لم يمض على التفجيرات الإرهابية التي استهدفت عدة أماكن في العاصمة الفرنسية باريس التي وقعت في 13 تشرين الثاني/نوفمبر من الشهر الجاري والتي راح ضحيتها أكثر من مئة قتيل وجريح، حتى فكر المستفيد من الإرهاب فرنسا أن يستهدفها من جديد لكن هذه المرة ليس داخل أراضيها وإنما خارجها، ليعمق من أزمتها الداخلية والتي من شأنها أن تنعكس على سياساتها الخارجية في الشرق الأوسط وخاصة تجاه الأزمة السورية.ففي 18 تشرين الثاني/نوفمبر من الشهر الجاري، ألقى منتسبي حماية السفارة الفرنسية في العاصمة العراقية بغداد القبض على ثلاثة أشخاص عند محاولتهم بتصويرها وتصوير مكتب الجوازات والسفر المجاور لها في شارع النضال في بغداد، وقد تم تسليم هؤلاء الأشخاص وهم: مجيد أسدي حاجي إيراني الجنسية، وعلي عبدالحسين مطر، وعلي كريم أحمد عراقيا الجنسية، إلى ضابط استخبارات حماية السفارات، ولخطورة هذا الأمر وتداعياته السلبية على العلاقات الفرنسية العراقية من جانب، والعلاقات الفرنسية الإيرانية من جانب آخر، تدخلت السفارة الإيرانية في بغداد وفرضت تكتيماً شديدًا على هذا الأمر نظرًا لما تعيشه فرنسا والعراق من ظروف أمنية غاية في الصعوبة. ولكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق لماذا يستهدف الإرهاب الداخل الفرنسي ويحاول الاعتداء على مقراتها الدبلوماسية في الخارج في هذه المرحلة بالذات-التي تشهد تشابك دبلوماسي مع حلفاء بشار الأسد الدوليين”روسيا” والإقليميين “إيران” على خلفية اجتماعات فيينا- وما النتائج التي ستترتب على هذا الاستهداف؟
بالمقارنة مع كل المواقف الأوروبية من الانتفاضة السورية والتي تحولت إلى صراع إقليمي ودولي، يمكن القول أن الموقف الفرنسي من الصراع في سوريا منذ بدايته قبل خمسة أعوام وإلى يومنا هذا موقف ليس فيه لا التباس ولا ضبابية، ففرنسا دعمت وتدعم الحراك السياسي في سوريا، وأصرت وتصر على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد، ولم يتوقف دعمها للانتفاضة السورية عند هذا المستوى، فمن جهة تعاونت مع دول عربية وإقليمية كالمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا من أجل ممارسة المزيد من الضغط عليه لخروجه من الحكم، ومن جهة أخرى اختلفت مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في إحدى المفاصل الحيوية الإنسانية من الأزمة السورية، وذلك عندما أكدت التقارير الاستخباراتية قيام النظام السوري في 21 آب/أغسطس 2013م، باستخدام السلاح الكيميائي ضد مواطنيه في منطقة الغوطة شرق دمشق، ففرنسا إزاء هذا الاستخدام كانت ترغب في توجيه ضربة عسكرية له.
من هذا الموقف الواضح لفرنسا تجاه الأزمة السورية يمكن للمرء دون أن يتعمق في التفكير والتحليل الأمني والسياسي أن يتوصل للمستفيد الأول من الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس قبل عدة أيام، والتي كان من الممكن أن تنسحب هذه الهجمات الإرهابية على سفارتها في بغداد. مما لاشك فيه أن الدول المستفيدة من هذا الإرهاب الذي وقع، والإرهاب قيد الانتظار، إيران وحليفها النظام السوري. لأن لم يبق أمام إيران من أجل أن يستمر الرئيس السوري بشار الأسد في حكم سوريا إلا أن تبتز الدول الكبرى من خلال بوابة الإرهاب، وعبر متطرفين ينتمون للمذهب السُني لترسل للعالم الغربي عدة رسائل منها بأن السُنة الذين يشكلون معظم أبناء الأمة الإسلامية ضد مدنية أوروبا المعاصرة والدليل على ذلك التفجيرات الإرهابية. أما الرسالة الثانية والأهم بالنسبة للنظام الإيراني تتمثل برغبته العارمة في تغيير مسار المحادثات باجتماعات فيينا الدولية والتي تتعلق بتسوية مصير بشار الأسد، ليتم تغيير هذه الأولوية ويصبح التركيز في تلك المحادثات عن مواجهة الإرهاب وما يمثله من تحديات أمنية واقتصادية وسياسية على المجتمعات الإقليمية والدولية، وإهمال جرائم الرئيس السوري بشار الأسد المنقطعة النظير في التاريخ الإنساني لشعبه المتعددة الأوجه كالقتل الذي وصل إلى مئات الآلاف، والقاء البراميل المتفجرة، واستخدام السلاح الكيميائي، ونزوح الملايين عن ديارهم، وهجرة الملايين أيضًا خارج وطنهم، وتنكيل مليشياته الإيرانية واللبنانية والأفغانية والعراقية في الشعب فهذه الجرائم لا قيمة لها!، أمام مواجهة الإرهاب. لتتحول قضية شعب سعى إلى الحرية بكل ما يملك من أجل التخلص من نظام حكم مستبد إلى قضية إرهاب وعليه أن يدفع الثمن!
أما الرسالة الثالثة والتي لا تقل أهميتها عن سابقاتها تتجسد في محاولة إيران في تفكيك التحالف الإقليمي والدولي ضد النظام السوري، فبعد خيبة الأمل والخسارة التي تلقتها السياسة الإيرانية من جارتها ومنافسها الإقليمي والتاريخي تركيا؛ فمن جهة كان النظام الإيراني يراهن على أن الإرهاب الذي مورس ضدها من قبل تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” في تموز/يوليو من العام الجاري، سيجعلها تنكفأ على الداخل التركي، مما سيخفف الضغط على بشار الأسد، لكن ما حدث عكس ذلك. إذ استمرت تركيا على موقفها الرافض لاستمراره في الحكم، ومن جهة أخرى شكلت نتائج الانتخابات النيابية التركية التي جرت في الأول من تشرين الثاني/ من الشهر الجاري، صدمة كبيرة للنظام الإيراني، الذي كان يأمل منها على أقل تقدير إضعاف حزب العدالة والتنمية وعدم قدرته على ممارسة أدوار إقليمية مؤثرة بشكل سلبي ضد حلفائها ولكن ما حدث مغاير لذلك تماما، إذ عاد حزب العدالة والتنمية بقوة إلى المشهد السياسي- بعد تعثره في الانتخابات النيابية السابقة والتي جرت في حزيران/يونيو الماضي- التركي وسيطرته على مؤسسات الدولة الثلاث”رئاسة الجمهورية،رئاسة الوزراء، المجلس الوطني الكبير” هذه العودة والقوة لحزب العدالة والتنمية تعني في الحسابات السياسية للنظام الإيراني أن تركيا ستواصل مع حلفائها الإقليميين والدوليين في تضييق الخناق على بشار الأسد،حتى يتم إسقاطه.
أمام هذا الفشل الإيراني في محاولة تغيير دول إقليمية بعينها”المملكة العربية السعودية،وقطر،وتركيا” سياساتها تجاه بشار الأسد، رأت أن تتوجه إلى عواصم الدول الكبرى لعله أن يحدث الفرق وكان ذلك عبر البوابة الفرنسية، فتأثير الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس وفشل وقوعها -لغاية الآن- ضد بعثتها الدبلوماسية في بغداد، ولكن كان حال وقوعها ستلقي بظلالاتها على السياسة الفرنسية الخارجية تجاه الشرق الأوسط وخاصة إزاء الصراع السوري، لتجبر فرنسا لتغيير سياستها في الشرق الأوسط من الإصرار على تنحي الرئيس السوري بشار الأسد إلى محاربة الإرهاب وإعادة إدماج الرئيس السوري في المنظومة الدولية في محاربته. مستغلة في ذلك تأثير أحزاب وقوى اليمين المتشدد والرأي العام الفرنسي على الرئيس فرانسو أولاند الذي من الممكن أن يتراجع عن مواقف بلاده المؤيدة لحقوق الشعب السوري. وقد بدا هذا التراجع واضحًا وهو ما أتضح عقب اجتماع فيينا الذي عقد في 14تشرين الثاني/نوفمبر من العام الجاري، وبعد عدة ساعات من تفجيرات باريس الإرهابية، إذ صرّح وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لدى وصوله إلى فيينا “إن أحد أهم أهداف اجتماع اليوم في فيينا هو تحديدا أن نرى بشكل ملموس كيف يمكننا تعزيز التنسيق الدولي في مجال مكافحة داعش“.
إنّ ما لم يقله الفرنسيون صراحةً هو أنّ «داعش» من نتاجات الأسد ونظامه. وهو لا يزال مخترقًا من ذلك النظام. بدليل أنّ معظم قتال «داعش» في سوريا منذ عام 2013 هو ضد معارضي الأسد الآخرين، وأنّ معظم المناطق التي يتمركز فيها التنظيم كانت بأيدي الثوار، وليس بأيدي النظام، وأنه حتى في الفترة الأخيرة بعد التدخل الروسي، فإنّ النظام السوري يتبادل المناطق مع «داعش» كرًا وفرًا، بما في ذلك مناطق استولى عليها «داعش» ثم انسحب منها لصالح قوات النظام المتهالكة. وعندما أعلن «داعش» عن مسؤوليته عن التفجير بضاحية بيروت، قال حسن نصر الله إنه سيزيد من العمليات ضد «داعش». فمنذ عام 2013 أيضًا لا يقاتل حزب الله والميليشيات المتأيرنة الأخرى إلاّ ضد خصوم النظام السوري من المسلَّحين، وليس من بينهم «داعش» في معظم الجبهات. والسبب الثالث أو الرابع، الذي يجعل من «داعش» حليفًا لا يُقدَّرُ بثمن للأسد والإيرانيين والروس، أنه ما من عمليةٍ كبرى قام بها «داعش» (وآخرها عملية باريس) إلاّ أفاد منها بالدرجة الأولى النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون. فكيف كان يمكن لقضية الشعب السوري أن تُنسى أو تتأخر في مؤتمر «فيينا – 2» ولصالح نظام الأسد، لولا قيام «داعش» بالهجوم في باريس؟ وهكذا فقد توجهت الأنظار كلها لمكافحة الإرهاب وليس لتحرير الشعب السوري من قبضة الأسد، فسارع لافروف وكيري وإيران لالتقاط الفرصة السانحة والتركيز على إرهاب «داعش»، متناسين الإرهاب الآخر الذي يشاركون فيه جميعًا منذ سنوات إلى جانب الأسد ونظامه!
وعليه فقد انعكست تفجيرات باريس على محادثات فيينا من خلال طرح جدولا زمنيا لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا خلال ستة أشهر وإجراء انتخابات خلال 18 شهرا، رغم أن فرنسا كانت من أكثر الدول الأوروبية تشددا تجاه نظام الأسد، حيث كانت تعتبره أساس الفوضى، في فترات سابقة، وكانت تصر على تخليه أو تنحيه عن الحكم، ولا يعد جزءا من مستقبل سوريا. ويبدو حتى هذه اللحظة أن ارتدادات التفجيرات الإرهابية انعكست على السياسة الخارجية فيما يتعلق بالصراع السوري. وهذا يعني في حد ذاته يعد مكسبًا مؤقتًا لسياسة النظام الإيراني في سوريا، لأن الفريقين الرئيسيين فيه، السعودية وتركيا، وهما نصف المشاركين والمؤثرين، ليسا موافقين على مقرراته، ليس لجهة مكافحة الارهاب، بل لجهة تجاهل بشار الأسد. لذلك لن تنجح مناقشاته. وفي هذا السياق قال وزير الخارجية السعودية عادل الجبير ان بلاده ستقاتل ضده، لازالته أما بالقوة، أما بالحل السياسي”.
يبدو من خطط للتفجيرات الإرهابية اختار توقيت التنفيذ بعناية شديدة، نعم هي أرهبت المجتمع الفرنسي بشكل خاص والمجتمعات الغربية والأخرى بشكل عام، لكن الأهم بالنسبة لمخططيها أن يصل صداها إلى جدول أعمال اجتماع فيينا وهذا ما الحدث لغاية الآن.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية