فيما يلي، يبحث سبعة خبراء في الكيفية التي يمكن أن يؤدي بها القرار الإسرائيلي المحفوف بالمخاطر ببدء إنتاج الغاز من حقل “كاريش” البحري إلى التأثير على موقف بيروت التفاوضي، والحسابات العسكرية لحزب الله اللبناني، والعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعوامل أخرى.
قام بتجميع هذا المرصد السياسي زميل معهد واشنطن، سايمون هندرسون، ويتضمن مداخلات من زملائه، حنين غدار، وماثيو ليفيت، وإيهود يعاري، وديفيد ماكوفسكي، وديفيد شينكر، وأندرو تابلر.
* * *
كان من المقرر أن تبدأ إسرائيل، بحلول نهاية أيلول (سبتمبر)، الإنتاج في حقل “كاريش” للغاز الطبيعي قبالة ساحلها الشمالي. وأثار إعلان الحكومة الإسرائيلية عن الاستخراج في هذا التوقيت تهديدات من “حزب الله” اللبناني، وتعليقات غامضة من بعض المسؤولين الإسرائيليين، واقتراحات بتسوية دبلوماسية محتملة تقوم بتنسيقها الولايات المتحدة. ويعد حقل “كاريش” أصغر بكثير من حقلَي “لفياثان” و”تمار”، المنتجين حالياً في إسرائيل، لكنه أثار اهتماماً أكبر بكثير في الآونة الأخيرة لأنه يقع بالقرب من الخط الفاصل المتنازع عليه بين “المناطق الاقتصادية الخالصة” لكل من لبنان وإسرائيل -وهو الخلاف المحتدم الذي فاقمته بيروت مؤخراً بمطالبتها بمنطقة بحرية إضافية جنوب تلك التي كانت قد ذكرتها في إعلانها السابق. ويقع “شمال كاريش”، وهو حقل منفصل من المقرر أن يبدأ بالإنتاج في العام المقبل، ضمن هذه المنطقة الإضافية المتنازع عليها.
فضلاً عن تعقيده المفاوضات البحرية الأوسع نطاقاً بين الدولتين، يعد موقع “كاريش” حساساً أيضاً بسبب احتمال تعرضه لمخاطر الهجمات. وبخلاف جهازَي الإنتاج الخاصين بحقلَي “لفياثان” و”تمار”، العميقين تحت الأمواج والمتصلين بمنصات المعالجة قرب الشاطئ بواسطة خطوط أنابيب طويلة، فإن حقل “كاريش” مربوط بسفينة إنتاج وتخزين تطفو فوقه مباشرة؛ وسيتم استخدام هذه التدابير نفسها في حقل “شمال كاريش” في النهاية. ويقدم بذلك هدفاً مغرياً لحزب الله، الذي أطلق ثلاث طائرات من دون طيار باتجاه السفينة في 2 تموز (يوليو)، والتي سرعان ما أسقطتها إسرائيل. وتتزايد جميع هذه التوترات على خلفية تطورات أخرى حساسة وذات صلة، من بينها الانتخابات الوشيكة في إسرائيل والولايات المتحدة، وانتهاء فترة ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون في تشرين الأول (أكتوبر)، وأزمة الطاقة العالمية المستمرة والناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
مهما حدث، يجب على جميع الأطراف أن تأخذ في الحسبان التحديات والجداول الزمنية المرتبطة باستخراج الغاز البحري. وعادةً ما يستغرق الأمر خمس سنوات من توقيع العقد الأولي قبل أن يتدفق الغاز فعلياً إلى العميل. ويجب أولاً إجراء مسح زلزالي للمنطقة، ثم يتعين إحضار جهاز حفر لاستكشاف مكامن النفط أو الغاز المحتملة. وفي المياه العميقة لشرق البحر المتوسط، تتطلب كل حفرة للتنقيب حوالي تسعين يوماً، ولا يمكن عادة تأكيد الاكتشافات الصالحة تجارياً حتى حوالي اليوم الخامس والثمانين أو نحو ذلك. وإضافة إلى ذلك، تبلغ تكلفة كل حفرة حوالي 100 مليون دولار -والتي لن يتحمل عبئها حاملو التراخيص إلى أن يؤمنوا توقيع اتفاقية مبيعات طويلة الأجل مع الحكومة السيادية (أي من خمسة عشر إلى عشرين عاماً).
حسابات لبنان
إن بيروت على عِلم بأن الفشل في التوصل إلى اتفاق سيؤدي إلى رد فعل داخلي عنيف، لأن اقتصاد لبنان لا يمكنه تحمُّل المزيد من التوترات مع المجتمع الدولي. وتأمل القيادة السياسية بأن تفتح الموافقة على إبرام اتفاق، تتوسط فيه الولايات المتحدة بشأن الترسيم العام للحدود البحرية، أبواباً أخرى، مثل تسهيل نقل الغاز المصري (في الواقع، الإسرائيلي) إلى لبنان مع تخفيف مطالب “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” بتنفيذ الإصلاحات. ونظراً إلى التهديد بفرض عقوبات إضافية على السياسيين الفاسدين، والمنافع الموعودة التي ستوفرها إمدادات الغاز الجديدة للنخب الراسخة اقتصادياً، فإن الاتفاق مع إسرائيل لا يبدو سيئاً في هذه المرحلة.
ولدى “حزب الله” حساباته الخاصة في هذا الشأن، ولكنه قد يغض النظر عنها أيضاً. فبسبب المشاكل المالية الداخلية التي تشله، والتحديات القائمة في صفوف قواته المقاتلة، والهجمات الإسرائيلية المستمرة على منشآت أسلحته في سورية، يدرك الحزب جيداً أن بدء حرب أخرى سيؤدي إلى خسائر أكثر من المكاسب -على الأقل في الوقت الحالي.
وإذا تم التوصل إلى اتفاق، يجب على جميع الأطراف أن تضع في اعتبارها أن قطاع الطاقة ما يزال أكثر المجالات فساداً وفشلاً في لبنان. وبالتالي، لن تؤدي أي تنازلات بشأن متطلبات الإصلاح إلا إلى تقوية هذا النظام الفاسد، وحتماً، حزب الله نفسه.
ماذا عن التحذير العسكري لحزب الله؟
في حزيران (يونيو)، حذر أمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، من أن قواته ستتخذ إجراءات لمنع إسرائيل من استخراج الغاز من حقل “كاريش” ما لم تقدم الأخيرة تنازلات نحو التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن الحدود البحرية مع لبنان. وفهم مسؤولو الأمن الإسرائيليون هذا التهديد على أنه خروج مهم عن الخطوط الحمراء التقليدية لحزب الله، التي لن يقوم الحزب بموجبها بشن هجمات انتقامية إلا إذا قصفت إسرائيل الأراضي اللبنانية أو استهدفت عناصر الحزب.
ويشكل التهديد بقصف “كاريش” مجازفة يقوم بها حزب الله، لأن العديد من المراقبين يعتقدون أن الحزب لا يريد خوض قتال شامل مع إسرائيل في وقت يعاني فيه لبنان من أزمات سياسية ومالية حادة. ومع ذلك، فقد خلص نصر الله أيضاً على ما يبدو إلى أن التكاليف المحتملة لهذه المخاطرة تفوقها فوائد الادعاء بأن التنازلات الإسرائيلية بشأن “كاريش” والمسائل ذات الصلة أصبحت ممكنة بفضل تهديدات الحزب. وبعد تلقي الحزب الكثير من الانتقادات محلياً بسبب تدخله في الحرب السورية، فإنه يرغب على الأرجح في إظهار أن أسلحته تُستخدم الآن في خدمة مصالح لبنان، وليس مصالح إيران أو سورية.
رهان إسرائيل المالي والأمني
على الرغم من التهديدات المتكررة لنصر الله، إلا أن ذلك لم يردع إسرائيل عن المضي قدماً في خططها لإنتاج الغاز من حقل “كاريش”، مما أثار جولة خطيرة من سياسة حافة الهاوية التي قد تؤدي إلى تصعيد الأعمال العدائية المحلية، أو حتى إلى حدوث مواجهة أكبر. فوفقاً لتقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، بعد أن أدلى نصر الله بهذه التصريحات العلنية الجادة ونقل تحذيرات إضافية من خلال وسطاء، قد يشعر أنه ملزم بالتصرف بناءً على تهديداته الصريحة. ومن جهتهم، ربما حاصر القادة الإسرائيليون أنفسهم في زاوية عبر إصرارهم علناً على أن المشروع لن يتأخر.
وفيما يتعلق بمفاوضات الحدود البحرية الأوسع نطاقاً، يبدو أن نصر الله يهدف إلى الاستقواء على إسرائيل لكي تتنازل بشكل كامل عن حقل “قانا” المحتمل للغاز، والذي يمتد عبر الحدود المقترحة. ولتعويض إسرائيل عن حصتها في الحقل (20-30 في المائة، وقيمتها حوالي 200-300 مليون دولار، وفقاً لبعض التقارير)، اقترحت الولايات المتحدة على ما يبدو أن تقوم شركة “قطر للطاقة” بشراء شركة “نوفاتك” Novatek الروسية، التي انسحبت مؤخراً من شراكتها مع شركة “توتال” Total الفرنسية وشركة “إيني” Eni الإيطالية في هذا البلوك. وهذا النوع من ترتيبات “التوحيد” سيسمح لبيروت بالادعاء بأنها لا تتعامل مباشرةً مع “العدو”. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، أعلنت الحكومة اللبنانية أنها ستستحوذ على حصة “نوفاتك” البالغة 20 في المائة في “بلوك 9″ (منطقة قانا) و”بلوك 4” (شمال بيروت).
ما يزال المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، يعمل على إزالة العقبات الأخرى التي تحول دون التوصل إلى اتفاق شامل. وفي 20 أيلول (سبتمبر)، ناقش الموضوع مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي ومدير وزارة الخارجية الإسرائيلي على هامش اجتماع “الجمعية العامة للأمم المتحدة” في نيويورك.
العلاقات الأميركية الإسرائيلية
يبدو أن توقيت مشروع “كاريش” يشكل مسألة رئيسية بالنسبة لزعماء الولايات المتحدة وإسرائيل. ويعود ذلك جزئياً إلى حالة عدم اليقين بشأن ما ستسفر عنه الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية في 1 تشرين الثاني (نوفمبر)؛ وقد يعد أي تقدم محرز في القضايا البحرية قبل ذلك التاريخ، إنجازاً لرئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال، يائير لبيد. واللغز الآخر هو ما إذا كانت إيران ستمنح وكيلها، حزب الله، الضوء الأخضر للسماح بإبرام اتفاق لبناني في وقت يسود فيه عدم يقين واسع النطاق في المنطقة. وفي الوقت الحالي، تدل الإشارات الإيجابية المختلفة المفعمة بالأمل والمتعلقة باحتمال التوصل إلى تسوية على أن واشنطن تحث بهدوء على ضبط النفس بشأن “كاريش” من أجل توفير الوقت اللازم لإنجاز ما تبقى من العملية الدبلوماسية خلال تشرين الأول (أكتوبر) تقريباً أو نحو ذلك.
أهداف بايدن
حددت إدارة بايدن حل نزاع الحدود البحرية كـ”أولوية رئيسية” من شأنها تعزيز الاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، بينما قد يؤدي التوصل إلى اتفاق حول هذه الحدود إلى إزالة مصدر واحد للصراع بين إسرائيل وحزب الله، إلا أنه من غير المرجح أن يخفف من حدة التوترات المتصاعدة بينهما على طول “الخط الأزرق”، أي الحدود البرية التي تمتد من الساحل إلى الحدود السورية. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تؤدي أي عقود خدمة وإيرادات ناتجة عن اتفاقية “المنطقة الاقتصادية الخالصة” إلى تسرب الأموال إلى حزب الله -في الواقع، يبدو أن مثل هذه التحويلات لا مفر منها ما لم تصر السلطات الدولية على الإشراف الكافي وعلى إنشاء صندوق “الثروة السيادي اللبناني”، مما قد يشجع الشفافية في تحصيل وصرف الإيرادات ذات الصلة.
يبدو أن إدارة بايدن حريصة أيضاً على التوسط في إبرام صفقة بحرية في المستقبل القريب لأنها قد تؤثر على نتيجة الانتخابات الإسرائيلية. وتحتدم حالياً المنافسة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي لبيد والزعيم السابق بنيامين نتنياهو، ويفضل البيت الأبيض فوز لبيد من أجل تعزيز أهدافه المتمثلة في تحسين العلاقات مع الفلسطينيين والحفاظ على الوضع الراهن في الضفة الغربية. ومهما كانت البنود النهائية للاتفاقية البحرية مع لبنان، فمن شأن التوصل إلى اتفاق أن يعزز مصداقية لبيد في السياسة الخارجية وربما يساعده في صناديق الاقتراع.
المسألة السورية
إضافة إلى المحادثات البحرية، أمضت الولايات المتحدة أكثر من عام في إجراء مفاوضات مطولة للتوسط في صفقة مستوحاة من الأردن لتزويد لبنان بمزيد من الطاقة. ووفقاً لشروطها، سيتم نقل الكهرباء المولَّدة في الأردن من الغاز الإسرائيلي -إلى جانب كميات معينة من الغاز الإسرائيلي نفسه- عبر الأراضي السورية إلى لبنان.
وينبع الكثير من الجدل حول الخطة من واقع أن نظام الأسد في سورية سيحصل، وفقاً لبعض التقارير، على 8 في المائة من نسبة الكهرباء والغاز التي تعبر أراضيه كشكل من أشكال الدفع العيني -على الرغم من استمرار حالة النظام كهدف للعقوبات بموجب “قانون قيصر الأميركي”، و”الاتحاد الأوروبي” و”الجامعة العربية”. ويضم شمال لبنان محطة واحدة فقط لتوليد الكهرباء متاخمة لـ”خط الغاز العربي” وتستطيع في الوقت نفسه استخدام الغاز كوقود للتشغيل، لذا تعد سورية الطرف الوحيد القادر على توليد كمية الكهرباء التي تحتاجها بيروت حالياً. كما أن نظام الأسد حريص على هذا الترتيب لأن محطات التوليد الخاصة به غالباً ما تكون معطلة بسبب نقص المواد الأولية.
وتصف مصادر إسرائيلية الخطة كامتداد في مجال الطاقة لسياسة “حسن الجوار” التي تنتهجها بلادهم تجاه الشعب السوري خلال الحرب الأهلية في البلد المجاور. وبعبارة أخرى، سعت القدس لإظهار أنها تتمنى التوفيق للمواطنين السوريين على الرغم من أن بلادهم ما تزال خاضعة لسيطرة القوات الإيرانية والقوات الوكيلة الأخرى.
الخاتمة
قد يكون قرار لبنان بالاستحواذ على حصة شركة “نوفاتك” البحرية جزءاً من تحرك متزامن نحو بلوغ اتفاق وشيك بشأن الحدود البحرية -أي اتفاق يسمح أيضاً بدخول قطر في اتحادات التراخيص. وعلى الرغم من التساؤلات حول طبيعة ومضمون أي اتفاق يشمل لبنان وإسرائيل (سواء بشكل مباشر أو، على الأرجح، بشكل غير مباشر)، يبدو أن الصفقة الناشئة أحرزت تقدماً، حيث تتضمن وفقاً لبعض التقارير، تنازلات إسرائيلية كبيرة على خط الحدود النهائي. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت أي اتفاقات على المدى القريب ستشكل أساساً لإحراز تقدم ثنائي أوسع نطاقاً بين إسرائيل ولبنان، أو أنها ستنهار في غضون بضعة أشهر على غرار الإتفاقات السابقة.
*سايمون هندرسون
معهد واشنطن