على مدى عقدين من الزمن، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موضع إعجاب وخوف على حد سواء باعتباره استراتيجياً ذكياً ورجلاً قوياً رسخ حكمه في الداخل وعزز المصالح الروسية في الخارج بإصرار، سواء قمع المعارضة المحلية أو ضم شبه جزيرة القرم، ظهر بوتين كزعيم صارم وعنيد. ومن الممكن أن تشوه وسائل الإعلام الغربية صورته باعتباره مستبداً بلطجياً، لكن عديد من السياسيين الغربيين اعترفوا أيضاً باحترامهم لقدرته على القيادة.
وعلى الرغم من ذلك، أدى غزوه لأوكرانيا في فبراير (شباط) إلى تراجع هذه السمعة. في الواقع، افترض بوتين أنه سيحقق نصراً سريعاً، لكن قواته تعثرت بشكل سيئ. وكان للحرب تداعيات مروعة على روسيا، إذ دمرت اقتصادها ومكانتها في العالم. كذلك، حفزت الحرب أيضاً تحالفاً مناهضاً لروسيا، بينما لم تكسب سوى قليل من الدعم فازت للكرملين، بالتالي حول بوتين روسيا إلى دولة منبوذة من دون تحقيق أي من أهداف غزوه.
لماذا يرتكب هذا القائد القوي مثل ذلك الخطأ الفادح؟ تكمن الإجابة في طبيعة القوة نفسها. غالباً ما يضع القادة الذين يحتلون مناصب ذات نفوذ هائلة غمامة على أعينهم تجعلهم يرتكبون أخطاء جسيمة. يمكن للقوة أن تكون مضللة لدرجة تمنع فيها الأقوياء من تقييم عواقب أفعالهم بصورة كاملة.
لقد أظهر هجوم بوتين على أوكرانيا عدداً من المآزق [العثرات] المتعلقة بالنفوذ. غالباً ما يتخيل الأقوياء أنهم فوق القواعد، وقد سعى بوتين إلى إعفاء نفسه من القانون الدولي، حتى عندما استخدم لغة قانونية لتبرير أفعاله. ولكن، بانتهاكه القانون الدولي، قوض بوتين الأمن الروسي. في الحقيقة، يعتقد القادة غالباً أنهم أقوى مما هم عليه فعلاً، في حالة بوتين، أخطأ في الحكم على البراعة القتالية الحقيقية لجيشه، وأغرق بلاده في حرب استنزاف أكد له بعض المخططين الروس أنها ستكون أمراً سهلاً. واستطراداً، قد ينبع هذا الفشل جزئياً من مأزق آخر يقع فيه الأقوياء، وهو عدم الرغبة في طلب المشورة وتقبل النقد. لم يتشاور بوتين مع حكومته أو مع جيران روسيا وشركائها في التخطيط للحرب وتبعاتها، وقد أثرت تداعيات هذا الخطأ على روسيا بشدة.
في المقابل، لا تعتبر أخطاء بوتين استثنائية وحكراً عليه، كما أنها ليست مجرد نتائج مترتبة على العادات السيئة لدى الديكتاتوريين، إذ إن زعماء جميع الدول القوية أيضاً، بما في ذلك الديمقراطيات الكبرى، أعمتهم السلطة واتخذوا قرارات غير حكيمة. إذاً، يجب أن تذكر صراعات بوتين في أوكرانيا جميع صانعي السياسة بمخاطر النفوذ وكيف يمكن للحكومات أن ترتكب أخطاء فادحة عندما تكون مفتونة بقوتها.
فوق القانون
غالباً ما يقنع النفوذ أصحابه بأنهم استثنائيون، وأن القواعد لا تنطبق عليهم. انتهك غزو بوتين لأوكرانيا في فبراير (شباط) القانون المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر أي استخدام للقوة ضد وحدة الأراضي أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى. وأصر الرئيس الروسي مرات مختلفة على أن التوغل كان ضربة استباقية ضد هجوم أوكراني، ودفاعاً مقدساً عن روسيا الوطن الأم، واستمراراً للقتال السوفياتي ضد النازية. وبالطبع تعتبر تلك التسويغات جوفاء، إذ إن ادعاءات بوتين بأنه يرد على الهجمات المزعومة من قبل القوات الأوكرانية في جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، على المعابر الحدودية وعلى الأراضي الروسية، ليست مقنعة لأي شخص خارج روسيا. والأكثر زيفاً وأنانية هي تأكيداته أن أوكرانيا ترتكب إبادة جماعية في دونباس وأن حكومتها مليئة بالنازيين الجدد، بيد أن مثل تلك الحجج الوهمية، أو الساخرة، لتبرير انتهاك القانون الدولي ليست حكراً على المستبدين فحسب. من المغري الاعتقاد أن الديمقراطيات لديها تدابير حماية مدمجة تمنع صانعي السياسات من ارتكاب انتهاكات صارخة لأهم المعايير القانونية الدولية التأسيسية، لكن الواقع مختلف. في عام 2003، غزت القوات الأميركية والبريطانية العراق. وسعى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير إلى إضفاء الشرعية على الغزو من خلال التذرع بالقانون الدولي، فأشارا إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1990 الذي سمح باستخدام القوة ضد العراق بعد غزو الكويت، وجادلا أن عدم امتثال العراق لعمليات التفتيش على الأسلحة يعد “خرقاً جوهرياً” لوقف إطلاق النار المتفق عليه منذ أكثر من عقد، لذلك أكدا أن للولايات المتحدة والمملكة المتحدة الحق في تعليق وقف إطلاق النار ومواصلة الأعمال العدائية ضد العراق بموجب القرار الأصلي الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 1990. كذلك، أكدت الولايات المتحدة على حق الدفاع الاستباقي عن النفس في هجومها على العراق. لم يؤيد بيتر غولدسميث، المدعي العام البريطاني في ذلك الوقت، تلك المزاعم كأساس للحرب، لكن الموقف البريطاني، كما عبر عنه المدعي العام اللاحق، جيريمي رايت، في عام 2017، اقترب من الموقف الأميركي. وقد ظل المحامون الدوليون متشككين في أن تلك التبريرات كانت أكثر بكثير من مجرد واجهة زائفة [إجراء شكلي]، وهي وجهة نظر كررتها نتائج تحقيق تشيلكوت في عام 2016 الذي أجرته الحكومة البريطانية حول دور البلاد في الحرب.
في الواقع، تمثل حرب العراق معضلة، إذ إن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهما دولتان بذلتا مجهوداً كبيراً لإنشاء نظام دولي قائم على القواعد، انتهكتا قواعد ذلك النظام وقوضتاه. لماذا؟ يقدم علم النفس إجابة واحدة. غالباً ما يخرق الأقوياء القواعد التي وضعوها والتي يستفيدون منها لأنهم يعتقدون أنهم يستطيعون ذلك. ووجد علماء النفس أن الأثرياء هم أكثر ميلاً إلى الكذب والغش عندما يراهنون على شيء أو يتفاوضون، وإلى تغيير مسارات سياراتهم فجأةً والانتقال أمام السائقين الآخرين عند القيادة، وإلى تأييد السلوك غير الأخلاقي في مكان العمل. ليس الأمر أن الأغنياء يعارضون وجود القواعد، فهي تحمي ممتلكاتهم، وتمكنهم من المقامرة، وتجعل القيادة أقل خطورة بالنسبة إليهم. في الواقع، من المحتمل أن تكون القواعد أكثر منفعة لهم من الآخرين، بما أن لديهم ممتلكات أكثر تحتاج إلى الحماية، ومزيداً من الأنشطة الترفيهية التي يمكنهم الاستمتاع بها، واهتماماً أكبر في الحفاظ على الوضع الراهن، بيد أن مكانة الأثرياء يمكن أن تدفعهم إلى الاعتقاد أن احتياجاتهم ورغباتهم أكثر أهمية من أي قواعد، لدرجة أنهم يعفون أنفسهم من الامتثال للقواعد تماماً.
يمكن للنفوذ أن يقنع أصحابه بأن القواعد لا تنطبق عليهم.
توجد ظاهرة مماثلة في العلاقات الدولية. غالباً ما يميل قادة الدول القوية إلى كسر القواعد، على الرغم من أنهم مبتكروها ومنفذوها والمستفيدون منها. بالطبع، تتخذ القواعد الدولية أشكالاً متعددة، من الاتفاقيات التجارية إلى تحديد حقوق صيد الأسماك، وليست كلها متساوية. ويناقش المحامون الدوليون بحنكة شديدة لماذا تلتزم الدول بالقانون الدولي، في ذلك السياق، يشير النفعيون إلى الدور المؤثر للمصالح المباشرة، بينما يذكر الكانطيون ثقل الالتزامات الأدبية والأخلاقية المشتركة. ويلفت أتباع الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بينثام إلى الحوافز التي خلقتها العملية الجماعية لبناء القانون الدولي. في منحى مقابل يصر الواقعيون، من الكاتب الإيطالي نيكولو مكيافيلي في عصر النهضة إلى صانعي السياسة الأميركيين مثل جورج كينان وهنري كيسنجر في حقبة الحرب الباردة، على أن بعض القواعد يمكن ويجب انتهاكها عندما يكون من مصلحة الدولة القيام بذلك، لكن بعض القواعد يفرض شرعية معينة وقوة معينة تجعلان انتهاكها أكثر تكلفة من انتهاك القواعد الأخرى. ويعتبر ميثاق الأمم المتحدة قاعدة من هذا النوع، صادرة عن صك من صكوك القانون الدولي المصادق عليه من قبل 193 دولة والذي ينظم أبسط المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية.
إن هذا النظام القانوني يعين الأقوياء من خلال منحهم مسؤوليات خاصة للحفاظ عليه. في الواقع، يقع تنفيذ ميثاق الأمم المتحدة في أيدي مجلس الأمن التابع لها، وبشكل أكثر تحديداً، الأعضاء الخمسة الدائمين فيها، الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، التي يتطلب القيام بأي إجراء تنفيذي موافقتها بالإجماع. وفي حين أن الدول الأضعف التي تنتهك ميثاق الأمم المتحدة قد تعاقب من قبل مجلس الأمن، يمكن للأعضاء الدائمين استخدام حق النقض ضد أي إجراء تنفيذي يتخذه مجلس الأمن ضدهم. وفعلياً، يمكنهم التصرف من دون رادع أو عقاب، أو هكذا يعتقدون.
في الحقيقة، لا تزال القوى العظمى تدفع تكاليف خرق تلك القوانين، حتى لو اعتقدت أنها محمية من التداعيات. وفي ذلك الإطار، فالتكلفة الأكثر وضوحاً التي تترتب على مخالفة ميثاق الأمم المتحدة، هي أن ذلك يشير إلى الدول الأخرى بأنه لا يمكن الوثوق بالمخالف من ناحية الالتزام بالقانون الدولي الأساسي. يمكن أن ينتشر الخوف من أن الدول الأخرى ستفعل الشيء نفسه، ما يضعف تصميم جميع البلدان على الامتثال للقواعد. في الحقيقة، يبني ميثاق الأمم المتحدة مجتمعاً دولياً تنتمي إليه الدول ويمكن أن تصوغ فيه بعض التوقعات الأساسية حول سلوك الآخرين. إذا خالف الأعضاء الأقوى القواعد التي أنشأوها، سينتهي بهم المطاف إلى تقويض وجود هذا النظام الاجتماعي وتهديده بشكل جوهري.
فلنأخذ بعين الاعتبار الجارتين المتنافستين الأرجنتين والبرازيل، التي تمتلك كل منهما قدرات نووية يمكن تحويلها إلى أسلحة. إذا حصلت واحدة منهما على أسلحة نووية أو طورتها، فمن المحتمل أن تحذو الأخرى حذوها. وبدلاً من ذلك، هما تعتمدان على قواعد عدم الانتشار وكل منهما يرصد بعناية امتثال الآخر من خلال الوكالة البرازيلية الأرجنتينية للمحاسبة والرقابة على المواد
النووية (Brazilian-Argentine Agency for Accounting and Control of Nuclear Materials)إذا تبنى الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو تأييد نجله المعلن للأسلحة النووية، فسيغير ذلك حسابات الأرجنتين، ويضعف القيود السلوكية التي تشجعها القواعد. والجدير بالذكر أن انتهاك مثل تلك القوانين يدخل نوعاً ماكراً من الفوضى في العلاقات الدولية، هذا هو السبب في أن تحقيق تشيلكوت وجد أن الإجراءات الأميركية والبريطانية في عام 2003 قوضت بشكل خطير صلاحيات الأمم المتحدة.
أدى خرق بوتين للقواعد خلال غزوه لأوكرانيا إلى الارتداد عليه بالفعل، ما أضر بروسيا. ولطالما اتهم الولايات المتحدة بتهديد الأمن الروسي من خلال دعم توسع الناتو نحو حدود روسيا، ولكن حتى شهر مايو (أيار)، لم تدخل في الناتو سوى خمس دول لا غير من الدول الـ14 المتاخمة لروسيا، بيد أن تصرفات بوتين غيرت تلك الأرقام، إذ تقدمت فنلندا والسويد الآن بطلب للانضمام إلى الناتو، ما بدل اتجاه سياسات الحياد المتبعة منذ أمد بعيد. إذاً، لقد أضر غزو بوتين بالأمن الروسي من خلال خرق القواعد التي كان حياد فنلندا والسويد مبنياً عليها لفترة طويلة.
يلعب القانون الدولي دوراً مهماً بنفس القدر داخل الحكومات، إذ يوفر التوجيه وحواجز الأمان للمسؤولين الذين يعملون غالباً في ظروف الضغط العالي وعدم اليقين. وهو يزيل الغموض، ويخلق القدرة على التنبؤ داخل الحكومات وفي ما بينها. ويؤدي تعطيل تلك القدرة على التنبؤ إلى المخاطرة بتفكيك نظام الحكومة وانضباطها. عندما أشار وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) إلى أن الولايات المتحدة قد لا تمتثل لقيود اتفاقيات جنيف، أقحم حكومته وقواته المسلحة (التي كانت في وضع صعب أصلاً) في فوضى قانونية. وقد سمحت هذه المنطقة الرمادية بانتهاكات فظيعة، مثل تلك التي ارتكبتها القوات الأميركية في سجن أبو غريب في العراق، وألحقت أضراراً كبيرة بمكانة الولايات المتحدة في العالم. اقترحت الحكومة البريطانية قانوناً في عام 2022 لا يمتثل لاتفاقية الانسحاب التي وقعتها مع الاتحاد الأوروبي في عام 2019، وهي خطوة أصابت مسؤوليها بالشلل، فما عادوا يعرفون المعايير التي يعملون ضمنها.
إذاً، غزا بوتين أوكرانيا وهو يعلم أن الأمم المتحدة لا تستطيع فعل الكثير لمعاقبته بسبب انتهاك ميثاقها. أحياناً قد يميل قادة أقوى دول العالم إلى مخالفة القوانين الدولية لأنهم يستطيعون ذلك، لكنهم يفشلون في رؤية التكاليف الحقيقية التي تتكبدها علاقاتهم الدولية وحكوماتهم.
حماقة القوة
يمكن للنفوذ أيضاً إقناع القادة بأنهم أقوياء للغاية لدرجة أنه لا يمكن تقييدهم بأي قواعد. وتشير التحركات العسكرية الأولى لبوتين في أوكرانيا إلى أنه كان يعتمد على نصر سريع. في الحقيقة، هو يقود واحد من أكبر الجيوش في العالم، مع ما يقرب من مليوني جندي وقوات احتياط وأكبر ترسانة من الأسلحة النووية. كذلك، يتمتع الجيش الروسي بالخبرة، إذ جرى تسخيره في السنوات الأخيرة في التدخل في شبه جزيرة القرم، وفي عمليات سرية في شرق أوكرانيا، وفي دعم نظام بشار الأسد في سوريا. علاوة على ذلك، أدت عملية التحديث العسكري “نيو لوك” New Look [أي المظهر الجديد] التي أطلقها بوتين في عام 2008، وبرنامج إعادة التسلح، الذي بدأ في عام 2011، إلى اعتقاده بأنه قد حسن بشكل كبير القوات البرية والبحرية والجوية الروسية، ولكن في الواقع، كانت تلك البرامج غارقة في الفساد وعدم الكفاءة.
يمكن لقادة القوى العظمى أن يستمتعوا بقوة جيشهم المتزايدة. ويمكنهم قياس قوتهم من ناحية عدد حاملات الطائرات، والغواصات الهجومية، والطائرات المتقدمة، والعربات المدرعة، والفرق ذات الخبرة التابعة للقوات الموجودة تحت تصرفهم، ونطاق قدراتهم الاستخباراتية والإلكترونية. يتخيلون أنه يمكنهم بسهولة استعراض عضلاتهم للسيطرة على الموقف وتحديد نتيجة الصراع.
يمكن لقادة القوى العظمى أن يستمتعوا بجبروت جيوشهم.
لكن مراراً وتكراراً، يكتشف قادة القوى العظمىأنهم يحلمون. تعرضت القوى الاستعمارية الأوروبية، ذات التفوق الساحق في القدرات العسكرية، للهزيمة على يد القوات القومية في أعقاب الحرب العالمية الثانية: طرد الهولنديون من إندونيسيا عام 1949، والفرنسيون من الهند الصينية على يد القوميين الفيتناميين عام 1954 ومن الجزائر على يد القوميين الجزائريين عام 1962. وحاول الأميركيون في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أن ينتصروا في فيتنام. كذلك، حارب السوفيات ودفعوا دماء من 1979 إلى 1989 من دون جدوى في أفغانستان، حيث فعل الأميركيون الشيء نفسه بعد 11 سبتمبر (أيلول). في عام 2003، أطاحت الولايات المتحدة بسرعة صدام حسين في العراق، لكن سرعان ما تحولت الحرب إلى احتلال مشؤوم. وحاضراً، يتعلم بوتين درساً مشابهاً. انتقل الروس إلى أوكرانيا في فبراير (شباط)، على افتراض أنهم سيستولون على كييف في غضون أيام. وبدلاً من ذلك، وجهت القوات الأوكرانية تذكيراً مذلاً لبوتين بأن جيشه ليس بنفس الفاعلية التي كان يعتقدها.
أشار روبرت ماكنمارا، وزير دفاع الولايات المتحدة السابق، في كتابه الصادر عام 1995 بعنوان “إذا أعدنا النظر: المأساة ودروس فيتنام” (In Retrospect: The Tragedy and Lessons of Vietnam)، إلى أن القوى العظمى تفشل في رؤية القيود التي لا مفر منها المفروضة على جيوشها المتطورة والحديثة للغاية، عند مواجهة حركات التمرد غير التقليدية التي تقودها مجموعات شعبية ومتحمسة جداً. ووفق ما اكتشفه مكنمارا أثناء إدارته للبنتاغون، كان الفيتناميون الشماليون والفيت كونغ قادرين على صد القوات الأميركية الأكثر قوة. وخلص لاحقاً إلى أن واشنطن قد قللت من شأن قوة القومية في تحفيز الناس على القتال والموت من أجل معتقداتهم وقيمهم وأرضهم. وقد استهانت بانهيار الروح المعنوية بين قواتها التي كانت لا تملك مثل ذلك الاندفاع. وقد واجه بوتين نفس الديناميكية في غزوه الفاشل لأوكرانيا.
الحقيقة هي أن القوة العسكرية أفضل في تحقيق الأهداف السلبية منها في تحقيق الأهداف الإيجابية. يمكن للقوة أن تكون فعالة في وقف عمل ما، مثل قيام دولة ما بغزو أو تهديد أحد الجيران، كما حدث عندما طردت الولايات المتحدة وحلفاؤها القوات العراقية بسرعة من الكويت، بيد أن القوة العسكرية ليست جيدة جداً في إجبار الجهات الفاعلة على ارتكاب أمور محددة. يتطلب تحقيق ذلك وجوداً طويل الأمد ونطاقاً أوسع وأكثر دقة من القدرات. على الرغم من أن التدخل العسكري يمكن أن يزيل نظاماً ما، إلا أنه لا يمكن بالضرورة أن يضمن بديلاً مستقراً. ووفق ما اكتشفته الولايات المتحدة وحلفاؤها في أفغانستان عام 2001، وفي العراق عام 2003، وفي ليبيا عام 2011، كان إسقاط النظام القديم هو الجزء السهل، أما الجزء الأصعب بكثير فكان بناء نظام جديد. في أوكرانيا، كان بوتين مقتنعاً بأن جبروت الجيش الروسي سيسمح له بتحقيق أهدافه السياسية من خلال الغزو. بعد التفكير في الأمر، تبدو تلك القناعة مضللة بشكل رهيب.
وحيد في القمة
مثلما يمكن للقوة أن تجعل القادة يعتقدون أنهم أقوى مما هم عليه في الواقع، كذلك يمكن أن تعزلهم وتشجعهم على عدم الاستماع إلى الآخرين. أثناء التحضير لمهاجمة أوكرانيا، بدا أن بوتين رفض التشاور بأي طريقة ذات مغزى مع مرؤوسيه، بمن في ذلك رئيس جهاز الاستخبارات الروسية الخارجية، سيرغي ناريشكين، الذي أهانه بوتين على التلفزيون الوطني قبل أيام قليلة من الغزو. كشف ذلك المشهد كم من الصعب أن ينتقد أحد ما خطط بوتين ويبقى محافظاً على تأثيره في دائرته المقربة. عندما بدأ الغزو يسير على نحو خاطئ، ذكرت صحيفة “ذا تايمز” اللندنية أن بوتين أقال ثمانية جنرالات روس وطرد 150 ضابطاً من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وكالة الأمن الرئيسة في البلاد، كما أنه سجن رئيسها السابق. بحلول منتصف مارس (آذار)، كانت وسائل الإعلام الأوكرانية تزعم أنه طرد أيضاً رومان غافريلوف، نائب رئيس الحرس الوطني الروسي، واحتجزه. إذاً، فقد عزل بوتين نفسه عن المعلومات الدقيقة وبدلاً من ذلك أحاط نفسه بأشخاص يقولون له ما يريد أن يسمعه.
قد تبدو عزلة بوتين عن مساعديه منافية للعقل، بيد أن الطاولة الفائقة الطول التي يجلس عليها في كثير من الأحيان من أجل عقد اجتماعات، تسلط الضوء على بعده عن الآخرين. وازدراؤه لمساعديه واضح، لكن القادة الديمقراطيين يمكن أن يكونوا متهمين أيضاً بمثل هذا السلوك. لقد تجاهل رؤساء أكثر الديمقراطيات رسوخاً في العالم حكوماتهم في بعض الأحيان أو حتى أذلوها. في مقال نشر عام 2019 في صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times)، وصف جيمس كومي، المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي، بشكل مخيف كيف استمال الرئيس الأميركي دونالد ترمب زملاء كومي إلى تشكيل دائرة توافق بصمت على ما يقوله. وبحسب ما جاء على لسان كومي، “السيد ترمب يأكل روحك في قضمات صغيرة. يبدأ الأمر بجلوسك صامتاً بينما يكذب، جهراً أو سراً، ما يجعلك متواطئاً من خلال صمتك”. بطريقة أكثر دهاء بكثير، تجنب رئيس الوزراء بلير، قبل حرب العراق، اجتماعات مجلس الوزراء الرسمية، وأقام عوضاً عن ذلك محادثات فردية غير رسمية مع كل وزير في الحكومة. من دون أوراق متداولة كما ينبغي واجتماعات جماعية رسمية، كان من الصعب على الوزراء طرح وجهات نظر أجزاء مختلفة من الحكومة أو تحدي وجهة نظر رئيس الوزراء. بالتالي، قلص هذا الطابع غير الرسمي نطاق الحكم السياسي الجماعي المستنير، وفق نتائج تقرير باتلر عام 2004، وهو تحقيق حكومي حول المعلومات الاستخباراتية وراء مزاعم امتلاك صدام لأسلحة دمار شامل. وكانت النتيجة قراراً غير حكيم بخوض الحرب.
إذاً، يرتكب الأقوياء خطأً فادحاً برفضهم تأييد الآراء المخالفة. على الأرجح لم يكن بوتين مستعداً لردود الفعل المختلفة التي قد يتسبب فيها غزوه. بعد فترة وجيزة من دخول قواته إلى أوكرانيا، تعرضت روسيا لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة. في الحقيقة، فاجأت شدة العقوبات وسرعة تطبيقها الكثيرين، وكذلك الانسحاب السريع للشركات الغربية من روسيا. وانهار الروبل، وأغلقت البورصة الروسية، وبدأ الروس في الاصطفاف عند ماكينات الصرف الآلي لسحب الدولار الأميركي من حساباتهم المصرفية. ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الروسي بنسبة 11 في المئة على الأقل هذا العام. واستكمالاً، تعزل العقوبات روسيا بشكل متزايد، وتحرمها من الواردات التي تحتاج إليها لكي يعمل اقتصادها، بما في ذلك الرقائق الإلكترونية وغيرها من السلع العالية التقنية اللازمة لإنتاج أسلحة متطورة، وحتى أزرار القميص.
ولم تصدر بيانات دعم سوى من عدد قليل من القادة، الذين تعتمد بلدانهم اعتماداً كبيراً على روسيا. ومن بين هؤلاء، جنرالات ميانمار الذين يعتمدون على موسكو كمورد للأسلحة، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي ذكر تطويق روسيا المزعوم من قبل قوات معادية، ورئيس نيكاراغوا دانيال أورتيغا، الذي أيد حق بوتين في الاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين اللتين تدعمهما موسكو في أوكرانيا، بيد أن مثل هذا الدعم بالكاد يشكل تصويتاً مفيداً بمنح الثقة.
في الواقع، بدا أن أهم أصدقاء روسيا فوجئوا بالغزو. أقرت الصين في البداية أهمية المخاوف الأمنية الروسية، لكن الرئيس الصيني شي جينبينغ قال لاحقاً إنه “يتألم لرؤية ألسنة الحرب تشتعل في أوروبا”. بطريقة موازية، امتنعت الهند عن التصويت لإدانة روسيا في الأمم المتحدة، لكن الحكومة الهندية أصدرت لاحقاً بيانات أكثر حدة وانتقاداً تدعم مبدأ السيادة الوطنية. أما صربيا، التي عادة ما تكون قريبة من روسيا، فصوتت لصالح إدانة الغزو في الأمم المتحدة. في المقابل، وصفت إسرائيل، وهي شريك روسي آخر، الخطوة الروسية بأنها “انتهاك خطير للنظام الدولي”. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن العمليات العسكرية لموسكو تعتبر “ضربة قوية” للسلام والاستقرار الإقليميين. كذلك رفض قادة كازاخستان، وقرغيزستان، وطاجكستان، وأوزبكستان، دول ما بعد الاتحاد السوفياتي التي يتخيل بوتين أنها في فلك روسيا، أن يدعموا التدخل الروسي. ربما اعتقد بوتين أنه ليس بحاجة إلى جمع حلفائه لدعم غزوه. فبعد كل شيء، أفلت بشكل أساسي من دون عقاب بضمه شبه جزيرة القرم في عام 2014، ولكن مع تأثير العقوبات، وشعور الكرملين بأنه محاصر بشكل متزايد، سارع بوتين للعثور على الدعم.
لا شك في أن بوتين قد استخف بالدرجة التي قد يستاء فيها العالم بسبب غزوه دولةً أخرى ذات سيادة، لكن الولايات المتحدة وحلفاءها الذين يرغبون في معاقبته سيكونون مخطئين في افتراضهم أن الدول الأخرى ستصطف وراءهم ببساطة، إذ إن نظام عقوبات فعال سيتطلب دبلوماسية مستمرة ومفاوضات وتسوية مع مجموعة واسعة من البلدان، وسوف يحتاج إلى أن يكون قائماً على المصالح المشتركة. في الواقع، تتشاطر الدول بمعظمها الاهتمام في دعم سيادة أوكرانيا، لكنها، وفق ما عبر عنه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في أواخر أبريل (نيسان)، تتردد في تحقيق الهدف المتمثل بإضعاف روسيا. إن احتمال قيام تحالف لإضعاف دولة أخرى ذات سيادة يملأ البعض بالخوف من أن يكونوا التالين. لذلك، سيتطلب تنفيذ تعاون دولي أوسع، شموليةً وتركيزاً أشد على العمل في المجالات التي يوجد اتفاق واسع بشأنها.
تعزل السلطة القادة وتشجعهم على عدم الاستماع إلى الآخرين.
في البداية، فرضت العقوبات على روسيا من قبل تحالف الراغبين، الذي يتألف بشكل أساسي من الدول الغربية، لكن عديد من البلدان، بما في ذلك بعض الديمقراطيات، لم يصطفوا على الفور وراء التحالف. في مارس (آذار)، صوتت 141 دولة لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين الغزو الروسي. وعلى الرغم من أن خمس دول لا غير صوتت ضده، امتنعت 35 دولة عن التصويت. بعد أسبوعين فحسب من قمة عقدت بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، أظهر فيها الأوروبيون استعدادهم للاستثمار في القارة ومساعدتها، تبين بشكل ملحوظ أن 18 دولة أفريقية كانت من بين الممتنعين عن التصويت. علناً، أعرب عدد منها عن شكوكه في شأن المبادئ التي تتذرع بها القوى الغربية. وبطريقة موازية، اتهم مسؤولون من جنوب أفريقيا الاتحاد الأوروبي بازدواجية المعايير، ودعوه إلى إدانة المعتدين في قضايا أخرى مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والحرب في اليمن. في المقابل، أشار معلقون أفارقة آخرون إلى أن الحروب في أفريقيا لا تحظى بنفس الاهتمام الذي تحظى به تلك الموجودة في أجزاء أخرى من العالم. عادةً ما تثير تلك النزاعات بيانات مثيرة للقلق وتستدعي إرسال مبعوثين خاصين، لكن من دون تغطية إعلامية شاملة، ولا تصريحات متلفزة ملتهبة من قادة عالميين، ولا عروض متحمسة للمساعدة.
وخلف الكلام المنمق، وضعت المصالح القوية على المحك. شهد العقدان الماضيان انخراط كل من الصين وروسيا بنشاط مع دول في أنحاء أفريقيا. وتفوقت الصين على الولايات المتحدة كأكبر مستثمر مباشر في العالم في أفريقيا. في منحى مقابل، تعد روسيا الآن مصدر نصف الأسلحة القادمة إلى أفريقيا، وهي تقدم بشكل متزايد المساعدة العسكرية والأمنية لجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وموزمبيق والسودان، بالتالي يشعر عدد من الدول النامية بالقلق من الانضمام إلى تحالف الراغبين الذي تقوده الولايات المتحدة ضد روسيا. وقد كان “تحالف البقية” أكثر وضوحاً في أبريل، عندما وجهت دعوة لعقد جلسة استثنائية طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان. في ذلك الإطار، لم تصوت سبع دول من مجموعة العشرين لصالح الولايات المتحدة. في المقابل، صوتت 24 دولة ضد القرار وامتنعت 58 أخرى عن التصويت، بما في ذلك البرازيل والهند والمكسيك والسعودية وجنوب أفريقيا، فيما صوتت عشر دول أفريقية فحسب لصالح الولايات المتحدة.
في الحقيقة، يملك “تحالف البقية” القدرة على إحباط الإجراءات الدولية الأخرى. على سبيل المثال، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صندوق النقد الدولي لطرد روسيا، لكن ذلك سيتطلب تصويتاً بنسبة 85 في المئة لصالح الطرد في صندوق النقد الدولي. ويشير إحصاء بسيط حول قوة تصويت الدول التي امتنعت عن الإدلاء بصوتها أو صوتت ضد طرد روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلى أنها قد تستخدم حق النقض ضد أي محاولة لطرد روسيا من صندوق النقد الدولي. والجدير بالذكر أن تلك الدول تحصل على نسبة 30 في المئة تقريباً من الأصوات في صندوق النقد الدولي، التي يتم توزيعها وفقاً لحجم اقتصاد الدولة.
تتحرك الولايات المتحدة ومجموعة السبع والاتحاد الأوروبي بسرعة لتوسيع عقوباتها الاقتصادية على روسيا، بيد أن محاولاتها لدفع قوى صاعدة أخرى للانضمام إليها كانت أقل نجاحاً. وتجدر الإشارة إلى أن نقطتها العمياء هي التقدير المبالغ فيه لمكانتها في العالم. لقد تشبثت لفترة طويلة بفكرة أن دول مجموعة السبع هي التي تضع القواعد وأن بقية الدول هي التي تلتزم بها، حتى مع تحول ميزان القوة الاقتصادية العالمية. في الواقع، تملك الدول من خارج مجموعة السبع الآن أفكاراً أخرى، ولديها سبب للشك في نوايا الدول القوية التي فشلت في كثير من الأحيان في الالتزام بالقواعد ذاتها التي وضعتها. إذاً، يجب على الولايات المتحدة وأعضاء مجموعة السبع الآخرين توخي الحذر من تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار، وأنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، خشية أن تتعامى عن مخاوف الدول الأخرى التي لا ترى العالم بنفس الطريقة.
الرؤية بوضوح
لكن تلك النقاط العمياء ليست حتمية، كما أن الديمقراطيات ليس محكوم عليها بها. يمكن لقادة الدول القوية حماية أنفسهم من مخاطر النفوذ والتأكد من أن النفعية القصيرة المدى لا تقف في طريق الصورة الكبيرة. في الحقيقة، إن خط الدفاع الأول لتجنب الوقوع في الخطأ يكمن في المجموعة المحيطة بالقائد. لدى كل من روسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مجلس وزراء يضم وزراء يختارهم رئيس الحكومة. على نحو مشابه، تملك الصين اللجنة الدائمة للمكتب السياسي (Politburo Standing Committee) من الناحية النظرية، تتحمل تلك الهيئات المسؤولية الجماعية عن القرارات التي تتخذها الحكومة، ولكن ينبغي أن يحدث ذلك من الناحية التطبيقية. خارج مجلس الوزراء، يجب أن تعمل المؤسسات الأخرى بشكل كامل. في الواقع، يلعب كل من المسؤولين الحكوميين والتكنوقراطيين والمحاكم والهيئات التشريعية ووسائل الإعلام والرأي العام دوراً في التأكد من أن القائد لا يعميه النفوذ.
في روسيا، تم إخضاع تلك المؤسسات الثانوية بشكل مطرد لسيطرة بوتين، ما أدى إلى إزالة القيود المفروضة على سلطته. وقد درس عالم الاقتصاد سيرغي غورييف والعالم السياسي دانيال تريسمان الطريقة التي يتحكم فيها بوتين بمواطنيه من خلال تشويه المعلومات والتظاهر بتطبيق الإجراءات الديمقراطية. إلى جانب أردوغان ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، يعد بوتين واحداً من سلالة جديدة من الرجال الأقوياء المخضرمين إعلامياً والذين يسميهم غورييف وتريسمان “طغاة التلفيق”. إذاً، تحتاج الحكومات إلى مؤسسات تحمي من السياسيين الذين يجدون أنه من الملائم تسييس القضاء، والتخويف، والتهديد، وفصل موظفي الخدمة المدنية والتكنوقراطيين بسبب قول الحقيقة. يحتاج القادة أنفسهم إلى تلك الضوابط والتوازنات حتى يخبرهم شخص ما عندما يكون الإمبراطور عارياً (أي يقول لهم الحقيقة كما هي).
يجب على شخص ما أن يخبر الإمبراطور عندما يكون عارياً.
تلعب العلاقات والمؤسسات الدولية أيضاً دوراً مهماً في منع زعيم قوي من ارتكاب خطأ في حساباته. كان من الممكن أن يكون الانسحاب الأميركي من أفغانستان في عام 2021 أفضل لو اختار بايدن العمل بشكل متعدد الأطراف، وليس انفرادياً. في ظل ضغط اللحظة وإلحاحها، فشلت الإدارة، التي أعمتها أهمية القرار، في التشاور والتنسيق مع الحلفاء. وعلى نحو مماثل، يتعين على القادة الغربيين التشاور مع شركاء روسيا التجاريين الرئيسين الآخرين وجيرانها من أجل تحضير رد على غزو بوتين.
لقد أصبح التعاون الدولي أكثر أهمية وأكثر صعوبة في الوقت نفسه: أكثر أهمية في موضوع الحد من الحرب ووقف تغير المناخ والتخفيف من العاصفة الهوجاء المتعلقة بالديون والمجاعة والتراجع الاقتصادي، التي تضرب الآن أفقر الناس في العالم وتلغي عقوداً من التقدم في مجال الصحة والتعليم والفرص، وأكثر صعوبة بسبب التوترات بين الصين والولايات المتحدة والانقسامات السياسية الدولية النابعة من الغزو الروسي لأوكرانيا. حتى وزراء مالية مجموعة العشرين وهيئة وضع السياسات في صندوق النقد الدولي، وهما منتديان يمكن الاعتماد عليهما في العادة لإصدار بيان متفق عليه (مهما كان مهدئاً) خلال لحظات التوتر العالمي، فشلوا في إيجاد هذا الإجماع في اجتماعاتهم في أبريل في واشنطن.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال بإمكان التعاون الدولي أن يوفر قيوداً حيوية على القادة الذين أعماهم النفوذ. في الواقع، إن رؤساء الدول القوية المقتنعين بتأثيرهم الذي لا جدال فيه على المسرح العالمي، غالباً ما يميلون إلى اتخاذ الطريق السريع والسهل والحاسم على ما يبدو لتحقيق أهدافهم، مهما كان متهوراً. في المقابل، يمكن للدبلوماسية والمناقشة المفتوحة مع البلدان الأخرى أن توفر معلومات ومنظوراً، وفي الواقع، رقابةً على تصرفات القائد. في هذا المنعطف المتقلب في السياسة العالمية، يجب على القادة الالتزام بنهج العودة إلى الأساسات الذي يركز على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة الأساسي، كما ينبغي عليهم تجنب أجندات التدخل الأوسع التي تفتقر إلى الدعم العالمي. وفي ذلك الإطار، سيسهم وضوح القانون الدولي في مساعدة أقوى الجهات الفاعلة حتى على الرؤية بوضوح.
اندبندت عربي