كما حدث في عمليات التوغل السابقة، تُشتت التهديدات الأخيرة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالغزو والضربات التحضيرية انتباه «قوات سوريا الديمقراطية» على نحوٍ مهلك عن مهمتها الأساسية المتمثلة بمكافحة الإرهاب – في الوقت الذي تتزايد فيه الأنشطة الجهادية ضدها.
في 28 أيلول/سبتمبر، أعلنت «قوات سوريا الديمقراطية» («قسد») المتحالفة مع الولايات المتحدة عن استيلائها على أحد أكبر مخابئ الأسلحة التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» منذ مطلع عام 2019، حين خسر التنظيم الإرهابي آخر قطعة أرض تحت سيطرته. ويشكّل حجم المخزن المكتشف وموقعه دليلاً على التهديد المتزايد الذي يشكله التنظيم في شمال شرق سوريا. فقد أشارت «قوات سوريا الديمقراطية» إلى أن المخبأ كان يحتوي على حوالي 200 قذيفة صاروخية و600 مخزن لرشاشات “كلاشنكوف-47″، و21 ألف طلقة نارية، جميعها في مزرعة في قرية القيروان بالقرب من تل حميس – أي على بُعد خمسين ميلاً من القامشلي، المدينة الرئيسية لـ «قوات سوريا الديمقراطية» في الشمال و“مخيم الهول” للنازحين الضعفاء في الجنوب.
في الموازاة، يكرر الرئيس التركي رجب طيب أرودغان منذ أيار/مايو تهديداته بشنّ توغّل عسكري آخر في سوريا، للمرة الخامسة منذ عام 2016. وستستند عمليةٌ مماثلة، في حال حصولها، إلى المشاحنات الدبلوماسية بين أنقرة وإيران وروسيا والديكتاتور السوري بشار الأسد، إلى جانب حسابات أردوغان الخاصة بشأن الانتخابات التركية المقبلة والاقتصاد المتدهور والنشاط العسكري في شمال العراق. ووفقاً للتصريحات التي أدلى بها في الآونة الأخيرة والتقارير الصحفية التي تنشرها وسائل الإعلام الموالية للحكومة، سيتمثل الهدف المثالي لأي توغل ينفذه أردوغان في استهداف تل رفعت ومنبج وكوباني من أجل طرد «وحدات حماية الشعب»، وهي القوة الكردية التي تشكل الدعامة العسكرية لـ «قوات سوريا الديمقراطية» لكن تركيا تعتبرها منظمةً إرهابية. ومع ذلك، من المرجح أن يكتفي بأحد تلك الأهداف – يُفترض أن تل رفعت، هي الخيار الأقل حساسية من الناحية السياسية – رهناً بالقبول الأمريكي والإنجازات التي يحققها الرئيس التركي على الساحة الدبلوماسية.
وفي جميع الأحوال، تبقى استراتيجية أنقرة الشاملة كما هي: حصر «قوات سوريا الديمقراطية» التي يهيمن عليها الأكراد في مواقعها الشرقية، أو على الأقل تفكيك أراضيها إلى جيوب غير متجاورة، بما يتماشى مع نية أردوغان التي أعلن عنها مراراً وتكراراً والقاضية بإنشاء “منطقة أمنية” تمتد 30 كيلومتراً إلى الداخل السوري. ومع ذلك، فإن تنفيذ هذه الخطة يمكن أن يشكل تهديداً خطيراً لجهود الولايات المتحدة و «قوات سوريا الديمقراطية» الرامية إلى منع عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»؛ لذلك على واشنطن اتخاذ خطوات سريعة وطارئة لضمان تراجع تركيا عن موقفها.
ازدياد جرأة تنظيم «الدولة الإسلامية»
على الرغم من الجهود المستمرة المبذولة لمكافحة الإرهاب، يعيد تنظيم «الدولة الإسلامية» مؤخراً ترتيب صفوفه في شمال شرق سوريا ويكثّف أنشطته في الأراضي الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية». ومن المثير للاهتمام أن هذا الواقع لا ينعكس في إحصاءات الهجمات الرسمية للجماعة. فقد تبنى التنظيم عبر صحيفة “النبأ” الأسبوعية التابعة له 224 هجوماً في سوريا بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر، في تراجعٍ بنسبة تفوق 28% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي. لكن التنظيم امتنع مؤخراً عن الإعلان عن كامل أنشطته في سوريا، ومن المرجح أن يكون ذلك سعياً منه إلى إخفاء قدراته استعداداً لعمليات أكبر. وبالفعل، أفاد أحد التقارير أنه تبنى 25% فقط من الهجمات التي نفذها في منطقة البادية عام 2020 وأوائل عام 2021. وكشفت دراسة أخرى عن ندرة ملفتة في الإبلاغ عن الهجمات العام الماضي، وخاصةٍ في الحسكة، قبل الهجوم واسع النطاق ولكن غير الناجح الذي شنّه التنظيم على سجن “الصناعة” في تلك المحافظة.
وفيما يتعلق بالاستيلاء على مخزن الأسلحة في 28 أيلول/سبتمبر، ذكرت «قوات سوريا الديمقراطية» أنها اكتشفت المخبأ بعد استجوابات أجرتها خلال اجتياحها الأخير للهول الذي أسفر عن اعتقال حوالي 300 عنصر من تنظيم “الدولة الإسلامية”. وأشارت أيضاً إلى أن هذه الاستجوابات كشفت عن تخطيط التنظيم لاستخدام المخبأ لمهاجمة الهول، مما يشير إلى أن خلاياه السورية ربما لا تزال قادرةً على التخطيط لعمليات كبيرة.
وبالمثل، تشير أنشطة تنظيم «الدولة الإسلامية» داخل الهول إلى القوة التنظيمية الدائمة للجماعة. فبالإضافة إلى الاعتقالات المبلغ عنها، أسفرت عملية «قوات سوريا الديمقراطية» التي دامت 24 يوماً في المخيم عن تحرير أسرى من قبضة التنظيم وعن مصادرة متفجرات ومعدات عسكرية كانت الخلايا تخزنها على الأرجح لتنفيذ عملية لاحقة. وتذكّر هذه التحضيرات بالهجوم على سجن “الصناعة” الذي ضم هجمات متعددة المحاور نفذها تنظيم «الدولة الإسلامية» وتزامنت مع عملية تمرّد داخل السجن.
كما أصبح عملاء «الدولة الإسلامية» أكثر جرأة بشأن مهاجمة «قوات سوريا الديمقراطية» مباشرةً. وأشار أحد كبار أفراد القوات إلى أن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد زاد بشكل كبير من استهدافه لعناصر «قسد»، وغالباً ما كان يعرض صوراً لهذه الأعمال عبر الإنترنت. على سبيل المثال، بعد مقتل 6 من أفراد «قوات سوريا الديمقراطية» في دير الزور في 11 أيلول/سبتمبر، نشر التنظيم صورةً لجثثهم. وكان ردّ فعلٍ العملاء داخل الهول أكثر عنفاً إزاء غارات «قوات سوريا الديمقراطية»، حيث قتلوا مقاتلان في إحدى المرات.
عامل أردوغان
تصاعدت وتيرة هجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» في ظل بيئة أكثر تساهلاً فاقمتها تهديدات أردوغان بالغزو. وقد كثفت القوات التركية أساساً حملة هجماتها بطائرات مسيرة وقصفها لمواقع «قوات سوريا الديمقراطية»، مستهدفةً بشكلٍ مباشر قادة ومسؤولين مدنيين تزعم أنقرة أنهم يتنمون إلى «حزب العمال الكردستاني»، المصنّف على قائمة الإرهاب التركية. وأفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” منذ أيلول/سبتمبر عن ثمانية وخمسين غارة تركية بطائرات مسيرة ضد «قوات سوريا الديمقراطية» هذا العام، مما تسبب بمقتل ستة وخمسين مقاتلاً وعشرة مدنيين. وكان من بين الضحايا نائبة قائد «قوات سوريا الديمقراطية» سلوى يوسف التي نالت الكثير من التقدير في أوساط الجيش الأمريكي لشجاعتها ومساهماتها في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية».
وأعلن “مركز معلومات شمال وشرق سوريا” ومقره القامشلي حتى عن عددٍ أكبر من الهجمات التركية بطائرات مسيرة، حيث أبلغ عن تنفيذ إثنين وستين هجوماً في شهر واحد فقط (من 19 تموز/يوليو إلى 18 آب/أغسطس) مشيراً إلى أن تسيير الطائرات بدون طيار فوق شمال شرق سوريا قد ازداد بواقع ثلاث مرات خلال تلك الفترة. كما سجل قصفاً شبه يومي بالمدفعية والهاون استهدف قرى على طول الخطوط الأمامية التي تتواجد فيها «قوات سوريا الديمقراطية» على يد كل من الجيش التركي و”الجيش الوطني السوري”، وهو الميليشيات السورية الموالية لأنقرة. وأشارت التقارير إلى أن هذه الهجمات أسفرت عن مقتل تسعة وعشرين مقاتلاً وخمسة وسبعين مدنياً.
ونتيجةً لذلك، وجد قادة «قوات سوريا الديمقراطية» أنفسهم مضطرين إلى التركيز بشكلٍ أكبر على الاستعداد لمواجهة غزو تركي محتمل وتعزيز تدابير حماية قواتهم – كل ذلك على حساب القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». ويُذكّر هذا الوضع بتخفيضات سابقة في قدرة «قوات سوريا الديمقراطية» قبل تنفيذ تركيا ثلاث عمليات عسكرية كبيرة ضد الجماعة (كانت الحملة الجوية في أوائل عام 2020 أكثر تركيزاً على حماية “هيئة تحرير الشام”، الجماعة الجهادية في إدلب، من نظام الأسد):
- “عملية درع الفرات” (آب/أغسطس 2016-آذار/مارس 2017): استولت القوات التركية على جرابلس والراعي والباب من تنظيم «الدولة الإسلامية» بهدف منع توسّع «قوات سوريا الديمقراطية» في هذه المناطق وإنشاء قاعدة لعمليات المتابعة ضد هذه القوة ذات القيادة الكردية. وأسفرت العملية عن إرجاء حملة «قوات سوريا الديمقراطية» لتحرير الرقة عاصمة التنظيم إلى حزيران/يونيو 2017.
- “عملية غصن الزيتون” (كانون الثاني/يناير-آذار/مارس 2018): استولت القوات التركية على عفرين من «قوات سوريا الديمقراطية»، مما أخّر حملة هذه الأخيرة لتحرير آخر معاقل تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى أواخر عام 2018؛ وساهم هجوم مضاد كبير للتنظيم بين تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر في دفع الخطوط الأمامية للقوات إلى الوراء، وقد ضعفت بعد انتشار المقاتلين في أماكن أخرى للتصدي للقوات التركية.
- “عملية نبع السلام” (تشرين الأول/أكتوبر-تشرين الثاني/نوفمبر 2019): انتزعت القوات التركية رأس العين وتل أبيض من «قوات سوريا الديمقراطية»؛ بعد ذلك، ازداد تبني تنظيم «الدولة الإسلامية» للهجمات بنسبة 20% وتوقفت غارات «قوات سوريا الديمقراطية» على التنظيم لمدة شهر، مما ساهم في توقف عام في أنشطة التحالف لمكافحة الإرهاب.
وبالفعل، ساهمت استراتيجية تركيا المتمثلة بتنفيذ توغلات نحو سوريا مراراً وتكراراً في تراجع القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وهي تعيد الكرة اليوم. ففي الوقت الذي تعيد فيه الجماعة الإرهابية رص صفوفها بشكلٍ ملموس في شمال شرق سوريا وتستهدف «قوات سوريا الديمقراطية» بوقاحةٍ أكبر، تُعتبر هذه اللحظة خطيرة بشكلٍ خاص في حال حدوث أي صدمة خارجية قد تمحو التقدّم الذي أحرزته واشنطن وشركاؤها.
التداعيات السياسية
يجدر بالولايات المتحدة اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع الرئيس أردوغان من تنفيذ تهديداته بالتوغل. وكانت الضغوط الدبلوماسية الدولية مفيدةً في هذا الصدد، إلا أنه لا بدّ من اتخاذ إجراءاتٍ إضافية لكبح هجمات تركيا بالطائرات المسيرة وقصفها لمواقع «قوات سوريا الديمقراطية». على إدارة بايدن اتخاذ موقفٍ أكثر صرامةً بشأن هذه المسألة، وحتى التهديد بإلغاء عملية بيع مقاتلات “أف-16” لأنقرة إذا لم تتراجع. بالإضافة إلىذلك، يجب إعادة نشر نحو 900 جندي أمريكي متواجدين في سوريا ليكونوا أقرب إلى المناطق التي تحتلها تركيا والحدود الشمالية، وبالتالي طمأنة حلفاء واشنطن في «قوات سوريا الديمقراطية» مع المساعدة في ردع المزيد من الهجمات التركية.
كما يتعين على الإدارة الأمريكية النظر في فرض عقوبات على بعض قادة المجالس المحلية المنشأة لحكم المناطق التي تحتلها تركيا في سوريا. فقد تمّ اتهام بعض هذه الشخصيات بممارسة أنشطة خبيثة، بدءاً بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد الشعب الكردي وصولاً إلى العمل كقنوات للدعم التركي للجماعات الجهادية (على سبيل المثال، عناصر بارزة في “الجيش السوري الحر” مثل «أحرار الشام»؛ و«هيئة تحرير الشام» المصنفة جماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة).
ويتعين على واشنطن على المدى البعيد مواصلة بذل كافة الجهود الممكنة لتعزيز «قوات سوريا الديمقراطية» وبناء الاقتصاد والبنية التحتية في شمال سرق سوريا. ويُعتبر استثناء أراضي «قوات سوريا الديمقراطية» من عقوبات “قانون قيصر الأمريكي” في الآونة الأخيرة خطوةً مرحباً بها، لكن من الضروري فتح معابر حدودية وتوفير الأمن بشكلٍ أفضل لتحفيزالنمو الاقتصادي – وهي تحسينات قد تتطلب مساعدة واشنطن لحل المشاكل القائمة منذ فترة طويلة بين «قوات سوريا الديمقراطية» و «حكومة إقليم كردستان» المجاورة في العراق. وإلى حين تحقيق ذلك، من الضروري استمرار الدعم المالي لتعزيز مرافق الاحتجاز التابعة لـ «قوات سوريا الديمقراطية» وتخفيف الضغوط عنها لكي تتمكن من التركيز على المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكلٍ أكبر. إلا أن كل هذه الجهود ستكون مهددةً إذا نفذت تركيا غزواً جديداً.
عيدو ليفي
معهد واشنطن