تستمر النقاشات حول العروض التي قدّمتها الكتل السياسية المختلفة إلى المستقلين لتشكيل الحكومة المقبلة في العراق، في محاولة لإبراز موقف موحد للنواب المستقلين في البرلمان العراقي، إلا أنها تصطدم بعديد من العوائق، خصوصاً ما يتعلق بتعريف المستقلين وإمكانية تشكيلهم كياناً موحداً داخل المجلس النيابي.
وعلى الرغم من الحديث المتكرر عن وصول نحو 48 نائباً مستقلاً إلى البرلمان في دورته الحالية، فإن عديداً من المراقبين يشككون في استقلالية عديد منهم، خصوصاً النواب الذين يظهرون ميلاً واضحاً إلى الكتل التقليدية، سواء التيار الصدري أم الميليشيات المُوالية لإيران.
ولا ينحصر استخدام مفردة المستقلين على النواب الذين رُشِّحوا بشكل منفرد من دون قوائم أو أحزاب، بل يشمل هذا التوصيف القوى الجديدة التي تشكلت بعد احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 مثل حركة “امتداد”، فضلاً عن القوى الكردية المعارضة التي تتقدمها كتلة “حراك الجيل الجديد” بقيادة شاسوار عبد الواحد.
مناورة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي
على الرغم من تبني عديد من القوى الجديدة خطاباً إصلاحياً واضحاً، فإن عديداً ممن يندرجون تحت اسم “المستقلين” يتبنون خطاباً متماهياً مع توجهات سياسية معروفة.
ويتحدث عديد من الناشطين البارزين في التظاهرات العراقية عن أن غياب الأمن والملاحقات والاغتيالات المستمرة التي تتهم فيها أطراف على صلة بطهران، أسهمت إلى حد كبير في انكفاء الشخصيات المستقلة عن الانتخابات الأخيرة، الأمر الذي أفسح المجال أمام شخصيات على صلة بالفصائل لاستخدام صفة الاستقلالية للوصول إلى البرلمان.
ويستخدم مراقبون وناشطون عبارة “شخصيات الظل” في توصيف الشخصيات التي تعلن استقلاليتها، إلا أنها تظهر مواقف تميل إلى أحزاب وكتل سياسية تقليدية.
ووفق تلك المعادلة يرى مراقبون مبادرة التيار الصدري أو القوى المُوالية لإيران تهدف إلى المناورة لا الحسم الحقيقي للانسداد السياسي.
وتشير التقديرات إلى وجود 30 نائباً كحد أقصى تنطبق عليهم صفة الاستقلالية من حيث ابتعاد خطابهم عن خطاب الأحزاب التقليدية والفصائل المسلحة، وتبنيهم مطالب على صلة بالتظاهرات.
فرصة ذهبية لطرح مبادرة مضادة
تأتي مبادرات التيار الصدري والإطار التنسيقي بعد سلسلة من الجولات التي لم تسفر عن تمكن أي طرف منهما من إتمام مشروعه، ففيما فشل تحالف “إنقاذ وطن” إمرار جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لثلاث مرات على أثر مقاطعة التيارات المُوالية لإيران لها، لم تتمكن قوى “الإطار التنسيقي” التي تضم معظم القوى المُوالية لإيران من صناعة أي تحالفات تمكنها من تشكيل الحكومة المقبلة بعد مهلة الـ40 يوماً التي أعطاها الصدر.
ولعل ما أكسب النواب المستقلين زخماً كبيراً في البرلمان الحالي هو انضمام نحو 20 نائباً منهم إلى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في 26 مارس (آذار) الماضي، الأمر الذي جعل النواب المستقلين عنصراً رئيساً في حسم إشكالية تغليب طرف على الآخر.
ويبدو أن مبادرات كلا الطرفين تسعى إلى كسب أكبر عدد من المستقلين، الأمر الذي سيمكنهم من حسم الجولة القائمة لصالحه.
وتبدو تلك المرة الأولى التي يكون فيها المستقلون في البرلمان العراقي “بيضة القبان” لحسم ملف تشكيل الحكومة، وهو الأمر الذي دفع عديداً من المراقبين والناشطين إلى الدفع باتجاه تنضيج جبهة متماسكة من المستقلين لاستغلال هذه الفرصة وبلورة رؤية خاصة بهم لطرحها أمام الأطراف السياسية المختلفة.
وفيما يقلل أستاذ العلوم السياسية، هيثم الهيتي، من واقعية المبادرات التي أطلقها التيار الصدري والإطار التنسيقي، يشير إلى أن السياق الوحيد الذي يمكن أن يُحدث تغييراً في المعادلة الحالية يتمثّل بـ”مبادرة المستقلين على تشكيل رؤية خاصة بهم لطرحها على أطراف الخلاف السياسي”.
ويضيف الهيتي، أن الانسداد السياسي الحاصل يمثّل “فرصة ذهبية للمستقلين في فرض وجهات نظرهم على الأطراف التقليدية”، مبيناً أن طرح القوى المستقلة مبادرة في هذا التوقيت سيجعل منها “قطباً ثالثاً في حوارات تشكيل الحكومة المقبلة”.
ولعل ما يعرقل إمكانية أن يكون للمستقلين دور حاسم في تشكيل الحكومة المقبلة، بحسب الهيتي هو “استسلامهم لفكرة انضوائهم ضمن أحد التحالفين، الأمر الذي حولهم إلى أداة سياسية تستثمر بين التيار الصدري والإطار التنسيقي”.
المستقلون أمام “حق المكوّن الأكبر” وتنازل التيار الصدري
على بعد أيام قليلة من انتهاء المهلة التي أعطاها الصدر لقوى الإطار التنسيقي، توالت المبادرات من الطرفين إلى النواب المستقلين لترشيح رئيس الوزراء المقبل، الأمر الذي مثّل مفاجأة كبيرة ربما تسهم في تغيير ملامح اللعبة السياسية.
ولا تبدو مبادرة الإطار التنسيقي مُغايرة لمطالباته المستمرة منذ انتهاء الانتخابات الماضية، إذ إنه على الرغم من تضمنها اقتراحاً بأن يقدم النواب المستقلون مرشحاً لتشكيل الحكومة المقبلة، فإنها اشترطت أن ينال المرشح “دعم جميع الكتل الشيعية”.
ولطالما تحدثت قوى الإطار التنسيقي عن “حق المكوّن الأكبر” من خلال تماسك “البيت الشيعي” كمساحة وحيدة لتشكيل الحكومة العراقية، كما هو العُرف السائد منذ أول حكومة دائمة بعد عام 2003.
ولعل ما يقلل من أهمية مبادرة “الإطار التنسيقي” للمستقلين، وتحديداً القوى المنبثقة عن أجواء الانتفاضة العراقية، هي عدم تطرقها لأي من النقاط الخلافية والاعتراضات من تلك القوى على الميليشيات المنضوية ضمن تحالف الإطار التنسيقي، والملفات الشائكة، وتحديداً تلك التي تتعلق بالاغتيالات وعمليات القمع، فضلاً عن الاتهامات بالفساد.
وفي مقابل عرض التيارات المُوالية لإيران، قدم الصدر أيضاً عرضاً للنواب المستقلين، وعلى الرغم من وصفه بأنه “أكثر وضوحاً” من عرض الولائيين فإن مراقبين يصنفونه بأنه جاء كرد فعل على عرض الإطار التنسيقي.
وتضمن عرض الصدر أن يقوم المستقلون بتشكيل الحكومة المقبلة فيما لو تمكنوا من جمع كتلة لا تقل عن 40 نائباً ولا تضم أياً من نواب الإطار التنسيقي. وربما يوصل هذا العدد من النواب تحالف “إنقاذ وطن” إلى عتبة 220 نائباً، والتي تؤهله إلى تحقيق نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية دون الحاجة إلى أي توافقات مع قوى الإطار التنسيقي.
وعلى الرغم من تضمن مبادرة الصدر تأكيداً أنها صدرت بعد موافقة “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، وتحالف “السيادة”، فإنها لم تتضمن إلا تنازلاً من “الكتلة الصدرية” عن حقائبها في الحكومة المقبلة، فيما لم تشر المبادرة أيضاً إلى أي من النقاط الخلافية بين جماهير القوى المستقلة والتيار الصدري، خصوصاً ما يتعلق بقمع احتجاجات أكتوبر والاتهامات بالفساد.
مبادرات “الصندوق السياسي الشيعي”
يستمر التشكيك بمدى جدية المبادرات التي أعلنت من الأطراف السياسية المختلفة، حيث يعتقد مراقبون أنها تمثل مناورة جديدة في ظل “عدم وجود العدد الكافي من النواب المستقلين الحقيقيين”، الأمر الذي سيزيد حدة الانسداد السياسي.
ولا يعتقد رئيس مركز “التفكير السياسي”، إحسان الشمري، بجدوى مبادرات إنهاء الانسداد السياسي من قبل “الإطار التنسيقي” و”الكتلة الصدرية”، واصفاً إياها بـ”المحاولات لزيادة منسوب الضغوط المتبادلة الاستقطابات بين الأطراف المختلفة”.
ويضيف في حديث لـ”اندبندنت عربية” أن ما يجري يمثل تزاحماً بين الطرفين إما لـ”تحقيق غالبية الثلثين، أو استمرار تعطيلها”، مبيناً أن كل تلك المبادرات التي تنطلق من المساحة الشيعية ولا تنضوي على تفاهمات وطنية شاملة “لن تحظى بمقبولية النواب المستقلّين”.
ويتابع أن “أي مبادرة لا يمكن أن تنجح في ظل الظرف الحالي إلا إذا كانت من خارج الصندوق السياسي الشيعي”.
ولعل ما يعزز عدم جدوى تلك المبادرات، بحسب الشمري هو “عدم وجود تمثيل حقيقي للمستقلين، وأن غالبية من تطلق عليهم صفة الاستقلالية هم في الحقيقة شخصيات ظل للقوى التقليدية”، مبيناً أن “طبيعة مواقف عديد من النواب المستقلين وانحيازهم إلى أحد أطراف النزاع السياسي منذ البداية يقلل من أهمية تلك المبادرات”.
ويختم بأن ما يجري الآن لا يمثّل مبادرات حقيقية للخروج من الأزمة بقدر كونها “محاولات استقطاب النواب المستقلين الحقيقيين إلى أحد الطرفين”.
مواقف متباينة لـ”النواب المستقلين”
من المؤمل أن يعقد النواب المستقلون اجتماعاً لبحث مبادرتي زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، والإطار التنسيقي للقوى الشيعية. ولم يصدر أي موقف موحد من قبل القوى المستقلة في البرلمان العراقي إزاء المبادرتين، فيما يتوقع مراقبون ألّا تثمر أي منهما عن أي نتائج تؤثر على الانسداد السياسي القائم.
ويشير نواب مستقلون إلى أن غالبية القوى المستقلة في البرلمان العراقي تميل إلى جانب المعارضة، إلا أن عدداً آخر منهم يرى “إمكانية التصدي لتشكيل حكومة وطنية وفق مطالب صارمة قد لا تُرضي أطراف المبادرات”.
وقال المتحدث باسم كتلة “حراك الجيل الجديد”، ريبوار أورحمان، إن “مقترحات زعيم التيار الصدري والإطار التنسيقي، ليست موجهة لنا، لأننا رفضنا دخول الحكومة منذ البداية”، متابعاً، “لكنني أرى برلمانيين مستقلين قادرين على التوحد وتكوين رؤية مشتركة للرد على المقترحات”.
وأضاف، “إذا تم تقديم مرشحين مستقلين ومحايدين إلى رئيس الوزراء والوزارات، فسننظر في برنامجه، وإذا كانت أجندة الحكومة في خدمة الشعب، وإذا حلت مشكلات العراق، فنحن مستعدون للتصويت لذلك المستقل في ذلك الوقت”.
وعلق عضو المكتب السياسي لحركة “امتداد”، منار العبيدي بالقول، إن “مبادرتي الإطار التنسيقي والتيار الصدري محل اهتمام كبير”، مبيناً أن الحركة “لم تعلن قبولها بأي مبادرة، لكنها تجد أن مبادرة التيار الصدري هي الأقرب للمستقلين لأنها تعطيهم صلاحية تشكيل الحكومة”.
أما النائب المستقل، ياسر إسكندر، فقال في تصريحات صحافية، إن “دعوة الصدر للمستقلين لغرض اختيار رئيس حكومة من صفوفهم دعوة محترمة تعبر عن مدى حرص بعض القوى الوطنية على إفساح المجال أمام القوى المستقلة فعلياً لإدارة المنظومة الحكومية المقبلة”.
أضاف، “لكن هذه الخطوة بحاجة لضمانات حقيقية تتعلق بعدم تدخل القوى المتنفذة في قرارات من ترشحه القوى المستقلة، فضلاً عن ضرورة تحمل المسؤولية من قبل الجميع لإنجاح الحكومة المقبلة وعدم وضع العراقيل في طريقها أو محاولة التضييق على عملها، ومن ثم إسقاطها بذريعة تقويم عملها”.
وكان النائب المستقل، محمد عنوز، قد قال في تغريدة على “تويتر”، إن “رؤيتنا منذ البدء عدم المشاركة في تشكيل أي حكومة، ونؤيد حكومة الأغلبية السياسية لغرض تحديد المسؤولية لا غير”.
فرصة حقيقية
ويرى أستاذ الإعلام، غالب الدعمي، أن “مبادرة التيار الصدري تبدو أكثر وضوحاً وبشروط أقل من شروط الإطار التنسيقي”.
ووفق المعطيات المتوافرة، يعتقد الدعمي أن الإشكالية الرئيسة تتعلق بالنواب الذين تنطبق عليهم “صفة الاستقلالية”، وما إذا كان هذا التوصيف ينطبق على النواب الذين “ينضوون حالياً ضمن طرفي الإشكال السياسي”.
ويشير الدعمي إلى أنه “وفق المعطيات الحالية وتقاسم التيار الصدري والإطار التنسيقي نسبة لا بأس بها ممن يوصفون بالمستقلين، فإن جمع 40 نائباً من المستقلين الحقيقيين يبدو أمراً صعباً”، مبيناً أن الإشكالية الأخرى تتعلق بـ”صعوبة توحيد وجهات نظر النواب المستقلين على مرشح واحد”.
ويعتقد الدعمي أن “معرفة التيار الصدري بعدم إمكانية توافق المستقلين على مرشح واحد ستسهل عملية استقطابهم لتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية”، لافتاً إلى أن أمام المستقلين “فرصة حقيقية لتحقيق عديد من المكاسب وفرض الاشتراطات على الحكومة المقبلة”.
اندبندت عربي