راح يحاول، في الوقت نفسه، جرّ الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة عسكرية لكل المنشآت النووية الإيرانية، وقام بمحاولات كثيرة لاستفزاز إيران واستدراجها نحو مصيدة المواجهة العسكرية، تضمّنت عملياتٍ عديدة لتخريب السفن واغتيال العلماء النوويين وشنّ غارات مسلحة على المواقع والمنشآت الإيرانية في سورية .. إلخ، وهي سياسة لم تتغير بعد مغادرة نتنياهو موقع رئاسة الحكومة الإسرائيلية. فقد سعت حكومة خلفه، نفتالي بينت، إلى الضغط على إدارة بايدن لإقناعها بمحاذير الدخول في مفاوضات جديدة مع إيران، ولحملها على عدم العودة إلى اتفاق 2015، إلا إذا أبدت إيران استعدادها لتغيير شروطه، ليشمل برنامجها الصاروخي والحد من نفوذها في المنطقة. وعندما فشلت في ما أرادت، وتبيّن أن كلا الجانبين، الإيراني والأميركي، حريصان على إنجاح المفاوضات، وأن العودة إلى اتفاق 2015 من دون أي تعديل هي الطريق الوحيد المتاح أمام الجانبين، لم يتردّد بينت في التصريح علنا بأن الاتفاق، إذا جرى، لن يُلزم إسرائيل التي لن تتردّد في اتخاذ كل ما تراه ضروريا لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، حتى لو اضطرّت إلى استخدام القوة العسكرية ضدها وبمفردها!

يسهل على أي متتبع لمسار مفاوضات فيينا أن يدرك أن إدارة بايدن بذلت قصارى جهدها لأخذ مصالح حلفائها في الاعتبار، خصوصا المصالح الإسرائيلية. وعندما اصطدمت بصلابة الموقف الإيراني الرافض إجراء أي تعديل على الاتفاق الأصلي، عملت على إقناع إسرائيل بأن مصالحها تتطلب الكفّ عن المحاولات الرامية إلى تخريب هذه المفاوضات، وبأن عودة الولايات المتحدة إلى هذا الاتفاق هي الخيار الوحيد الذي يمكن أن يضمن ليس فقط عدم امتلاك إيران السلاح النووي في المدى المنظور، وإنما أيضا تهيئة الأجواء لمفاوضاتٍ لاحقة حول مختلف القضايا التي تهمها، بما في ذلك برنامج إيران الصاروخي. دليلنا على ذلك حجم الزيارات المتبادلة على أعلى مستوى بين إسرائيل والولايات المتحدة خلال فترة المفاوضات، والتي شملت وزراء الخارجية والدفاع ومستشاري الأمن القومي في البلدين ورؤساء الأجهزة الاستخبارية.. إلخ. لكن من الواضح أن هذه الزيارات الكثيفة المتبادلة لم تؤدّ إلى اقتناع إسرائيل الكامل بوجهة النظر الأميركية، خصوصا بعد وصول الجوانب الفنية للمفاوضات إلى محطتها النهائية، ولم يتبق سوى قرارات سياسية تتعلق ببعض الأمور المهمة، ربما كان أهمها المطالب الإيرانية الخاصة برفع الحرس الثوري من قائمة العقوبات الأميركية.

يبدو أن اندلاع الأزمة الأوكرانية، وتصدّرها قائمة الأولويات على جدول أعمال إدارة بايدن في الشهرين الماضيين، صبّ في مصلحة الحكومة الإسرائيلية، فقد تظاهرت إسرائيل، في البداية، باتخاذ موقف الحياد من الأزمة، بل وسعت حكومة بينت إلى القيام بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، الأمر الذي أزعج الإدارة الأميركية كثيرا، ودفعها إلى ممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيلية، لحملها على تغيير موقفها والاستجابة للطلبات الأوكرانية بتزويدها بأنواع متقدّمة من الأسلحة، ومنها القبة الحديدية وأنظمة التجسّس المتطورة. ويبدو أن حكومة بينت وجدت في هذه التطورات المتسارعة للأزمة الأوكرانية، خصوصا بعد أن تبيّن لها أن الإدارة الأميركية مصمّمة على إلحاق هزيمة قاسية بالرئيس الروسي، بوتين، على الساحة الأوكرانية، فرصة للمساومة والعمل على إقناع إدارة بايدن، في المقابل، بعدم التعجّل في العودة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني. وإذا صحّ هذا الاستنتاج، فقد يفسّر ذلك جانبا من أسباب حالة الجمود التي طرأت فجأة على مفاوضات فيينا، بعد احتدام الأزمة الأوكرانية.

يسهل على أي متتبع لمسار مفاوضات فيينا أن يدرك أن إدارة بايدن بذلت جهدها لأخذ مصالح حلفائها في الاعتبار، خصوصا المصالح الإسرائيلية

على صعيد آخر، ليس من المستبعد، في الوقت نفسه، أن إيران قد أحسّت بأن إسرائيل هي السبب الرئيسي وراء الجمود الراهن لمفاوضات فيينا، وربما نجحت بالفعل في إقناع إدارة بايدن بتأجيل اتخاذ قرار بالعودة إلى الاتفاق النووي، وأن هذا النجاح ربما يكون خطوة على طريق دفع الإدارة إلى التراجع عن فكرة العودة إلى الاتفاق أصلا، ومن ثم فتح الباب على مصراعيه أمام احتمال تصاعد الصراع من جديد في المنطقة بدلا من تهدئته. فقد بثت قناة الجزيرة أخيرا أنباء تقول إن إيران بعثت إلى إسرائيل، عبر وسيط أوروبي، بملفٍّ يتضمّن صورا وخرائط لمخازن أسلحة نوويّة وبيولوجيّة وكيميائيّة إسرائيليّة، مؤكّدة أنها صور أرضية وليست ملتقطة من الجو. وإذا صحّت هذه الأنباء، وهي، في جميع الأحوال، جزء من الحرب الاستخباريّة والنفسيّة المتصاعدة بين الطّرفين، فمعنى ذلك أن إيران ربما تكون قد وصلت إليها معلوماتٌ تفيد باحتمال فشل مفاوضات فيينا، وتراجع الولايات المتحدة عن العودة إلى اتفاق 2015، ما قد يشجّع إسرائيل على التفكير في إعادة تنشيطها أعمالها التخريبية تجاه إيران، وربما القيام بعمل عسكري ضد منشآتها النووية، ومن ثم أرادت أن ترسل إليها رسالة مزدوجة، مفادها، من ناحية، أن أكثر المواقع حساسية وسرّية باتت مكشوفة تماما لأجهزة المخابرات الإيرانية التي صارت قادرة على الوصول إلى أي مكان تريده في إسرائيل، وأن هذه المُنشآت والمخازن ستكون، من ناحية أخرى، هدفًا رئيسيًّا للهجمات الإيرانيّة في حال إقدام إسرائيل على أي أعمال استفزازية ضدها، خصوصا إن هي قرّرت القيام بأي عمل عسكري ضد منشآتها النووية.

الحرب الكونية الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية لم تفصح بعد عن كل أسرارها وتداعياتها. لكن يبدو واضحا من المسار الذي سلكته أن لها أبعادا جيوسياسية واستراتيجية هائلة تهم مختلف القوى العالمية والإقليمية المتفاعلة على رقعة الشطرنج الدولية. لذا تبدو الولايات المتحدة مصرّة على الحيلولة دون تمكين روسيا من تحقيق أي نصر، ولو محدود، في الحرب على أوكرانيا، بل والعمل، بكل الوسائل الممكنة، لإلحاق الهزيمة بها إن أمكن. ولدى إسرائيل، أقرب حلفاء الولايات المتحدة إلى قلبها، ما يمكن أن تقدّمه لأوكرانيا، وما من شأنه إرضاء الولايات المتحدة في الوقت نفسه، غير أن لديها، في الوقت نفسه، مصالح على جانب كبير من الأهمية مع روسيا، خصوصا في سورية، ما سيحملها على التردّد كثيرا قبل أن تحزم أمرها وتقرّر الانحياز إلى أوكرانيا والانضمام إلى التحالف الغربي المعادي لروسيا في المرحلة الراهنة. ومع ذلك، ليس من المستبعد كليا أن تتخذ إسرائيل هذا القرار الصعب، خصوصا إذا ضمنت أن الثمن سيكون ضمان تغيير الولايات المتحدة لموقفها من العودة إلى البرنامج النووي الإيراني. وإذا حدث ذلك، يتوقع أن تدخل منطقة الشرق الأوسط في دوّامة جديدة قد تدفعها نحو حافّة حرب إقليمية شاملة، فهل الحرب الدائرة حاليا على الساحة الأوكرانية هي الجزء الصغير الطافي من جبل الثلج، وأن ما خفي منها أعظم؟

د. حسن نافعة

العربي الجديد