ما واجهته إسرائيل -حكومة وجيشا وشعبا- طيلة الأسابيع الماضية، من بسالة فلسطينية منقطعة النظير، ضمن الهبة الكفاحية المدوية التي تزداد سخونة يوما بعد يوم دفاعا عن الوطن والمقدسات، لم يسبق له مثيل منذ أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948م وحتى اليوم.
إسرائيل في أزمة
الدلالة الأكثر أهمية على حجم ومستوى الرعب الذي يخيم على المستويات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية في إسرائيل، ويلقي بظلاله القاتمة على المجتمع الإسرائيلي، تكمن في طبيعة التعتيم الإعلامي المفروض على مجريات الأحداث، وتم بموجبه حجب الكثير من الأحداث والوقائع الميدانية.
“المعطيات المؤكدة والشواهد الحية أكدت أن المدينة المقدسة تحولت إلى مدينة أشباح خالية من أي وجود أو تحرك إسرائيلي حقيقي، فلا حضور أو حركة أو وجود للمستوطنين الذين كانت تعجّ بهم شوارع القدس قبل أحداث الهبة الكفاحية”
فما أعلنته الدوائر الرسمية الإسرائيلية حول أعداد القتلى والجرحى الإسرائيليين وعدد العمليات الفلسطينية منذ بدء الموجة الجهادية والهبة الكفاحية الحالية، لا يرقى -بحال- إلى المعطيات الميدانية التي تم استقاؤها أساسا من قلب الشارع الإسرائيلي، ولا يتناسب -مطلقا- مع الشواهد الحية التي تم تسريبها والوصول إليها بعيدا عن وسائل الإعلام الإسرائيلية الخاضعة للحظر المعلوماتي والواقعة تحت مقص الرقيب العسكري الإسرائيلي على الدوام.
إن المعطيات المؤكدة والشواهد الحية التي تم تناقلها عبر الكثير من أهالي مدينة القدس وأبناء فلسطين المحتلة عام 1948 ومدينة الخليل وغيرها، أكدت- بما لا يدع مجالا للشك- أن المدينة المقدسة تحولت إلى مدينة أشباح خالية من أي وجود أو تحرك إسرائيلي حقيقي، فلا حضور أو حركة أو تواجد للمستوطنين الإسرائيليين الذين كانت تعجّ بهم شوارع القدس قبل أحداث الهبة الكفاحية، ولا ترى إلا دوريات شرطية وعسكرية متفرقة يسكنها الرعب ويلاحقها الفزع والذعر من كل جانب.
ولم يقتصر الأمر على المدينة المقدسة، وخصوصا شقّها الغربي حسب التقسيم الإسرائيلي العنصري، بل إن مدنا ومناطق إسرائيلية متعددة تعيش ذات الظروف التي تعيشها القدس، حتى إن فلسطينيي الداخل الذين يمرون أو يعملون داخل أو بجوار تلك المناطق استبدت بهم الدهشة وبلغت منهم الحيرة مبلغها، وهم يرون الشوارع الخالية تقريبا من المارة، وكأن إسرائيل تخوض حربا بكل معنى الكلمة.
ولعل أخطر الأدلة والشواهد على حجم ومستوى التعتيم الإعلامي المفروض إسرائيليا، ما تناقلته أوساط إسرائيلية نافذة على نطاق ضيق عن عمليات طعن فلسطينية يومية تتم التعمية عنها وحجبها وإخفاء تفاصيلها عن وسائل الإعلام بشكل كامل، وعن مشاهد مرعبة ترافق العمليات الفلسطينية ضد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين وداخل البيوت والمنازل في إسرائيل، بما يقطع -يقينا- بأن الهبة الجهادية الراهنة محفوفة بعناية الله وتأييده ونصرته وتوفيقه من الألف إلى الياء.
ولا ريب أن التقارير الصحفية والإعلامية التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية تباعا، والتي كان آخرها التقرير الذي نشرته صحيفة “هآرتس” العبرية قبل عدة أيام تحت عنوان “نار ملتهبة في الشوارع”، والذي تناول حال الشارع الإسرائيلي وحالة “الهستيريا” التي يعيشها بعد العمليات الفلسطينية، تعطي شيئا من الملامح والإشارات حول أجواء الرعب التي تخيم على إسرائيل في الوقت الراهن.
فوق ذلك، فإن استقراء ما بين سطور التصريحات والمواقف الإسرائيلية، وخصوصا تلك الصادرة عن الطبقتين: السياسية والأمنية العليا، وطبقة الحاخامات، يؤكد ثقل الهبة الكفاحية وشدة وطأتها على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على مواجهتها أو الحد منها رغم كل الإجراءات القمعية وأشكال المعالجات الأمنية التي تم اتخاذها.
لأجل ذلك، ليس غريبا أن يبكي نتنياهو دما في اجتماعات المجلس الوزاري الأمني المصغر، وأن تبدأ الحكومة الإسرائيلية الرضوخ والانكسار الذي بدأت أولى مراحله باستعدادها للتراجع عن مخططاتها بحق المسجد الأقصى المبارك مقابل وقف العمليات الفلسطينية.
فصائل متفرجة
لا ريب أن الملاحظة الأكثر بروزا في إطار متابعة الهبة الفلسطينية الراهنة، تكمن في غياب الدور الفصائلي عن المشهد الكفاحي الميداني، فحتى اللحظة لم يثبت انتماء أي مقاوم إلى أي فصيل فلسطيني ضمن مئات عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار التي تمت طيلة الأسابيع الأخيرة.
بل إن العديد من منفذي العمليات ظهروا في مشاركات وتغريدات مميزة على مواقع التواصل الاجتماعي ركزوا خلالها على إخلاص النية لله، وتعزيز القيم والمبادئ الوطنية العليا، وذهب بعضهم إلى نشر وصايا نادوا فيها بعدم رفع راية أي فصيل فلسطيني في جنازاتهم ومسيرات تشييعهم وبيوت عزائهم، مما يدل على الأثر السلبي الذي تركته الفصائل في الوعي الجمعي والوجدان الشعبي الفلسطيني طيلة المرحلة الماضية التي حفلت بالانقسام والويلات والصراعات والتناحرات الحزبية.
ومما يبدو، فقد اقتصر الدور الفصائلي الفلسطيني على محاولة ركوب موجة الهبة الكفاحية دون جدوى، وتحشيد الفعاليات الإعلامية التحريضية ضد الاحتلال، وتوظيف الشعارات السياسية لخدمة الهبة وأهدافها الوطنية.
وفي الواقع، فإن الهبة الحالية التي أطلقت عليها بعض الفصائل وصف “انتفاضة القدس” هي هبة وطنية ذات نسيج فريد ومتميز، ولم يسبق أن شابهتها هبة أو انتفاضة منذ أحداث النكبة عام 1948 وحتى اليوم.
وإن شئنا استحضار التاريخ، فإن الانتفاضة الأولى عام 1987 كانت انتفاضة ذات سمت شعبي واسع بواسطة الحجارة، وتطورت بعد عدة سنوات إلى الطعن واستخدام السلاح بين فترة وأخرى، دون أن يغيب عنها الطابع الشعبي الواسع، بينما كانت انتفاضة الأقصى عام 2000 انتفاضة فصائلية مسلحة بكل معنى الكلمة، ولا مكان للعمل الشعبي الجماهيري ضمن فعالياتها.
وكذا الأمر بالنسبة للهبات المحدودة المتفرقة التي كانت تندلع لفترة زمنية وجيزة، فقد تركت أثرا محدودا وغلب عليها الطابع العسكري أحيانا، والطابع الشعبي العام أحيانا أخرى.
غير أن الهبة الحالية تميزت بالإبداع الفلسطيني الفردي في مواجهة الاحتلال والمستوطنين، وغاب عنها تماما الدور الفصائلي المسلح، وضعفت فيها المشاركة الجماهيرية الواسعة، لكنها شكلت بمعطياتها وملابساتها وأحداثها ونتائجها وتداعياتها التي تتزايد باطراد يوما بعد يوم؛ الهبة الأكثر أثرا وخطورة في مواجهة الاحتلال ومشروعه الاستيطاني الإحلالي التهويدي العنصري على أرض فلسطين، والذي كان آخر المخططات المنبثقة عنه محاولة تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا تمهيدا لشطبه عن خارطة الوجود وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.
إن العبرة الأهم التي قدمتها الهبة الحالية للكلّ الفلسطيني على طبق من ذهب، أن الجهد الفلسطيني الفردي المبدع قادر -بإذن الله- عبر بوابة الطهر والإخلاص والصدق والعزيمة الوثابة؛ على إنجاز ما فشلت في تحقيقه الفصائل الفلسطينية المنقسمة المتصارعة، ذات التاريخ العريق والإمكانيات الواسعة والشعارات البراقة الكبرى، طيلة المراحل الماضية بأقل قدر ممكن من الخسائر الوطنية.
المطلوب فلسطينيا
قبل البحث في ماهية الخطوات المطلوبة من الكلّ الوطني الفلسطيني لدعم وإسناد وتعزيز الهبة الكفاحية الراهنة، ينبغي أن تتوقف القوى والفصائل الفلسطينية المختلفة عن أي محاولة لركوب موجة الأحداث، أو تجييرها لصالحها الحزبي، لأن إخراج الهبة عن سياقها الوطني الكفاحي المجرد إلى السياقات الحزبية الضارة، من شأنه أن يسيء إلى فعلها وجهدها الكفاحي المتميز، ويشوه طهرها ونقاءها الثوري.
تأسيسا على ذلك، فإن المهمة الأكثر أولوية وإلحاحا التي يتوجب أن يتداعى إليها الفلسطينيون جميعا، وفي مقدمتهم طرفا الانقسام الفلسطيني (فتح وحماس)، تكمن في طيّ صفحة الانقسام الفلسطيني إلى الأبد، والتحلل من كل العلائق والروابط والعوائق التي تحول دون إتمام المصالحة الوطنية والتوافق الفلسطيني الداخلي على وجهه الأكمل، ومراجعة مسار العلاقة مع الجماهير الفلسطينية بما يعزز صمودها ويعيد إليها دورها ومكانتها الوطنية والمعنوية في إطار مسيرة التحرر الوطني ضد الاحتلال.
هذا فضلا عن التوافق على إستراتيجية وطنية موحدة لإدارة الصراع مع الاحتلال من جهة، وترتيب شؤون البيت الفلسطيني الداخلي سياسيا واجتماعيا وإداريا من جهة أخرى، خصوصا بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، والذي تعهد فيه بمراجعة الاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية مع الاحتلال.
على خط مواز، ينبغي على مختلف القوى والفصائل الفلسطينية أن تتلاحم مع القاعدة الشعبية والجماهيرية بكل معنى الكلمة، وتوفر لها عوامل الصمود البعيدة المدى ماديا واقتصاديا واجتماعيا ومعنويا، وتبتعد عن أي شكل من أشكال التمييز الحزبي ضمن المرحلة القادمة، وأن تنفض من مخيلتها أي توجه أو فكرة لعسكرة الهبة الكفاحية وتغيير طابعها الراهن، وأن تنأى بجبهة قطاع غزة عن يد البطش الإسرائيلي عبر مراعاة جانب الحكمة والتعقل والامتناع الكلي عن المشاركة العسكرية، دون أن يعني ذلك إبعاد غزة وأهلها عن دوائر المشاركة الوطنية الفاعلة لدعم الهبة الكفاحية وإسناد الشعب الفلسطيني المقدام في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل، سياسيا وإعلاميا وماليا، وفق رؤية وطنية قائمة على حسن التنسيق والتوافق الوطني.
فوق ذلك، يجب أن يتكاتف الفلسطينيون جميعا لإفشال المخططات الخارجية التي تستهدف إجهاض الهبة الكفاحية، والعمل على حمايتها مهما كلف ذلك من ثمن، وعدم التعاطي مع أي جهد إقليمي أو دولي يبغي إنقاذ إسرائيل من أزمتها الراهنة ونقل الأزمة -بالتالي- إلى المجتمع الفلسطيني.
ولن يتأتى ذلك إلا بتحصين الجبهة الفلسطينية الداخلية أولا، ومن ثم الانطلاق خارجيا إلى الفضاء العربي والإسلامي، وقصد كل الدول الصديقة والمساندة للفلسطينيين وقضيتهم العادلة، من أجل تشكيل لوبي قوي يتولى الدفاع عن الحق الفلسطيني في المحافل والمنتديات الدولية، والتصدي لكل المحاولات الرامية إلى تطويع الشعب الفلسطيني وقهر كفاحه الوطني وحمله على الاستسلام للمشروع الصهيوني.
ختاما.. فإن الهبة الكفاحية الراهنة التي أذلت ناصية الاحتلال وأهله، وأعادت الاعتبار إلى الدور الشعبي الفلسطيني المهدر فصائليا، وإلى القضية الفلسطينية حيويتها ومكانتها إقليميا ودوليا، سيكون لها ما بعدها، آثارا ونتائج وتداعيات، وستتمخض عن واقع جديد يؤسس لمرحلة جديدة ذات أثر فاعل ومقرّر، ضمن مسلسل الصراع مع الاحتلال خلال المرحلة المقبلة.
مؤمن بسيسو
نقلا عن الجزيرة نت