الاعتداءات التي وقعت في باريس، مساء 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لا تقل خطورة عن اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001 على برجي مركز التجارة في الولايات المتحدة، بل ربما تفوقها كارثيةً، ليس على الشرق الأوسط فقط، وإنما بالنسبة للعرب والمسلمين في أنحاء العالم. 13 نوفمبر سيُدَشن مرحلة جديدة في العلاقات الدولية المعاصرة، خصوصاً لجهة هيكلية النظام الدولي وموقع الأقطاب الأوروبية فيه. نحن أمام “11 سبتمبر” أوروبية. لها ما لها من انعكاسات على سياسات القارة العجوز في المنطقة، وعمق وأشكال تدخلاتها مستقبلاً. فضلاً عن السياسات الداخلية تجاه العرب والمسلمين المقيمين هناك، وهم كُثر. وقد تجسدت بالفعل أولى نتائج الاعتداءات بعد ساعات قليلة من وقوعها، حيث تقرّر وقف العمل بتأشيرة شنغن، للقادمين من خارج أوروبا. وهذه مقدمة لمزيد من الإجراءات والقيود، وربما تغيّرات شاملة في الموقف الأوروبي من تدفق اللاجئين مستقبلاً، وكيفية التعامل مع من دخل أوروبا منهم بالفعل. هذا بخلاف الدواعش ذوي الجنسيات الأوروبية، فالعناصر الأوروبية المنضمة إلى “داعش” وأخوته هم القوة الضاربة في المناطق التي تسيطر عليها في العراق وسورية، أما نظراؤهم، المنضمون حديثاً من المقيمين في بلدانهم الأوروبية، فهم الطابور الخامس، ويشكلون الخطوط الاستطلاعية المتقدمة، وخلايا العمل وراء الخطوط في الداخل الأوروبي، أي من فوق أراضي “العدو”، وضربه في الصميم.
الوضع أصعب وأعقد من 11 سبتمبر، وعلى من وقف وراء هذه العمليات تحمل العواقب والاستعداد لتحديات واستحقاقات وتحولات أوروبية، ربما لا قِبل له بها. ومن السهولة بمكان توقع أن تندفع باريس إلى شن غاراتٍ، أو القيام بعمليات عسكرية ضد قواعد تنظيم الدولة. لكن، ما لا يمكن استبعاده أن تتبنى فرنسا موقفاً أكثر تشدداً إزاء النظام السوري وأشباهه من النظم العربية القمعية التي تتذّرع بالإرهاب، لتبرير البقاء والاستبداد. هذه الصلة بين “داعش” وأشباهها، ونظام بشار ونظرائه، فاحت رائحتها، حتى أنها كانت موضع نقد علني متبادل بين وزيري خارجية أميركا وروسيا، جون كيري وسيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي السبت في فيينا.
فتحت “11 سبتمبر” باباً واسعاً لاندفاعات راعي البقر الأميركي وشطحاته في كل اتجاه، فجاء الاهتمام الأميركي الحثيث بقضايا الشرق الأوسط والانغماس المباشر فيها، مصحوباً بفرض واشنطن هيمنتها وأجندتها على الجميع. حيث قامت واشنطن بتجنيد وتوظيف مختلف حكومات العالم، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث انقلب السحر على الساحر، فخضع حكامٌ عرب لابتزاز واشنطن بالحجة نفسها التي كانوا يبتزون بها العالم وشعوبهم، فصارت صفقة مضمونها “الطاعة مقابل البقاء”، وعنوانها “مكافحة الإرهاب”، لكنها فشلت بامتياز في القضاء عليه. بل كانت سبباً جوهرياً في تغذية العنف وإعادة إنتاج الأفكار والتنظيمات المتشددة في نسخ أكثر تطرفاً ووحشية. ربما كان الأوروبيون أعقل وأكثر حنكة وخبرة من الأميركيين. لكن، عند الخطر الفزع الإنساني واحد. والقرب الجغرافي والتداخل الجيواستراتيجي يجعل أوروبا أشد حساسية واستشعاراً للخطر من الأميركيين، القابعين بعيداً وراء الساحل الغربي من الأطلنطي. لذلك، ستكون التداعيات أخطر وأعمق من مجرد سلوك عقابي مباشر، بضربة هنا أو عملية عسكرية هناك. ومن الصعب التنبؤ هل ستكون الغلبة لعقلانية القارة العجوز وخبرتها، فتعمل على معالجة جذور العنف، لا مظاهره، أم ستندفع، مثل واشنطن، في ملاحقة التداعيات وتجاهل المسببات. لن يكون الاختيار بين الطريقين سهلاً، وستحاول أطراف كثيرة توجيهه لمصلحتها، لا للحفاظ على أمن أوروبا، أو الاستقرار في العالم. في كل الأحوال، ستعبد 11 سبتمبر الأوروبية الطريق أمام القارة العجوز، لتملأ الفراغ الأميركي في الشرق الأوسط، فتقتحم المنطقة، وتفرض سطوتها، بصوت العقل، أو بسوط القوة.
سامح راشد
صحيفة العربي الجديد