تعددية بوتين.. هل تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية؟

تعددية بوتين.. هل تخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية؟

معمر فيصل خولي

خلال كلمته الافتتاحية في قمة روسيا وأفريقيا في سان بطرسبرغ. قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الخميس، إن إفريقيا ستصبح أحد الشركاء الرئيسيين لروسيا في عالم جديد متعدد الأقطاب. وأضاف أن نظام دولي متعدد الاقطاب كالنظام الذي كان موجودا خلال فترة الحرب الباردة القديمة، لن يعود مرة اخري على نحو ما كان عليه. وأن الاستمرار في القطبية الواحدة مهمة تكاد تكون مستحيلة. وكما صنعت أحداث كبرى في التاريخ السياسي كالثورة الفرنسية وتاريخ العلاقات الدولية كالحربين العالميتين وسقوط جدار برلين، والهجوم على مركز التجارة العالمي تحوّلاتٍ مفصلية على أصعدة مختلفة، فإن الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا منذ شباط/فبراير من العام الماضي مرشّحة هي الأخرى لإحداث تغييرات غير محسوبة. َ

والسؤال الذي يطرح في هذا السياق.. ما هي الاحتمالات المتوقعة لبنية النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا؟ يرى الدكتور إسماعيل صبري مقلد، أستاذ العلاقات الدولية أن ما فيه نحن الآن والذي من المرجح ان يستمر لفترة طويلة قادمة، هو نظام دولي يضم عددا من الاقطاب الذين يتفاوتون كثيرا عن بعضهم في إمكاناتهم وقدراتهم بمفهومها الشامل ، وهو ما يسمح بترتيبهم تنازليا حيث يغيب عنهم شرط التعادل او التكافؤ الذي كان أبرز سمات القطبية الدولية الثنائية التي سادت في حقبة الحرب الباردة وفرضت نفسها علي العالم وتم التعامل معها كإحدى المسلمات التي لم تكن موضع خلاف او نقاش.

ووفقا لهذا الترتيب التنازلي الجديد لمجموعة الأقطاب الدوليين الكبار يأتي القطب الامريكي أولا وعلى قمة الهرم ، يليه القطب الصيني، فالقطب الروسي. وهذا الترتيب التنازلي هو ما اسميته بالهيراركية القطبية الجديدة التي أساسها التفاوت وليس التعادل او التكافؤ كما كان عليه الحال بين القطبين الامريكي والسوفيتي في الماضي. أما إيان بريمر، العالم الأميركي ورئيس مجموعة أوراسيا المختصة بمخاطر السياسات العالمية، فيستنبط رؤية جديدة لما يمكن أن يحدُث من تداعياتٍ تؤجّجها حرب أوكرانيا، وهو في بحثه الأخير الذي حمل عنوان “القوة العالمية القادمة لن تكون هي القوة التي تعتقدونها” جاء فيه “أن العالم لن يكون كما هو الآن، إننا لن نعيش (بعد حرب أوكرانيا) في ظل نظام القطب الواحد، أو القطبين، أو الأقطاب المتعدّدة، بل على العكس من ذلك، سيكون العالم المقبل تفاعليا بطريقةٍ ما، أنظمة عالمية متعدّدة، منفصلة، ولكنها متداخلة، وسيناريوهات للهيمنة المشتركة تعتمد على التفاعل والتنافس السلمي، بدلا من الصدام العسكري والحروب”.

ستظلّ الولايات المتحدة، وفقا لذلك، لاعبا مهيمنا من الناحية الأمنية، ولكن سيتعيّن عليها التنافس السلمي والتفاعل مع الصين، لأن الاقتصادين الأميركي والصيني أصبحا مترابطيْن بشكل مكثف في الفضاء العالمي، وسيصبح الاتحاد الأوروبي سوقا مطلوبا لكلا البلدين، كما ستظلّ اليابان قوة اقتصادية. وإذا ما حافظت الهند على معدّلات نموها الحالية فسوف تنضم إلى الدول المهيمنة، ولن تكون هناك حرب اقتصادية باردة، لأن لا أحد على استعداد لخوضها، وسوف يكون التفوّق التكنولوجي فاعلا مهيمنا على نحو أكبر، وقد يتم تشكيل نظام عالمي رقمي يسمح بإملاء قواعد في الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. وفي النظام العالمي الجديد يتنافس البشر تكنولوجيا واقتصاديا بعضهم مع بعض في ضربٍ من العولمة التي لا تقمع الاختلافات التي يمكن أن تبرز دينيا أو ثقافيا، أو حتى في طرق العيش. لكن أي نوع من العالم سيكون ذاك المتعدد الأقطاب؟
انقسم منظرو العلاقات الدولية حول هذا السؤال. يعتقد الواقعيون الكلاسيكيون مثل هانز مورغنثاو أن الأنظمة متعددة الأقطاب أقل عرضة للحرب لأن الدول يمكن أن تعيد تحالفاتها لاحتواء المعتدين الخطرين وردع الحرب. ويعتقد الواقعيون البنيويون مثل كينيث والتز أو جون ميرشايمر العكس، حين يرون أن الأنظمة ثنائية القطب أكثر استقرارا لأن خطر سوء التقدير منخفض فيها، وبأن المرونة المتأصلة في النظام متعدد الأقطاب تخلق قدرا أكبر من عدم اليقين وتجعل من المرجح أن تعتقد إحدى القوى الثانوية بأنها قادرة على تغيير الوضع الراهن قبل أن يتحد الآخرون لإيقافه.
في هذا الشأن يقول ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، إن التعددية القطبية تخلق عالما تحتوي أوراسيا فيه على عدة قوى رئيسة متفاوتة القوة. من المحتمل أن تنظر هذه الدول إلى بعضها بحذر، خاصة عندما تكون قريبة جغرافيا من بعضها. وهذا الوضع يمنح الولايات المتحدة قدرا كبيرا من المرونة لتعديل تحالفاتها حسب الحاجة، تماما كما فعلت عندما تحالفت مع روسيا الستالينية في الحرب العالمية الثانية وعندما أصلحت العلاقات مع الصين الماوية خلال الحرب الباردة. وأضاف أن القدرة على انتقاء الحلفاء المناسبين واختيارهم هي العنصر السري لنجاحات السياسة الخارجية السابقة للولايات المتحدة: فقد منحها موقعها كقوة عظمى وحيدة في نصف الكرة الغربي “أمنا حرا” لم تمتلكه أي قوة عظمى أخرى، وجعلها حليفا مرغوبا فيه بشكل خاص كلما ظهرت مشكلة خطيرة.
ويقول إنه في عالم متعدد الأقطاب، ستتحمل القوى الكبرى الأخرى بشكل تدريجي مسؤولية أكبر عن أمنها، وبالتالي تقليل الأعباء العالمية التي تتحملها الولايات المتحدة. وستعمل الهند على بناء قوتها العسكرية مع نمو اقتصادها، وتعهدت اليابان المسالمة بمضاعفة إنفاقها الدفاعي بحلول عام 2027.
وأوضح أنه حتى لو كان لتعدد الأقطاب سلبيات للولايات المتحدة، فإن محاولة منعها ستكون مكلفة وربما لا طائل من ورائها. ولذلك، وبدلا من الانخراط في جهد لا طائل من ورائه لدفع عقارب الساعة إلى الوراء، يجب على الأميركيين البدء في الاستعداد لمستقبل متعدد الأقطاب.
وأضاف أيضا أنه، من الناحية المثالية، سيشجع عالم التعددية القطبية غير المتوازنة الولايات المتحدة على الابتعاد عن اعتمادها الغريزي على القوة الصارمة والإكراه وإعطاء وزن أكبر للدبلوماسية الحقيقية.
وقال بافتراض بقاء الولايات المتحدة في المرتبة الأولى بين غير المتكافئين في نظام متعدد الأقطاب، ستكون واشنطن في وضع مثالي لتلعب القوى الكبرى الأخرى ضد بعضها، ويمكنها أن تسمح لشركائها في أوراسيا بتحمل المزيد من عبء أمنهم.

 وأخيراً، تشكل حرب الروسية ضد أوكرانيا، والقائمة الطويلة من الصراعات العالمية المحتملة التي تنتظر دورها في الاشتعال في تايوان، وبحر الصين الجنوبي وجزر الكوريل وكوريا الشمالية وإيران، جرس إنذار إستراتيجي لجميع دول العالم، مفاده أن النظام الدولي بعد هذه الحرب والصراعات المحتملة لن يكون كما قبلها، وان نظام متعدد الأقطاب بدأ يلوح في الأفق، وهو ما يحتم على الدول مراجعة حساباتها الاقتصادية وتحالفاتها السياسية، ومن ثم إعادة تعريف مصالحها الجيوسياسية للتكيف مع أوضاع جديدة قادرة على تأمين الاكتفاء الذاتي لاحتياجات ومتطلبات الدولة خلال أزمات عالمية معقدة، لا يبدو لها سقف زمني واضح، ولا عواقب واضحة ومحددة يمكن التحكم بها.

وبدون أدنى شك، يمر النظام الدولي حاليا بمرحلة انتقالية مهمة ستفرز نظاماً جديداً اقل ما فيه انه سيكون نظام متعدد الأقطاب.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية