بعد عشرين عاما من حكم حزب العدالة والتنمية، هل اختفى تأثير القوات المسلحة التي كانت تتدخل في السابق بشكل مباشر في تسيير تركيا؟ تظهر المضايقات التي تتعرض لها كوادرها السابقة والحالية أن ثقة الحكومة في الجيش باتت محدودة.
- * *
مع فوز حزب العدالة والتنمية (AKP) بالانتخابات التشريعية المبكرة في تركيا في العام 2002، بدا وصول هذا الحزب الجديد، الذي يصف نفسه بالمحافظ والديمقراطي، فرصة لإخراج هذا البلد من المأزق الذي أوقعه فيه نصف قرن من التدخلات العسكرية الدورية في السلطة (1960، 1971، 1980، 1997). وقد جعلت هذه التدخلات المتكررة من الجيش التركي فاعلا سياسياً في نظام يسيطر فيه، لكنه لا يحكم (1)، وفق تعبير الكاتب ستيفن أ. كوك.
كان العسكريون تاريخيا في قلب تأسيس الدولة القومية التركية المعاصرة. غير أن تدخلهم في المجال السياسي ابتداء من العام 1960؛ حيث غادروا ثكناتهم لأول مرة منذ بداية الفترة الجمهورية، كانت له طبيعة مختلفة. كان مصطفى كمال جنرالًا، لكنه بعد أن أصبح رئيسا للدولة أصبح ينظر إلى نفسه على أنه رئيس مدني إصلاحي. وقد أدى الجيش خلال الفترة الكمالية وظيفة الحفاظ على النظام، لكنه لم يكن هيئة تؤثر بشكل حاسم في إدارة شؤون الدولة. وبعد الحرب العالمية الثانية التي بالكاد شارك فيها، بدا الجيش مؤسسة طاعنة في السن، بالية وعتيقة الطراز، وكان يتهكم عليها عدنان مندريس، رئيس وزراء الحزب الديمقراطي الذي وصل إلى السلطة في العام 1950 بعد انفتاح نظام الحزب الواحد الكمالي، وأصبحت المهنة العسكرية أقل جاذبية في ذلك الوقت.
سلطة مزدوجة
سمح انقلاب 27 أيار (مايو) 1960 للجيش بأن يصبح في قلب هذا النظام البرلماني الجديد وأن يضع قواعده: سوف يبقى النظام تعدديا، لكن عليه ضمان ديمومة الدولة الوطنية التي تأسست العام 1923، واحترام صلاحيات النخب المؤتمن عليها (العسكريون، القضاة، والموظفون السامون، إلخ). وبالتالي، أصبحت هناك سلطتان تتعايشان في هذا النظام: حكومة مدنية ناتجة عن انتخابات تنافسية في إطار نظام برلماني، وسلطة دولة تتولى عددًا معينًا من المهام السيادية (الأمن، والدفاع، والدبلوماسية)، بل وحتى مهيمنة (التعليم العالي)، كما أنها تراقب المؤسسات المدنية.
ليس المجتمع التركي طيعا، والأزمات العميقة التي يمر بها دفعت الجيش إلى التدخل مرات عدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وبعد تدخل جديد واسع في العام 1971، فرض الجيش امتحانا طويلا على الديمقراطية في العام 1980، من خلال تطهير النظام الحزبي ووضع دستور يعزز، أو يضع، عددًا معينًا من الضمانات المؤسساتية، مثل مجلس الأمن القومي (Millî Güvenlik Kurulu، MGK) أو مجلس التعليم العالي (Yüksek Öğretim Kurulu, YÖK). وشكل هذا النص المستوى الأعلى من التدخل العسكري التركي؛ حيث أوصل إلى نظام يتمتع فيه الجيش بنفوذ متطور للغاية، إلى درجة أنه عندما تتجاوز السلطات المدنية الخط الأحمر، لم يعد في حاجة لإخراج دباباته إلى الشوارع، مكتفيا بمواقف أو تصريحات سريعة يفهمها بسرعة المعنيون المتهورون. وفي العام 1997، أدى “انقلاب ما بعد الحداثة” بالمؤسسة العسكرية إلى الإطاحة بالحكومة التي يقودها الإسلامي نجم الدين أربكان. وقد أظهر ذلك فاعلية النظام الذي تم وضعه، لكنه لم يحل المشكلات الأساسية، حيث انتهى، بعد خمسة أعوام من ذلك، بالانتصار الواضح من دون منازع لحزب العدالة والتنمية.
من التفاهم إلى المواجهة
ومع ذلك، لم يكن قد حان بعد وقت الانتقام عندما تولى رجب طيب أردوغان زمام الحكومة في ربيع 2003. وبعد استحضار الذكرى المريرة لسجنه في العام 1998 بعد استفزاز لفظي، دعا رئيس الوزراء الجديد إلى الإجماع، وهو موقف شاركه فيه الجنرال حلمي أوزكوك، رئيس الأركان آنذاك. وكان يجب الانتظار حتى العام 2007 لكي ينفجر صراع مفتوح بمناسبة الانتخابات الرئاسية. وقد فشلت جهود المؤسسة السياسية-العسكرية في منع انتخاب عضو من حزب العدالة والتنمية رئيسا للجمهورية، وخرجت حكومة أردوغان من هذا الامتحان أقوى. ولذلك شرعت في مهاجمة الاستثنائية العسكرية التركية، وبدأت بتجريد الجيش من امتيازاته القضائية (الحق في محاكمة المدنيين، والاختصاص حصريا بمحاكمة العسكريين).
لكن في تلك الفترة، كان إضعاف مواقع الجيش في النظام ناجما بشكل أساسي عما جرى في قضيتي أرغينيكون وباليوز، اللتين تشكلان الخلفية لسلسلة من المحاكمات بتهمة التآمر، بتحريك من مدعيين عامين خاصين معينين من قبل السلطة، ينحدران بشكل رئيسي من حركة غولن.
في موجات متتالية، تم اعتقال المئات من الشخصيات العلمانية، وخاصة كبار الضباط المتقاعدين أو العاملين، بما في ذلك قائد الأركان الأسبق إيلكر باسبوغ (2008-2010)، الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة في العام 2013. وفي غضون ذلك، تمكن رجب طيب أردوغان من إحكام سيطرة فعلية على المجلس العسكري الأعلى (Yüksek Askeri Şura، YAŞ) الذي يقرر ترقيات الجيش ويعين على وجه الخصوص أعضاء هيئة قيادة الأركان.
هكذا وصل حزب العدالة والتنمية، الذي يمثل حركة احتجاجية آتية من الهوامش، إلى قلب النظام. ولكن هل بإمكانه الاستمرار في مهاجمة الدولة وجيشها في زمن تتراكم فيه المخاطر على الحدود نتيجة استفحال النزاع السوري؟ وفضلا عن ذلك، فإن الصراع الحاد الذي يخوضه حزب الأغلبية ضد سلطة الدولة أعطى، بشكل خطير، مكانة مميزة لأولئك الذين قادوه. فحركة غولن، التي هي دولة حقيقية داخل الدولة، صارت تسمح لنفسها، بعد إسكات العسكريين، بتحدي الحكومة نفسها، بل وتهديدها بشكل مباشر، خلال الموجة الأولى من الاعتقالات التي طالت الدوائر الحاكمة في كانون الأول (ديسمبر) 2013.
كان ذلك بداية صراع لا يرحم بين الحزب الحاكم والمتواطئين السابقين معه، ما أوصل إلى أول حملة تطهير صارمة في صفوف جهازي العدالة والشرطة، حيث يتمتع الغولنيون بقدرات تأثير أساسية. وبالمقابل، أدى التنديد بظلمهم أحيانا بالضرورة إلى إطلاق سراح ضحاياهم، ثم إعادة الاعتبار لهم، بدءا من العسكريين المتضررين من قضيتي أرغينيكون وباليوز، اللتين أصبحتا تقدمان الآن على أنهما مكيدتان خالصتان من صنع ما كان يطلق عليه وصف “الدولة الموازية”.
يظهر أن الانقلاب الفاشل الذي جرى في 15 تموز (يوليو) 2016، الذي انطلق من وحدات مخترقة بقوة من طرف أنصار غولن -لا سيما في القوات الجوية والدرك- التي التحقت بها سلسلة من الفاعلين ذوي الدوافع المختلفة، على أنه المشهد الأخير من الحرب بين حزب العدالة والتنمية وحلفائه السابقين. غير أنه حتى لو بدا كأنه نهاية الاستثنائية العسكرية التركية -حيث تم وضع الجيش تحت أوامر وزارة الدفاع- يبقى السؤال حاضراً أمام الحكومة بخصوص مسألة التركيبة والولاء والتموقع السياسي للجيش.
نموذج سياسي-عسكري جديد
انتهى النموذج القديم الذي يفترض أن الجيش التركي مؤسسة موحدة توجد في قلب النظام. وكشف الانقلاب الفاشل العام 2016 عن مؤسسة مفتوحة على التأثيرات الخارجية ومنقسمة بعمق. وقد أعقب ذلك عمليات تطهير وانشقاقات كبيرة، لا سيما ضمن العسكريين المشاركين في هيئات الناتو. لم تعد إذا المشكلة بالنسبة للحكومة الاحتراس من مؤسسة هي فاعل سياسي قوي ومؤثر، بل في إدارة مجموعة مزعزعة بسبب التغييرات الأخيرة، وبالتالي لا يمكن التنبؤ بسلوكها.
ادعمونا
في هذا السياق، بقدر ما يبدو وضع الجيش تحت وصاية وزارة الدفاع خضوعا نهائيا للسلطة المدنية، بقدر ما هو أيضا محاولة للحفاظ على سلامة المؤسسة من خلال وضعها تحت سلطة رئيس أركانها السابق، الجنرال خلوصي آكار، الذي بقي مخلصا خلال الانقلاب وأصبح شخصية سياسية بارزة في النظام الجديد. ويتعايش أساسا في الجيش الذي نجا من الانقلاب أعضاء من الحرس القديم من الضباط العلمانيين الذين لم يتمردوا، وكوادر جديدة مقربة من حزب العدالة والتنمية، وحتى بعض الجماعات الأخوية مثل السليمانجي، وعلى وجه الخصوص شبكة ذات نفوذ متزايد من الضباط القوميين المتطرفين الذين باتوا لا يترددون في إظهار هويتهم الإسلامية.
هذه الحساسية الدينية للقومية العسكرية ليست في الواقع بالأمر الجديد. وهي تدير ظهرها للمراجع الأطلسية التقليدية للمؤسسة العسكرية التي تعود إلى الحرب الباردة لصالح القيم “الأوراسية”، وهي غالبا مناهضة للغرب. وقد يسر هذا التحول ناشط راديكالي مثير للجدل، هو دوغو برينجك، الذي كان دائما قريبا من هذه الأطروحات. ولا تنفصل هذه التوجهات بطبيعة الحال عن الميول القومية التركية في بداية القرن العشرين، والموجودة داخل حركة “تركيا الفتاة”. ولكنها تشكل أيضا خلال الفترة المعاصرة صدى للتقارب الذي أقامته تركيا مع روسيا في الأعوام الأخيرة (2).
يخفي هذا التوازن الهش قبل كل شيء سباقا لإعادة تشكيل الجيش من خلال عمليات التجنيد الحالية والمستقبلية. أولاً، قامت الحكومة بعد فشل انقلاب العام 2016 بحل المدارس الثانوية والأكاديميات المتخصصة التي كانت بوتقة للتجنيد العسكري المستقل؛ حيث تم إعادة تحويل طلابها بشكل تعسفي وسريع نحو الجامعات التقليدية. وتقوم جامعة الدفاع التركية الجديدة، التي حلت محلها رسميا، بتوظيف مجندين مقربين من حزب العدالة والتنمية بشكل متسارع. كما تجدر الإشارة إلى أن تجنيد خريجي “ثانوية الإمام الخطيب” الدينية أصبح ممكنا الآن.
ثانيا، شرع وزير الدفاع، الذي يسيطر على هيئة قيادة الأركان، في تجنيد “رقباء متخصصين” (uzman çavuş) بوتيرة متسارعة. وهم لا يحتاجون إلى أكثر من شهادة الدراسة الثانوية، ويتم تدريبهم في ستة أشهر. ويلتقي هذا التجنيد الجديد الرائج أيضا مع الحاجة إلى تحديث الجيش، ما يجعل احترافيته أمرا ضروريا على حساب التجنيد الإجباري العام، الذي يعد، هنا كما في أماكن أخرى، مكلفا وغير مناسب. وإضافة إلى تخفيض مدة الخدمة العسكرية، تسمح الإصلاحات الأخيرة للمجندين بتقليص وقت وجودهم في الجيش بدفع مبلغ نقدي.
أسهمت هذه الإجراءات، مصحوبة بإعادة تحديد مهام القوات المسلحة، بتقليص عدد العاملين، الذين تم تعويضهم جزئيا بتوظيف مجندين، مثل “الرقباء المتخصصين” الذين أصبحت تعبئتهم ضرورية أيضا بسبب تزايد عدد الوحدات المنتشرة في المسارح الخارجية. ولذلك، يمكن تصور أن أولئك الذين يتحكمون في محترفي هذا الجيش الجديد (الذي يبلغ عدد العاملين فيه 355.200 فرد)، وعلى وجه الخصوص في “الرقباء المتخصصين”، سيسيطرون عليه بشكل حاسم.
مؤسسة تصبح مجزأة باطراد
ومع ذلك، فإن وزير الدفاع مهتم بالجنرالات. فهو، وإن كان قد دخل معترك السياسة، لا يتقبل كثيراً فكرة أن يرى زملاءه في الخدمة وهم يسعون إلى فعل الشيء نفسه، مع خطر جذب الأنظار على حسابه من خلال الظهور إعلاميا كقادة حرب، واكتساب تفضيل لدى الرئاسة. وقد دفع ثمن ذلك كل من الجنرال متين تميل، القائد العام للجيش الثاني، أثناء التدخل في عفرين في العام 2018، والأدميرال جهاد يايجي، الذي ألهم إلى حد كبير سياسة تركيا تجاه ليبيا العام 2019، من خلال منحهما ترقيات أعدت لتهميشهما. وتريد الحكومة الحفاظ على هيبة الشخص الذي ترتكز عليه التسويات التي تم التوصل إليها بعد محاولة الانقلاب في العام 2016، خاصة وأن خلافات جديدة ظهرت في الجيش.
أولا، يطرح بعض الضباط تساؤلات بخصوص التدخلات الخارجية لتركيا. وقد أدى الوضع الحرج للجيش التركي في جيب إدلب في شمال سورية إلى استقالة اثنين من الجنرالات ذوي الخبرة في أيلول (سبتمبر) 2021، ويبدو أنهما كانا ما يزالان بعيدين عن سن التقاعد. ثانياً، وحتى خارج عمليات التطهير، فإن قرارات إعادة التصنيف الأخيرة لأسباب فنية رسمياً -وفي المقام الأول، تخفيض عدد العقداء- تغذي شعورا بعدم اليقين، بل وبالظلم لدى التأطير. ثالثا، ما يزال كبار الكوادر العسكرية المتقاعدين يشكلون مجموعة ضغط قادرة على التخلي عن واجب التحفظ إذا لزم الأمر، كما أظهرت الرسالة التي وقعها 104 من الأدميرالات السابقين في نيسان (أبريل) 2021، وأعربوا فيها عن قلقهم بشأن مصير اتفاقية مونترو التي تحكم المضايق (الدردنيل والبوسفور)، منذ أن شرع الرئيس في بناء قناة إضافية، وتراجعه عن التصديق على المعاهدات بمجرد مراسم بسيطة.
أخيرا، يسهم استئناف حرب العصابات الكردية وتكاثر عمليات انتشار الجيش التركي في الخارج في نشر مشاعر الشوفينية العرقية-الدينية، وبصفة أوضح مشاعر قومية متطرفة، لدى كوادر الجيش، الذين استعاد عدد منهم مهامه بعد نهاية قضية أرغينيكون.
بالموازاة مع ذلك، تعزز هذه الظاهرة التأثير الذي اكتسبه داخل النظام الرئاسي الجديد حزب العمل القومي (Milliyetçi Hareket Partisi ، MHP)، بقيادة دولت بهجلي، الذي مكن حزب العدالة والتنمية من تمرير المراجعة الدستورية للعام 2017، والاحتفاظ بالأغلبية في البرلمان، وإعادة انتخاب رجب طيب أردوغان في الدور الأول رئيسا للجمهورية في العام 2018. ويبرز ذلك تقارب مواقف زعيم اليمين المتطرف ورئيس الدولة اللذين يدعوان الآن إلى حل حزب الشعب الديمقراطي (Halkların Demokratik Partisi, HDP)، ويصفان الطلبة الذين ينامون في حدائق إسطنبول منذ بداية العام الدراسي احتجاجا على ارتفاع أسعار الإيجار بـ”الإرهابيين”. ويمكن تفسير ذلك طبعا بدور صانع الملوك الذي اكتسبه حزب دولت بهجلي منذ العام 2016، ولكنه يلمح أيضا إلى أن هذا التأثير لا يقتصر على الدوائر المدنية.
أحوال تركية