لا صوت يعلو على صوت الطاقة النووية

لا صوت يعلو على صوت الطاقة النووية

كان من المقرر أن تغلق بلجيكا محطاتها النووية في 2025 بعد معركة سياسية استمرت 20 سنة. لكن الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة فرضا تحولا جذريا وأذكيا الجدل في جميع أنحاء أوروبا حول الطريق الأفضل لمستقبل آمن للطاقة ومنخفض الكربون.

وقال كريستوف كوليغنون، عمدة هوي التي تقع فيها محطة تيانج النووية، إن معظم الناس في المدينة التي يعود تأسيسها إلى العصور الوسطى في شرق بلجيكا يرحبون بقرار تمديد عمر المفاعل المتقادم حتى 2035. ويتذكّر أول مصنع افتتح عام 1975، وصرّح “في بعض الأحيان عليك أن تكون أكثر براغماتية وأقل تمسّكا بالقناعات الأيديولوجية”، مضيفا أن “كل شخص في هوي يعرف شخصا يعمل هناك. السؤال هو هل يمكننا اتباع الجدول الزمني للإغلاق؟ إن الجواب: لا في الوقت الحالي”. واعتبر أن الموعد النهائي لسنة 2025 ضيق ولن يضمن أمن الطاقة في بلجيكا.

ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا تعهدت دول الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن استخدامها للغاز الروسي (الذي يزود أوروبا بـ40 في المئة من احتياجاتها) هذا العام وإنهاء اعتمادها على روسيا “قبل 2030 بفترة طويلة”.

جيسيكا جونسون: من الواضح أن الطاقة النووية توفر حلا؛ فهي منخفضة الكربون ويمكن أن تتدرج صعودا وهبوطا حسب الحاجة

وقد تؤدي فرضية حظر واردات النفط الروسية إلى زيادة تعقيد مشكلة أمن الطاقة في الاتحاد الأوروبي بالتزامن مع ارتفاع الأسعار، حيث يعيد الهدف المزدوج -المتمثل في تقليص الوقود الأحفوري الروسي وتقليل الانبعاثات- الاهتمام بالطاقة النووية في معظم أنحاء أوروبا.

وقال ريتشارد برونز، رئيس قسم القضايا الجيوسياسية في “إنرجي أسبكتس” (شركة أبحاث مقرها لندن)، “لقد كانت خطط محاولة الوصول إلى صافي الأهداف الصفرية في إطار زمني مقبول والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري طموحة للغاية بالفعل. إنه مسعى مكلف. ولكن إذا كنت بحاجة إلى الابتعاد عن واردات الطاقة الروسية في إطار زمني أقصر فإن ذلك يجعل المهمة أصعب”.

طاقة متجددة

تعود جهود بلجيكا للتخلي عن الطاقة النووية إلى عام 2003، عندما صوتت للتخلص التدريجي من الطاقة النووية في فوز سياسي لحزب الخضر بعد وصوله إلى السلطة لأول مرة في حكومة ائتلافية. ولم يتحقق الهدف بعد اثنتي عشرة حكومة. ومن المفارقات أن تيني فان دير سترايتين من حزب الخضر هي التي أعلنت -بصفتها وزيرة للطاقة- في مارس عن قرارها الذي يقضي بتأجيل خروج بلجيكا النووي.

وقال المتحدث باسم حزب الخضر بابتيست أربيكوم إن “العالم تغير. أجبرتنا الظروف على تغيير المسار وليس الوجهة”.

ويأتي ما يقارب الـ40 في المئة من الكهرباء البلجيكية من الطاقة النووية، وهو سادس أعلى معدل في الاتحاد الأوروبي، وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ولم تجد بلجيكا حتى الآن بدائل موثوقة، على الرغم من الاستثمار الكبير في مزارع الرياح البحرية، ومن المرجح أن يؤدي التخلص التدريجي من الطاقة النووية إلى زيادة استخدامها للغاز.

وقال أربيكوم إن حزب الخضر ملتزم بالتوقف عن استخدام الطاقة النووية، لاسيما في ضوء المخاوف من التسربات الإشعاعية التي أثارها استيلاء روسيا على أكبر محطة نووية في أوروبا (زاباروجيا) في مارس.

ريتشارد برونز: إذا كنت بحاجة إلى الابتعاد عن واردات الطاقة الروسية في إطار زمني أقصر فإن ذلك يجعل المهمة أصعب

وصرّح بأن “النفايات المشعة تمثل خطرا حقيقيا حتى دون أخذ مخاطر وقوع حادث نووي بعين الاعتبار”، مضيفا أن الحكومة خصصت 1.2 مليار يورو لتحقيق هدفها المتمثل في جعل بلجيكا تعول بنسبة 100 في المئة على الطاقة المتجددة بحلول 2050. واعتبر أن هذا ما سيجعل البلاد بشكل تدريجي أقل اعتمادا على الوقود الأحفوري، والذي غالبا ما يكون مصدرا للصراع أو الحرب.

الحل النووي

تنقسم أوروبا حول مسألة الطاقة النووية، حيث يلتزم البعض بتجنبها في أعقاب كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011 وانفجار مفاعل تشيرنوبيل سنة 1986.

وأظهرت بيانات الاتحاد الأوروبي أن إنتاج الكهرباء النووية انخفض في جميع أنحاء أوروبا منذ 2004، إثر إغلاق ليتوانيا منشآتها في 2009، كما كشفت عن انخفاضات أخرى كبيرة في ألمانيا والسويد وبلجيكا. ومن المقرر أن تغلق ألمانيا (أكبر اقتصاد في أوروبا ولاعب سياسي قوي) آخر محطاتها النووية هذا العام.

ومن ناحية أخرى تعمل فرنسا -التي تحصل بالفعل على 70 في المئة من حاجتها إلى الكهرباء من الطاقة النووية وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية- على زيادة الإنتاج إلى جانب رومانيا والمجر وهولندا.

وقالت جيسيكا جونسون المتحدثة باسم “فوراتوم” (جمعية للصناعة النووية في أوروبا) “في ما يتعلق بأمور تغير المناخ، من الواضح أن الطاقة النووية توفر حلا؛ فهي منخفضة الكربون ويمكن أن تتدرج صعودا وهبوطا حسب الحاجة”. وشددت على أنها أكثر موثوقية من مصادر الطاقة المتجددة لأنها لا تحتاج إلى هبوب الرياح أو شروق
الشمس.

وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -الذي أنتجت بلاده 52 في المئة من الطاقة النووية للاتحاد الأوروبي عام 2020- في نوفمبر إنه سيبني مفاعلات نووية جديدة للوفاء بأهداف الاحتباس الحراري ولضمان استقلالية الطاقة وكبح جماح أسعارها المرتفعة.

وتجذب المفاعلات المعيارية الصغيرة الجديدة (وهي أسرع وبناؤها أرخص من بناء محطات الطاقة النووية التقليدية) الاهتمام في رومانيا وبولندا وبريطانيا.

المفوضية الأوروبية تقترح تصنيف بعض مشاريع الغاز والطاقة النووية صديقةً للبيئة، ما من شأنه تشجيع المستثمرين

وقالت كاتالينا سباتارو، الخبيرة في سياسات الطاقة، “مع تخلف العديد من دول الاتحاد الأوروبي عن أهداف انبعاثات الكربون، يُنظر إلى الطاقة النووية على أنها تدبير مؤقت بينما تتزايد الاستثمارات في مصادر الطاقة المتجددة، بما في ذلك تحسين تقنيات التخزين”.

وتابعت سباتارو، وهي مديرة معهد الطاقة بالأمبيريال كولدج في لندن، “يمكن أن يكون لدينا نوع احتياطي من الطاقة حتى نتحرك حقا نحو الطاقة المتجددة”. وقالت “إن الابتعاد عن الوقود الأحفوري مكلف وبطيء”، مشيرة إلى مشروع فلامانفيل 3 النووي الفرنسي الذي من المتوقع أن يكلف 12.7 مليار يورو (13.4 مليار دولار).

وقالت “شهدنا على مر السنين دعما للوقود الأحفوري. لذلك إذا تمكنا من رؤية نفس النوع من الدعم لتخزين الطاقة المتجددة فسنرى بالتأكيد صورة مختلفة في غضون 20 سنة”.

وتقترح المفوضية الأوروبية تصنيف بعض مشاريع الغاز والطاقة النووية صديقةً للبيئة، مما يجعلها أكثر جذبا للمستثمرين. وإذا تمت الموافقة على القواعد في يوليو فسوف تدخل حيز التنفيذ في 2023. وصرّح بعض المشرعين في الاتحاد الأوروبي بأنهم سيعارضون ما يسمى “لائحة التصنيف”.

ويتوقع ريتشارد برونز استمرار الخلاف في جميع أنحاء أوروبا حول الطاقة النووية. وقال إن “الدول التي تتمتع بخبرة كبيرة في المجال النووي ستواصل استخدام الطاقة النووية على المدى الطويل. وتوجد دول أخرى سيمثل لها هذا خيارا غير مقبول”.