الاعتقاد السائد في ليبيا هو أن الصدّيق الكبير، حاكم المصرف المركزي الليبي، منذ الثاني عشر من أكتوبر 2011 إلى اليوم، هو “الحاكم الفعلي” في لبيبا، وأنه هو “الدكتاتور” الجديد، وهو الذي يقرر مصير حكوماتها، ومَنْ يحصل أو لا يحصل على المال. وهذا كله غير صحيح.
الصدّيق الكبير ليس سوى “عبد المأمور”. فهو يخدم أجندات الدول التي تتعاون معه ويتعاون معها. وبالنظر إلى أن المصرف الليبي يتحكم باحتياطات واستثمارات وأصول كبيرة في الخارج، عدا عن عائدات النفط الجارية، فإنه لا يتحكم بالأموال الليبية بمفرده. وهو يُعطي لمَنْ يقال له أن يُعطيه، ويمنع عمّنْ يقال له أن يمنع عنه العطاء.
تبدلت الحكومات، وتغيرت الوجوه، وخاض الفرقاء صراعات خارج طرابلس وداخلها، إلا أن الرجل بقي صامدا في موقعه، لأنه ينفذ مشيئة “الحاكم الفعلي”.
و”الحاكم الفعلي”، ليس كائنا غامضا على الإطلاق. وهو ليس السفير الأميركي بمفرده، ولا مرتزقة رجب طيب أردوغان ومندوبيه بمفردهم، ولا أصحاب المصالح الذين يمثّلون إيطاليا. ولا مندوبة الأمين العام للأمم المتحدة. إنهم مجلس إدارة يضم كل هؤلاء، وتترأسه السفيرة البريطانية كارولاين هيرندال، على اعتبار أن بلادها هي الحائز الأكبر على حصص الأصول والاستثمارات الليبية. ما يجعلها المتحكم الأول فيما يجب أو لا يجب دفعه.
لا حل حتى الآن، إلا الدوران الراهن في الفراغ، لأن الصورة النهائية لمستقبل ليبيا لم تتضح بعد لدى أعضاء مجلس الإدارة
ولو أن فتحي باشاغا وطّد علاقته مع رئيس مجلس الإدارة، وقدم لها التطمينات، فإنه ما كان ليجد حكومته بلا تمويل. والخطيئة الكبرى التي ارتكبها الجنرال خليفة حفتر هو أنه لم يمنح بريطانيا الأهمية التي منحها لفرنسا.
الصدّيق الكبير ليس سوى واجهة. يفعل ما يؤمر به. ويُنفق ما يقال له أن يُنفق. والرجل السبعيني يعرف، بحكمة الزمن، أنه وسط كل معمعة الميليشيات المتنازعة والحكومات المتصارعة، ما كان له أن ينجو ببقية عمره من دون غطاء “دولي”، يمنحه اللجوء من قبل أن يذهب ليلوذ به.
وبالتالي، فإن إلقاء اللوم عليه، وتوجيه الاتهامات له بالفساد، وتهديده بالمحاسبة، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار حقيقة الوضع الذي يعيش فيه، وما يتوفر له من تغطيات تجعل كل ما يتهم به نداءات لا طائل منها.
ولقد كان من الممكن، وسط عالم الفوضى الليبي، أن يُقتل في أيّ وقت. ولكنه نجا، ليس لأنه ظل يدفع، ويؤدي القسط المطلوب منه، بل لأنه يظهر وكأنه خارج السجال السياسي، بالضبط مثله مثل السفيرة البريطانية التي لا تبدو وكأنها لاعب مهم أصلا، رغم أنها تلتقي بمسؤولين من كل الصفوف، مدنيين وعسكريين، ويخطب مشورتها الجميع، من كلا طرفي الأزمة.
يقدر حجم الأموال والأصول الليبية المجمدة في المصارف الأوروبية بنحو 200 مليار دولار. ولدى المصرف الليبي احتياطات من الذهب تبلغ 144 طنا. كما أن لدى هيئة الاستثمار الليبي أموالا سائلة يزيد حجمها على 75 مليار دولار، نحو نصفها موجود في عدد من البنوك الأميركية.
ولا يبدو أن من مصلحة الذين يتحكمون بهذه الأموال، أن يتحقق الاستقرار أو أن تُجرى انتخابات، أو أن تكون هناك دولة واحدة في ليبيا. لأن أول ما ستفعله حكومة منتخبة هو المطالبة برفع التجميد الذي أقره مجلس الأمن الدولي في العام 2011، على الأصول الليبية في الخارج. وهات مَنْ يتوصل إلى صيغة لتوزيع هذه الأموال على استثمارات موعودة، وهات أيضا مَنْ يفصل في المطالبات باستقطاع أجزاء منها.
وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من أن بريطانيا حصلت على تعويضات بمقدار ملياري دولار عن كارثة لوكربي، إلا أنها ما تزال تطالب بـ20 مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة كتعويضات عن هجمات الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي استخدم أسلحة ليبية في هجمات إرهابية ضد بريطانيا. وتريد الخارجية الأميركية عدة مليارات لقاء “المساعدات” الإنسانية التي تلقتها ليبيا على مر سنوات الصراع. كما تريد تركيا أن تُسدد لها ديونٌ نشأت عن توظيف مرتزقة، وما قدمته من أسلحة.
الأموال المجمدة، عدا ما يمكن استقطاعه منها، لهذا السبب أو ذاك، فإنها يتعين أن توظف في استثمارات لإعادة البناء. ومنها لتطوير حقول النفط والغاز. ونحن هناك لا نتحدث عن ثروة يمكن أن تتقاسمها شركات التطوير الغربية، وإنما عن ثروة أخرى أضخم تستولدها الاستثمارات. ما يجعل تحديد خرائط المصالح المتفاوتة شرطا مسبقا لتحقيق الاستقرار.
تركيا وحدها تحولت إلى عقدة، لأنها باتت لاعبا مقررا، وتريد حصة أكبر من أن تكون مقبولة بالنسبة إلى “المستثمرين” البريطانيين والأميركيين في الأزمة
لقد كان يبدو أن الجميع مهتم تماما، بالتوصل إلى حل، يؤدي إلى إجراء انتخابات. ولم تترك مستشارة الأمين العام ستيفاني ويليامز جهدا لم تفعله من أجل أن يتحقق الاستقرار، ولكنها كانت ترى وتعرف تماما أن المسار الذي سلكته حكومة عبدالحميد الدبيبة لم يكن مسار استقرار فعلا. تركت الأمر لرئيسة “مجلس إدارة الأزمة” لكي تقرر ما إذا كان يمكن إجراء انتخابات فعلا. فخرائط المصالح التي لم تتقرر بعد، صارت هي التي تستوجب التأجيل واختلاق العراقيل، أو النظر إليها كيف تنشأ وتركها تجري لتحقق المقصود منها. وهذا ما حصل بالفعل عندما رأى الجميع كيف أن الترشيحات لانتخابات ديسمبر الماضي والاعتراضات عليها، كانت ستؤدي إلى تعطيلها. وكيف أن اللعبة ستعود لتتكرّر. وكيف أن الانقسام بين حكومتين سوف يظهر مجددا.
كانت السيدة هيرندال، تتفرج ببراءة الأطفال، من شباك السفارة، وتعرب عن الأسف لما يتصاعد من دخان الحرائق.
تركيا وحدها تحولت إلى عقدة، لأنها باتت لاعبا مقررا، وتريد حصة أكبر من أن تكون مقبولة بالنسبة إلى “المستثمرين” البريطانيين والأميركيين في الأزمة.
المال ومصالحه، هو الذي يحكم. ويقرر المصائر مَنْ يتحكم فيه. وعندما يجد البرلمان الليبي، والحكومة المنتخبة من جانبه، أنهما بلا تمويل، فلأن حامل مفاتيح بيت المال، لا يريد أن يتوصل معهما إلى صفقة، تخرج عن الصفقة التي عقدتها حكومة عبدالحميد الدبيبة. وهذه الأخيرة، على أيّ حال، لم تتعد صفقة “تصريف أعمال”، لتيسير شؤون حكومته وميليشياتها.
وما من أحد يشك في أن أيا من الحكومتين المتنازعتين يمكن أن تبقى ليومين، لو أن مسارب المال توقفت عنها. صحيح أنها قد تلجأ إلى الاقتراض، كما حدث مع حكومة عبدالله الثني، أو الاستنجاد بمساعدات خارجية كما حدث مع حكومة فايز السراج في طرابلس، إلا أن تدفقات النفط، ظلت توفره لكي توفر الغطاء لكل الاهتمام الدولي بالأزمة الليبية.
وهناك “تقاسم حصص” لتصريف الأعمال، بين مَنْ يضع يده على مفاتيح الضخ، وبين مَنْ يتلقى الأموال. وهو تقاسم حفظ لكل طرف مصالحه، “فلا مات الذئب ولا فنيت الغنم”. وبقيت الأزمة مفتوحة، لا تخطو حلولها خطوة إلى الأمام، حتى تتراجع خطوتين إلى الوراء.
ولا حل حتى الآن، إلا الدوران الراهن في الفراغ، لأن الصورة النهائية لمستقبل ليبيا لم تتضح بعد لدى أعضاء مجلس الإدارة.
احتياطات ليبيا الضخمة من النفط والغاز، وقدرتها على أن تتحول الى لاعب رئيسي في سوق الطاقة العالمي، وموقعها الجغرافي نفسه جنوب الساحل الأوروبي، تجعل منها قطعة مهمة في الخرائط الاستراتيجية. وحتى ينتهي المخططون من رسمها، فإن الانتخابات لن تجرى. والإدارات المتنازعة لن تتوحد. وحده الصدّيق الكبير هو الذي يبقى، لأنه صاحب حامل مفاتيح المال.
العرب