جاءت استقالة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل من منصبه بعد أقل من ثلاثة أسابيع من فوز الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ليجمعوا تحت سيطرتهم مجلسي النواب والشيوخ.
طالما وصف باراك أوباما هيغل بصديق مقرب ينال كامل ثقته، إلا أن مستشارا بارزا لأوباما أبلغ صحفيا بمحطة “أن بي سي” (NBC) أن أوباما يرى أن هيغل اليوم “ليس قادرا على تأدية مهام وظيفته، وليس على مستوى التحديات التي تواجهها أميركا حاليا”.
توقيت “الاستقالة”
وفي وقت اعتقد فيه خبراء الشأن الأميركي أن الرئيس أوباما سيعتمد بصورة أكبر على وزير دفاعه المنتمي للحزب الجمهوري -والذي خدم من قبل كسيناتور جمهوري من ولاية نبراسكا- من أجل التواصل مع زملائه القدامى من أعضاء مجلس الشيوخ؛ جاء دفعه لتقديم استقالته ليظهر حجم ما تمر به الإدارة الأميركية من أزمة وانقسام في طريقة إدارتها للسياسة الخارجية.
ورغم أن هيغل شارك من قبل كعسكري في حرب فيتنام، فإن انتقاده للحرب الأميركية على العراق منحه ثقة ومصداقية كبيرة لدى الرئيس أوباما.
وستدفع نتائج انتخابات مجلس الشيوخ بأعضاء يتبنون سياسة مغايرة تماما لتلك التي يتبعها أوباما تجاه سوريا والعراق. وعلى سبيل المثال ستشهد لجان مثل لجنتي العلاقات الخارجية والقوات المسلحة -وكلتاهما تضمان حاليا عشرة أعضاء ديمقراطيين وثمانية جمهوريين- تغيرات مهمة، وستشهد دخول عضوين جمهوريين جديدين يصاحبه خروج عضوين ديمقراطيين.
ومن المرجح أن يصعد السيناتور جون ماكين لرئاسة لجنة القوات المسلحة، وكان ماكين قد نبّه إلى أن السبب الرئيسي في إجبار هيغل على الاستقالة، هو أن الأخير طلب إرسال قوات أميركية لمواجهة “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية)، مشيرا إلى أن أوباما أتى بهيغل وزيرا للدفاع لتقليل النفقات العسكرية وإخراج الجيش الأميركي من دائرة الحروب في المنطقة فقط.
انقسام بإدارة أوباما
وقد كان هيغل دائم المطالبة بإرسال قوات برية لقتال “داعش”، وهو الأمر الذي يرفضه الرئيس الأميركي وكبار مساعديه داخل مجلس الأمن القومي بشكل قاطع حتى اليوم. فقد جاء أوباما للحكم وبلاده لم تخرج بعد من تبعات أزمة مالية عصفت بقطاعات واسعة من الاقتصاد الأميركي، وكانت لنفقات الحربين في العراق ومن قبله أفغانستان -والتي تقدرها دراسة خرجت عن كلية كينيدي للدراسات السياسية بجامعة هارفارد بنحو أربعة إلى ستة تريليونات دولار- آثار كبيرة على حسابات التدخل العسكري المستقبلي.
وحلم أوباما بإنهاء تورط أميركا المباشر في الصراعات الإقليمية، واستبعاد وجود قوات أميركية برية في صورة قوات احتلال على أراض أجنبية، والإسراع بانسحاب القوات إذا ما فرضت ظروف معينة تواجدها.
من هنا لم يكن مفاجئا أن يطلق البعض وصف “عقيدة أوباما” على تصور الرئيس الأميركي للعلاقات الدولية، والذي استبعد معه استخدام القوة المسلحة إلا للضرورة القصوى التي تمثل تهديدا واضحا للأمن القومي الأميركي. ويرى بعض المنظرين أن موقف أوباما من الحروب الأهلية في سوريا، وتردده في استخدام القوة المسلحة، ورؤيته لمستقبل التواجد العسكري الأميركي المحدود في العراق وأفغانستان؛ يظهره خطأ كرئيس متردد لا يدرك حدود القوة الأميركية.
من ناحيته، توقع هيغل مبكرا مخاطر تنظيم داعش على المصالح الأميركية في المنطقة، وهو ما أزعج مستشاري الرئيس وعلى رأسهم مستشارة الأمن القومي سوزان رايس ذات الخبرة العسكرية المحدودة. كما كان لهيغل صدامات مباشرة مع كبير موظفي البيت الأبيض دينيس مادونو، وبن رودس أحد أهم مستشاري أوباما. من هنا وعندما طالب هيغل بتخصيص المزيد من الموارد المالية والعسكرية لدعم الحكومة العراقية لتستطيع مواجهة تنظيم داعش، لم يتحمس البيت الأبيض لتصوراته.
وقبل بدء الغارات الجوية الأميركية على أهداف لداعش داخل سوريا، نادى هيغل بضرورة زيادة الدور الأميركي المباشر في سوريا، وهو ما اعتبر بمثابة تحد حقيقي لإستراتيجية الرئيس أوباما المتحفظة تجاه النظام السوري، وتوقع هيغل مبكرا أن يزداد نفوذ القوى المتشددة بين أوساط المعارضة المسلحة المختلفة.
وسيمثل تجنيد المزيد من المقاتلين الأجانب واستمرار تمكنهم من الوصول لساحات القتال السورية، عناصر دفع إيجابية لـ”دولة الخلافة الإسلامية” مقارنة بمنافسيها من أعداء نظام الأسد. وطالما استمر أمد القتال، زاد القلق من سيطرة تنظيم داعش أو جماعات متطرفة مثل القاعدة وأتباعها على ساحة المعارضة في الوقت الذي لا يبدو فيه أن القوى المعتدلة المعارضة ستكون لها أي حظوظ في المستقبل.
ويعارض هيغل تركيز الهجمات على داعش فقط وتجاهل نظام الأسد وما يمثله من تهديدات، ويرى أن فريق أوباما لا يمانع اليوم أن يبقى نظام بشار الأسد مع سيطرته على ما يعرف تاريخيا بالساحل ودمشق.
العلاقات مع مصر
من ناحية أخرى، وفيما يتعلق بالملف المصري، كان ترحيب الإدارة الأميركية بنتائج الانتخابات الرئاسية التي أتت بالرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم دليلا على سيادة منطق المصالح في رؤية واشنطن للأوضاع في مصر، بعيدا عن ادعاءات دعم الحريات والديمقراطية.
ولضمان أن لا تؤثر نتائج أي تغيير سياسي داخل مصر على مصالحها، كان هناك خط تواصل مفتوح بلا انقطاع بين وزير الدفاع الأميركي هيغل ونظيره المصري بعد الانقلاب على الرئيس محمد مرسي، حيث قام هيغل بمهاتفة السيسي 17 مرة قبل فض الاعتصامات صباح يوم 14 أغسطس/آب 2013، وما يقرب من نفس العدد بين فض الاعتصامات وإجراء الانتخابات الرئاسية.
بيد أن تأثير غياب هيغل يبقى منعدما على علاقات واشنطن بالقاهرة، فطبقا للدستور الأميركي يتمتع الرئيس بصلاحيات تفوق ما لدى أي مسؤول آخر أو الكونغرس في قضايا الشأن الخارجي، ولا تعد قضايا الشرق الأوسط ولا قضية المساعدات المقدمة لمصر استثناء هنا.
ورغم انقسام مجلسي الكونغرس تجاه قضية تقديم المساعدات العسكرية لمصر، من معارضة تجميدها في حالة مجلس النواب، أو المناداة بوقفها كما هو الحال في مجلس الشيوخ؛ بقي الرئيس الأميركي هو صاحب الصوت الأعلى والنهائي في هذه القضية، ومن هنا توقفت المساعدات العسكرية لمصر بقرار من الرئيس أوباما وفريقه للأمن القومي، وعاد بعضها -كما حدث في طائرات الأباتشي- عندما قرر البيت الأبيض -وليس وزارة الدفاع أو الكونغرس- معاودة تسليم بعض هذه المساعدات.
بين الثبات والتغيير
تبحث إدارة أوباما حاليا عن وزير دفاعها الرابع في ظل عالم مضطرب وشرق أوسط ملتهب. ومثله مثل سابقيه على شاكلة روبرت غيتس وليون بانيتا، يريد أوباما وزيرًا لا يتصادم مع فريقه للأمن القومي ولا يعارضه كقائد أعلى للقوات المسلحة الأميركية. يريد أوباما وزيرا يقدر أهمية ومركزية البيت الأبيض في تحديد إستراتيجية الدفاع الأميركية، ويقبل بدور محدود في صنع السياسة الخارجية.
إستراتيجية أوباما ستبقى كما هي ما لم تحدث تغييرات دراماتيكية داخل العراق وسوريا، سياسة احتواء وتدمير تنظيم داعش من خلال هجمات جوية على أهداف تخصه من ناحية، مع الاستمرار في تقديم المساعدة للحكومة العراقية تسليحا وتدريبا، بما في ذلك رفدها بنحو ثلاثة آلاف مستشار وخبير عسكري أميركي، ولكن كل ذلك قد لا يحسم المعركة ضد داعش في القريب العاجل.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه 54% من الشعب الأميركي أن الرئيس باراك أوباما فاشل، في مقابل 42% يرونه رئيسا ناجحا في القضايا الخارجية طبقا لاستطلاع رأي أجرته مؤخرا صحيفة واشنطن بوست بالتعاون مع محطة أي بي سي الإخبارية، يصبح آخر ما يتمناه أوباما أن يأتي بوزير دفاع يعمق من شعور الأميركيين بسوء إدارة أزمتي العراق وسوريا، ولا يوافقه الرأي على إستراتيجيته المهزوزة.
محمد المنشاوي: الجزيرة
http://goo.gl/VYRpQQ