هل الملك سلمان، ملك السعودية، هو الذي دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لزيارة رسمية إلى بلاده، أم أن أردوغان هو الذي دعا نفسه؟ يبدو أنه سؤال شغل، هذا الأسبوع، من يستخدمون الشبكات الاجتماعية في السعودية أكثر من الزيارة نفسها التي استغرقت يومين، والتي قام بها الرئيس التركي الخميس الماضي لمدينة جدة.
الفرق بين الأمرين يتعلق بقضية شرف الدولتين ومكانتهما؛ فإذا كان أردوغان قد بادر إلى الزيارة، فالأمر يتعلق بالذهاب لدفع غرامة، لكن إذا كانت المملكة هي المبادرة فالأمر يتعلق بدولتين متساويتين في المكانة، تبلغان عن إنهاء متبادل لنزاع بينهما استمر مدة أربع سنوات.
خرجت السعودية أخيراً ببيان رسمي جاء فيه بأن الملك هو الذي دعا أردوغان، وبذلك وضع حداً للتحليلات. لم يكن محمد بن سلمان هو الذي استقبل أردوغان في مطار جدة، بل حاكم مكة خالد الفيصل. الفيصل أمير مقدر يشغل منصب مستشار الملك سلمان، وكان الوسيط السعودي الذي أجرى في 2018 المفاوضات التي استهدفت إنهاء قضية قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي بهدوء واتفاق. المفاوضات فشلت عندما رفض أردوغان الاقتراحات المقدمة. احتضانه المتبادل مع الفيصل ثم مع بن سلمان، دفن خاشقجي نهائياً.
ثمة ثمن للمصالحة بين السعودية وتركيا؛ فقد وافقت تركيا على نقل استمرار إدارة محاكمة المشبوهين الـ 26 المتورطين في قتل خاشقجي للسعودية، وبهذا إسدال الستار فعلياً على القضية. ولا يقل عن ذلك أهمية تغريدة أردوغان في “تويتر” التي تقول: “تركيا تعارض أي شكل من أشكال الإرهاب، نولي أهمية للتعاون مع دول المنطقة ضد الإرهاب”. هذا ليس تصريحاً عادياً من نوع التصريحات التي يسمعها الزعماء بين حين وآخر بشكل عرضي. هو موجه بشكل جيد ضد الإخوان المسلمين الذين تعتبرهم السعودية منظمة إرهابية. وعند عودته إلى تركيا، أمر أردوغان بإغلاق قناة “مكملين” الإخوانية، وأوضح لزعمائهم الذين يتمتعون برعاية الدولة بأن “الظروف السياسية تغيرت”، أي بإمكانهم أن يكونوا ضيوفاً في تركيا، دون أي نشاطات سياسية واستخدام وسائل إعلامهم لهذا الغرض.
بهذا، استجاب أردوغان لطلب السعودية، ولطلب مصر التي طالبته بتسليم كبار قادة المنظمة كأحد الشروط لاستئناف العلاقات. وفي موازاة ذلك، ومن أجل إرضاء إسرائيل، نشر بأن أردوغان أوضح لحماس بأنه لن يسمح بمكوث رجال عز الدين القسام في تركيا. وحسب مصادر فلسطينية، فإن تركيا طردت في السابق بضع عشرات من نشطاء حماس من أراضيها.
حتى في قضية خاشقجي، سادت بين تركيا والسعودية علاقات سليمة وحتى وثيقة. وعندما تم تعيين سلمان ملكاً في 2015 كان أردوغان من بين أول من هنأوه بل وحضر حفل تتويجه. بعد سنة، وقع اتفاق تعاون استراتيجي بين الدولتين الذي أقيم في إطاره مركز مشترك للتعاون السياسي والاقتصادي. كان هذا إنجازاً مهماً بصورة خاصة لأردوغان إزاء العداء الشديد والقطيعة في العلاقات التي سادت بين مصر، حليفة السعودية، وبين تركيا التي اعتبرت السيسي ليس أكثر من جنرال سيطر على السلطة في 2011 بانقلاب عسكري غير شرعي.
لكن منذ ذلك الحين، هبت في دول الخليج الصحراوية عدة عواصف رملية غطت تركيا وحولتها إلى دولة غير مرغوب فيها ومعادية ومهددة وخطيرة، مثلما اعتبرها زعماء السعودية والإمارات ومصر. وعندما بادرت الرياض هي وأبو ظبي والبحرين ومصر إلى فرض المقاطعة الاقتصادية الشديدة على قطر في 2017 سارعت تركيا إلى إنقاذ قطر من عزلتها، فأرسلت قافلة تموين جوية تركية عبر إيران إلى الدوحة، عاصمة قطر، وأدانت تركيا بشدة المقاطعة وأنشأت قاعدة عسكرية في قطر. وبعد ذلك، تعاونت مع قطر في الحرب في ليبيا ضد الجنرال الانفصالي خليفة حفتر. وعندما وقفت تركيا وقطر إلى جانب الحكومة المعترف بها في ليبيا، كانت السعودية والإمارات ومصر قد دعمت حفتر وساعدته عسكرياً. وفي 2018 انفجرت قضية خاشقجي الذي تم تقطيع جسده بالمنشار على يد عملاء لبن سلمان في القنصلية السعودية في إسطنبول. ومنذ ذلك الحين، تبين أنه لا إمكانية للمصالحة بين الدولتين.
للنزاعات بين الدول ميزة ثابتة، وهي أن قوتها وسخونتها تتلاشى عندما تنشأ مصلحة قوية أكبر من التي أبقتها على قيد الحياة. وهكذا، فإن حركة الطرد المركزي التي أبعدت السعودية عن تركيا، هي التي قاربت بينهما في النهاية. في الوقت الذي تتحول فيه السعودية إلى دولة منبوذة في الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية بسبب قتل خاشقجي، أصبحت تركيا تهديداً استراتيجياً للناتو بسبب صفقة شراء الصواريخ المضادة للطائرات الروسية من نوع “اس 400”. حتى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، صديق ومنقذ أردوغان، اضطر في 2020 إلى فرض عقوبات على تركيا وطردها من مشروع التطوير والبيع لطائرات “اف35” وفرض قيود على رؤساء الصناعات العسكرية فيها. هذا في الوقت الذي بدأت فيه أنقرة مسار تدهورها الاقتصادي الذي وصل إلى حضيض غير مسبوق في السنة الماضية بمساعدة كبيرة من كورونا. انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة أوقع بشرى قاسية على قصر أردوغان الرئاسي الفاخر. لم يخف بايدن اشمئزازه من الرئيس التركي، ومرت عدة أشهر قبل موافقته على إجراء مكالمة هاتفية معه. كان يمكن أن يعزي أردوغان نفسه بأن مكالمة كهذه لم تحدث حتى الآن بين بايدن وبن سلمان.
لكن سياسة بايدن في الشرق الأوسط، التي رفعت علم حقوق الإنسان إلى جانب التطلع إلى الانسحاب من المنطقة الغارقة في النزاعات والدموية التي أضرت بالولايات المتحدة وهزت مكانتها، هي أيضاً التي وضعت صمغاً جديداً بين دول عدوة. كانت الإمارات هي الأولى (باستثناء قطر) في اختراق سور عزلة تركيا عندما استأنفت معها العلاقات الدبلوماسية وأخرجت من جيبها 10 مليارات دولار كاستثمارات موعودة في تركيا، إضافة إلى 5 مليارات دولار في صفقة لتبادل العملة. في المقابل، تجري تركيا اتصالات على مستوى عال مع مصر بهدف استئناف العلاقات الدبلوماسية وإنهاء النزاع، مثلها أيضاً مع إسرائيل التي يتوقع أن تجرى فيها هذا الشهر زيارة أولى لوزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو، والآن تجري الزيارة الرسمية لأردوغان في السعودية.
هدية ثمينة
بدأت عملية نسج العلاقات قبل حرب أوكرانيا، وجاءت نتيجة سياسة تركيا لفتح طرق الاستثمار والتمويل الإقليمية كأساس لحل الأزمة الاقتصادية العميقة، التي خفضت قيمة الليرة التركية 40 في المئة، وأوصلت التضخم إلى 61 في المئة تقريباً. يبدو أن النجوم انتظمت جيداً أيضاً لصالح السعودية، التي اعترفت بأن علاقاتها العكرة مع الولايات المتحدة تلزمها البحث عن بدائل وتشكيل تحالفات إقليمية جديدة.
ليست تركيا هي الوحيدة التي انتقلت من قائمة الدول المرفوضة إلى التي تستحق إعادة الفحص، بل باتت الرياض تجري مفاوضات مع إيران أيضاً استمرت عدة أسابيع بهدف التوصل إلى تفاهمات تسوي وتستأنف العلاقات بينهما التي قطعت في 2016. السعودية، بصورة تقليدية، تفضل العمل داخل كتل أو تحالفات تستطيع توجيهها كما تشاء، من خلال الاعتماد على قوتها الاقتصادية وعلى القاعدة الصلبة التي بنتها خلال عشرات السنين في واشنطن. هكذا أنشأت التحالف العربي للحرب في اليمن وكتلة الدول المناهضة لإيران. ولكن بعد أن توقفت واشنطن عن أن تكون الركيزة القوية والسوط المخلص الذي ساعد المملكة، وإزاء احتمالية عودة إيران إلى الساحة الدولية، بدأت السعودية في فحص خيارات جديدة مثل التعاون مع روسيا والصين وبناء كتلة مع تركيا، وربما بعد ذلك مع إيران أيضاً.
تركيا أردوغان، في المقابل، تصرفت بشكل عام كعازف منفرد. استخف أردوغان بتهديدات الاتحاد الأوروبي عندما طلب منه تحسين وضع حقوق الإنسان؛ واستكمل صفقة شراء الصواريخ الروسية خلافاً لطلب ترامب؛ وأرسل سفن تنقيب إلى مناطق في البحر المتوسط، التي تدعي فيها اليونان وقبرص ملكيتها عليها؛ وساعد أذربيجان في حربها ضد أرمينيا في ناغورنو قره باغ، وبهذا صعد إلى مسار التصادم مع روسيا. باختصار، تركيا تتصرف كدولة عظمى لا تحتاج إلى شراكة، في حين أن السعودية تنشغل في إنشاء دعامات لمكانتها. استئناف العلاقات مع دول الخليج لا يناقض رؤية تركيا الاستراتيجية. شعار “تركيا أولاً” سيواصل كونه المبدأ الذي سيوجهها.
الحرب في أوكرانيا منحت تركيا والسعودية ودول النفط الأخرى هدية ثمينة، لا لأن أسعار النفط والغاز أثرت خزائنها بصورة دراماتيكية وغير متوقعة، بل تحولت هذه الدول إلى عامل حيوي تستند إليه سياسة العقوبات المفروضة على روسيا. فجأة، يحاول الرئيس بايدن التحدث مع بن سلمان لإقناعه بزيادة إنتاج النفط، وبذلك خفض سعره العالمي. لكن بن سلمان نفسه، المنبوذ، يرفض الرد على المكالمة. وتركيا، التي هي في الواقع ليست منتجة نفط أو غاز، تجد نفسها مطلوبة؛ لأنه رغم أنها عضو في الناتو وملزمة بالسياسة المناهضة لروسيا لهذا الحلف، ترفض الانضمام اليوم للعقوبات التي فرضت على روسيا. ولضمان تمسكها بسياسة بايدن المناهضة لروسيا، يبدو أنه حتى قضية شراء الصواريخ الروسية لم تعد تشكل عائقاً أمام ترميم منظومة العلاقات مع البيت الأبيض.
تريد تركيا أن تشتري من أمريكا 40 طائرة “اف 15” و80 منظومة تطوير للطائرات القديمة بمبلغ 6 مليارات دولار. قبل الحرب في أوكرانيا، تم إبلاغ تركيا بأن هذا الطلب قد يتجمد عميقاً. ولكن مؤخراً، طلب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، تسريع المصادقة على الصفقة، وأعضاء كونغرس ديمقراطيون، الذين أكدوا سابقاً معارضتهم بيع الطائرات، يسمعون نغمة جديدة. ومثلما أوضح رئيس لجنة الخدمات المسلحة في الكونغرس، الديمقراطي آدم سميث: “نحتاج إلى العلاقات مع تركيا. علينا العثور على طرق لإعادة بنائها من جديد”. بناء علاقات، مثل أي بناء آخر، لا يتم بالمجان. وكما قلنا، النزاعات دائماً تحني رأسها أمام المصالح.
بقلم: تسفي برئيل
القدس العربي