قلائل هم السياسيون اللبنانيون الذين لم يصنفوا كلام الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله التهديدي لإسرائيل بفتح مواجهة عسكرية معها، على أنه يأتي في سياق الصراع الإيراني – الأميركي. بعضهم ذهب أبعد فقال إن تصعيد نصر الله تجاه إسرائيل بذريعة انتزاع حقوق لبنان في استخراج النفط والغاز، في خطابه، 13 يوليو (تموز)، أقحم لبنان في تعقيدات الاصطفاف الدولي العميق بين روسيا ودول الغرب بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
لبنان والحرب الروسية
أبرز المواقف التي ربطت بين تصعيد “حزب الله” والمواجهة الأميركية – الروسية صدر في تغريدة رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، الذي اعتبر أن كلام نصر الله “وضع حداً لإمكانية التفكير بالوصول إلى تسوية حول الخط 23 لترسيم الحدود البحرية الذي يجري التفاوض على أساسه مع إسرائيل”. وأضاف، “لقد دخل لبنان في الحرب الروسية – الأوكرانية، لذا وتفادياً لاندلاعها فهل يمكن للسيد أن يحدد لنا ما هو المسموح وما هو الممنوع؟ ذلك أفضل من أن نضيع الوقت في التخمين واحتياطي المصرف المركزي يذوب في كل يوم”.
إذا كان جنبلاط على طريقته بالدمج بين الاتهام الواضح للحزب بأنه يأخذ البلد إلى حرب لا علاقة لها بموضوع ترسيم الحدود، وطرح الأسئلة حول سبل مواجهة التردي في الأوضاع الحياتية والخدمات الرئيسة التي يعاني اللبنانيون فقدانها، فإن معظم معارضي نصر الله من نواب في حزب “القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب” ومن المستقلين المنتمين إلى “السياديين” صوبوا على رفض حلول حزب الله مكان الدولة وإبداء استعداده لخوض الحرب مع إسرائيل باسم انتزاع حقوق لبنان في النفط والغاز بالبحر.
لكن القناعة الغالبة في الأوساط السياسية اللبنانية هي أن البلد بات واحداً من مسارح الرد السياسي على زيارة الرئيس الأميركي إلى المنطقة، من قبل التحالف الروسي مع إيران وسوريا، الذي سيتبلور في القمة الثلاثية الروسية التركية الإيرانية في طهران، 19 يوليو (تموز) الحالي. وليس صدفة الإعلان عن هذه القمة الأسبوع الماضي، إذ إنها تنعقد بعد ثلاثة أيام من انتهاء محادثات الرئيس الأميركي في جدة مع زعماء تسع دول خليجية وعربية، إثر زيارته لإسرائيل والضفة الغربية، التي تهدف إلى نقطتين رئيستين، الأولى ضمان تأمين بدائل للنفط والغاز الروسيين لأوروبا ورفع سقف إنتاجهما قدر الإمكان لخفض الأسعار التي ترهق الاقتصادات الغربية. والثانية توسيع التعاون الإقليمي في مواجهة إيران سواء للضغط عليها كي تخفض من شروطها لإنجاز الاتفاق النووي، أو للحد من تدخلاتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار، إضافة إلى قضايا إقليمية أخرى.
أنياب طهران في وجه بايدن
هدف بوتين من قمة طهران التي أعطى لها عنوان معالجة الخلافات بين موسكو وطهران من جهة وتركيا من جهة ثانية حيال اعتزام أنقرة شن عملية عسكرية في شمال سوريا، إبلاغ إدارة بايدن بأن له حضوراً شرق أوسطياً مقابلاً للتحالف الذي يسعى إلى نسجه في المنطقة في سياق تمتين موقعه بالصراع الدولي على أوكرانيا بالتالي على جزء من أوروبا. وتصعيد “حزب الله” بحجة حقوق لبنان النفطية والغازية في البحر ليس بعيداً من هذه الرسالة، كونه أكثر الأدوات قوة وأمانة لإيران التي تحتاج إلى الانحياز لموسكو في التموضع الدولي خصوصاً مع استمرار الضغوط الأميركية عليها.
حاجة إيران إلى إبراز أنيابها عبر الحزب أثناء زيارة بايدن وفي إطار الاصطفافات الدولية الجديدة بالمنطقة، ربطاً بالصراع الأميركي الروسي على أوكرانيا، اضطرت نصر الله في خطابه إلى أن يعود من دون رفة جفن عن مواقف سابقة اتخذها في شأن المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية غير المباشرة بوساطة أميركية، من أجل تبرير تصعيده الذي بدأه في 2 يوليو بإطلاق ثلاث مسيرات غير مسلحة فوق حقل “كاريش” للغاز والنفط الذي أنجزت إسرائيل حفر الآبار فيه وتتهيأ لاستخراج ما يحتويه في سبتمبر (أيلول) المقبل. وبدا “حزب الله” يتملص من مواقف سابقة كالآتي:
بعد أن ردد منذ سنوات أنه يقف خلف موقف الدولة والحكومة اللبنانية في مفاوضاتها حول ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وأنه بعيد من هذا التفاوض لأسباب عقائدية، قال في خطابه الأخير، رداً على انتقادات جميع القوى السياسية على انفراد الحزب بإرسال المسيرات وعلى بيان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بوحبيب الذي اعتبر هذا الأمر غير مقبول، “أنتم فهمانين غلط يا شباب. نحن لم نلتزم مع أحد، والآن لم نلتزم ونحن نتابع المجريات، ومن حقنا أن نقدم على أي خطوة في أي وقت نراه مناسباً وبالحجم المناسب وبالشكل المناسب، والضغط على العدو لمصلحة المفاوضات والمفاوض اللبناني”.
إن المفاوض اللبناني الأساسي مع الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، أي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وفق الدستور، حليف الحزب الأقرب في السلطة، كان وفريقه السياسي في كل مرة تصدر ملاحظات من قياديين من “حزب الله” حيال الوسيط الأميركي وحيال الاقتراحات الإسرائيلية المرفوضة من الجانب اللبناني، يسأل هؤلاء القياديين عما إذا كان لديهم اعتراض على استئناف التفاوض، فكان الفريق الرئاسي يتلقى على الدوام جواباً إيجابياً لمصلحة استمرار التفاوض. وهو الجواب نفسه الذي سمعه أحد المسؤولين اللبنانيين حين قال، “إذا كنتم ترفضون التفاوض يمكن إيقافه”.
القرار للحزب لا للسلطة
إن نصر الله تعاطى باستخفاف مع السلطة السياسية نظراً إلى أولوية مقتضيات الانحياز من قبله لموقف طهران في المواجهة الإيرانية – الأميركية في المنطقة، بصرف النظر عن الموقف اللبناني. فهو لم يخف أن بايدن يقوم بترتيب تحالفات جديدة في المنطقة، واعتبر أن زيارته ترمي إلى تطبيق “نسخة جديدة من الشرق الأوسط الجديد” الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في حرب يوليو 2006. ولذلك قال، “رسالة المسيرات كانت تقول بحجمها نحن جديون، هذا بالنسبة إلينا ملف أساسي، نحن لا نخوض حرباً نفسية، نحن نتدرج في خطواتنا، وما يتطلبه الموقف سنقدم عليه من دون أي تردد، هذه الرسالة فهمها الإسرائيلي والأميركي، بعض الناس الذين علقوا في لبنان سواء فهموها أو لم يفهموها هذا آخر همنا، المهم أن يفهم العدو الرسالة”. والوجه الآخر لهذا الكلام هو أن القرار للحزب في لبنان، وليس للسلطة اللبنانية. وخلفية ذلك تعود إلى أن وسيطاً لبنانياً بين الحزب وهوكشتاين تحرك عقب إطلاق المسيرات في 2 يوليو بناءً على طلب الأخير لإبلاغ قيادة الحزب أن واشنطن لا تريد حرباً أو تصعيداً في المنطقة، وأنه يواصل تحركه في إطار التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وأن هناك تقدماً حصل في الجواب الإسرائيلي على الاقتراحات اللبنانية التي سمعها في زيارته الأخيرة إلى بيروت منتصف يونيو (حزيران) الماضي. إلا أن الوسيط اللبناني نقل لهوكشتاين، حسب قول مصادر مطلعة استقت معلوماتها من “حزب الله”، جواباً لا يحتمل التأويل هو أن الحزب لا يأبه لكل التبريرات ويصر على منع استخراج النفط من حقل “كاريش” الإسرائيلي ما دام لبنان لم يتمكن من استغلال ثروته الدفينة، وما دمتم تواصلون حملة الضغوط علينا وعلى إيران “فليس لدينا شيء لنخسره”. والشق الأخير من العبارة كان بيت القصيد في الرسالة التي نقلها الوسيط اللبناني إلى نظيره الأميركي.
بدا نصر الله في خطابه الأخير يجانب حقيقة الموقف الذي تبلغه هوكشتاين من الحزب عبر الوسيط اللبناني، إذ قال ما يعاكسه، حين نفى ما يقوله البعض حول أن “الملف النووي الإيراني وراء موقف الحزب” ووصفه بأنه “كلام فارغ”. ويعتمد خصوم الولايات المتحدة في تفسيرهم للتهديد الإيراني الذي تولاه “حزب الله” لإسرائيل على أن الأخير يتصرف ضمن حسابات طهران بأن واشنطن لا تريد حرباً في الشرق الأوسط في وقت تركز كل إمكاناتها على دعم أوكرانيا في الحرب التي تخوضها مع روسيا.
عوامل “جدية” الحرب
في وجه حجة الفرقاء المعارضين لتفرد “حزب الله” بقرارات الحرب والسلم بأن البلد منهك واقتصاده في الحضيض وأكثرية اللبنانيين تعاني الفقر والعوز بالتالي لا يحتمل الحرب ونتائجها الكارثية، ذهب نصر الله في تبرير الحرب من أجل تحصيل حقوق الثروة النفطية حد القول إنها “أشرف لأن لبنان يدفع (من قبل أميركا حسب رأيه) باتجاه الانهيار والجوع، والناس تقتل بعضها”، معتبراً أن الحرب “لها أفق”. وبينما كان نصر الله يقول في السابق إن حزبه لا يريد الحرب مع إسرائيل لعلمه أن اللبنانيين بمن فيهم جمهوره غير قابل بتكرار تجربة 2006، وكان يقول إنه جاهز لها من باب رفع المعنويات، بات الآن يدعو إليها بطريقة فجة. وفي حججه الفاقعة في تناقضها لتبرير هذا الخيار، دعا اللبنانيين إلى وحدة الموقف خلف المقاومة لتحصيل الحقوق في البحر، ثم في الجملة نفسها قال، “لكن طبعاً نحن لا ننتظر الإجماع”.
استخدم نصر الله حجة قد تلقى صدى لدى الجمهور الواسع باتهامه الأميركيين بالكذب، وبتقصد دفع الأمور إلى الانهيار في البلد، إذ مرت سنة على وعدهم بمساعدة لبنان على استجرار الغاز من مصر عبر سوريا من أجل تشغيل معامل الكهرباء التي يعانون شحها، ومن أجل استجرار التيار الكهربي من الأردن عبر سوريا أيضاً، إلا أن هذا الوعد بالإعفاء لم يأت بعد. وبصرف النظر عما هو مطلوب من السلطات اللبنانية في هذا المجال لضمان تمويل البنك الدولي لهاتين العمليتين، فإن لبنان دخل بحجة تعقيدات المفاوضات على الحدود البحرية مع إسرائيل مرحلة أكثر خطورة من عام 2006 حين اندلعت الحرب مع إسرائيل بفعل العوائق أمام التفاوض على الاتفاق النووي مع إيران في حينها. فالانقسام الدولي الحاد اليوم جراء الحرب في أوكرانيا وانسداد الأفق أمام الاتفاق النووي قد يجران إلى الاستعاضة عن المواجهات بين دول المنطقة بحرب على الساحة اللبنانية كما لوح بها نصر الله.
الوقت والقرار “الممكن”
فهل ينجح الجانب الأميركي في نزع فتيلها لا سيما أن هوكشتاين، كمسؤول عن ملف الطاقة الذي يحظى بالأولوية في زيارة بايدن للمنطقة، يرافقه في محادثاته. وهو حرص على تبديد ما أثاره نصر الله في خطابه إذ قال بعد اجتماعه بوزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، “أحرزنا تقدماً جيداً وقمنا بتقليص بعض الفجوات بملف الترسيم بين لبنان وإسرائيل”.
كما قال المسؤول في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، “نحن نريد أن تستمر المحادثات بين إسرائيل ولبنان في شأن الحدود البحرية وأن تتوقف التهديدات”. ولأن نصر الله شدد على عامل الوقت، وأن أمام لبنان أقل من شهرين من أجل التسليم بحقوقه قبل بدء إسرائيل استخراج النفط والغاز، فإن مصادر الرئيس عون ردت على كلامه بأنه سبق أن حذر هوكشتاين “من مخاطر تضييع الوقت في المفاوضات ولبنان بحاجة إلى نفطه وغازه لمعالجة المشكلات الاقتصادية”.
الناطق باسم الخارجية الأميركية ند برايس أعلن في 15 يوليو أن بلاده “ملتزمة مواصلة تسهيل المحادثات بين لبنان وإسرائيل للتوصل إلى قرار في شأن ترسيم الحدود البحرية، والتقدم يمكن إحرازه فقط عبر التفاوض بين الفريقين”. ورحب برايس بـ”الروح المنفتحة والتشاورية للفريقين من أجل التوصل إلى قرار يؤمن استقراراً وأمناً وازدهاراً أكثر للبنان وإسرائيل والمنطقة، ونعتقد أن قراراً في هذا الشأن ممكن”.
اندبندت عربي