مواجهة مؤامرات الحرس الثوري الإيراني

مواجهة مؤامرات الحرس الثوري الإيراني

يواصل المسؤولون الإيرانيون إصدار الأوامر بشن ضربات على الأراضي الأمريكية في خضم إجراء مفاوضات حساسة. ويعود السبب لذلك لأنهم يعرفون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب.
هذا الأسبوع، اتهمت وزارة العدل الأميركية شهرام بورصافي، مواطنا إيرانيا مقيما في طهران، بالتخطيط لقتل مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون. وأفادت بعض التقارير أن بورصافي، وهو عضو في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وافق على دفع 300 ألف دولار لقتل بولتون، وعرض مليون دولار من أجل تنفيذ مؤامرة أخرى للقتل مقابل أجر – وهذا الأخيرة تستهدف على ما يبدو وزير الخارجية الأمريكي ومدير “وكالة المخابرات المركزية” السابق مايك بومبيو. (وكان الشخص الذي “استُؤجر” لقتل بولتون مصدراً بشرياً متعاوناً مع “مكتب التحقيقات الفيدرالي” الأمريكي). ووصف “مكتب التحقيقات الفيدرالي” بورصافي بأنه “عضو نظامي” في الحرس الثوري، مضيفاً أنه “تم تقييمه على أنه يعمل نيابةً عن” فيلق القدس التابع للحرس الثوري عندما استخدم أفراداً في الولايات المتحدة لتنفيذ جرائم القتل هذه.
وتشبه الإفادة الخطية التي تستند إليها الشكوى الجنائية رواية تجسس. فبالنسبة للكثيرين، من الصعب بعض الشيء استيعاب فكرة قيام عملاء إيرانيين بتجنيد وكلاء في الولايات المتحدة لاغتيال مسؤولين سابقين في الحكومة الأمريكية بالقرب من منازلهم في ضواحي ماريلاند أو مكاتبهم في العاصمة واشنطن. ويبدو هذا الأمر مذهلا جدا لدرجة أنه لا يمكن أن يكون حقيقياً. لكن في الواقع، لإيران سجل حافل في تنفيذ عمليات الاغتيال والاختطاف والمراقبة التي تستهدف المصالح الأمريكية والغربية الأخرى حول العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة. ويحتفظ كاتب هذه السطور بقاعدة بيانات حول العمليات الخارجية الإيرانية، والتي، على الرغم من عدم اكتمالها، تضمّ حاليا 105 حالات تمتد على مدى 43 عاماً منذ الثورة الإيرانية في عام 1979. وعند حصر التحليل بالعقد الماضي، تبقى الأرقام مقلقة. فمن بين 62 حالة تابَعْتُها خلال العقد الماضي، استهدفَتْ 23 عملية منشقين إيرانيين، و 28 حالة استهدفت يهوداً أو إسرائيليين، و20 حالة استهدفت دبلوماسيين، و14 حالة استهدفت مصالحَ غربية على وجه التحديد، وستة استهدفت مصالح دول الخليج العربي. ووقعت هذه الأحداث في جميع أنحاء العالم، من بينها 18 مؤامرة في الولايات المتحدة.
والجدير بالذكر أن مؤامرة الاغتيال الخارجية الأولى التي نفذها عملاء جمهورية إيران الإسلامية وقعت في بيثيسدا بولاية ماريلاند الأمريكية، خارج واشنطن العاصمة مباشرة – وهي المنطقة العامة نفسها التي تآمر فيها بورصافي لقتل بولتون خلال الأشهر القليلة الماضية. ففي تموز(يوليو) 1980، جنّد وكلاء إيرانيون ديفيد بلفيلد (المعروف أيضاً باسم داود صلاح الدين)، وهو أميركي اعتنق الإسلام الشيعي، لاغتيال الدبلوماسي الإيراني السابق علي أكبر طباطبائي في بيثيسدا بولاية ماريلاند. وازداد حدوث مثل هذه المؤامرات في التسعينيات، حيث صرّح مسؤول أمريكي رفيع المستوى في مجال مكافحة الإرهاب في عام 1997، أن لدى الحكومة الأمريكية “معلومات قوية” لتأكيد تقييمها حول مسؤولية إيران عمّا يُقدَّر بـ”50 جريمة قتل معارضين سياسيين وغيرهم في الخارج” منذ عام 1990.
وتُواصل إيران استهداف المعارضين الإيرانيين، مع التركيز على أنشطة “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية”، المعروف أيضاً باسم “مجاهدي خلق”. ففي الشهر الماضي، ألغت هذه الجماعة قمة كان من المقرر عقدها في ألبانيا، حيث يقع مقر الجماعة حالياً، بعد تلقيها تحذيرات من السلطات بشأن تهديد إيراني محتمل. كما قام عملاء إيرانيون بمراقبة أنشطة “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” في الولايات المتحدة.
وفي تشرين الثاني(نوفمبر) 2019، اعترف عميلان إيرانيان – أحدهما مواطن إيراني-أميركي يحمل جنسية مزدوجة والآخر إيراني يعيش في كاليفورنيا – بذنب مراقبة مواطنين أميركيين من أعضاء “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية”. فقد حضر العميلان تجمعات هذا “المجلس” في مدينة نيويورك وواشنطن العاصمة. وعند التحقيق، كان عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي” يراقبون أحدهما في شيكاغو أثناء التقاطه صوراً لـ “مركز هليل” و”مركز روهر حاباد”، وهما مؤسستان يهوديتان في “جامعة شيكاغو”. وبعد ذلك، وكما هو الحال في مؤامرة بولتون، كان العميلان الإيرانيان على اتصال منتظم بمسؤوليهم في الحرس الثوري في إيران، مما يؤكد أن هذه ليست مجرد عمليات مارقة بل مؤامرات يديرها مسؤولون إيرانيون.
وفي الآونة الأخيرة، أرسلت إيران وكلاء لها مرتين خلال العام الماضي من أجل استهداف الناشطة الإيرانية-الأميركية في مجال حقوق الإنسان مسيح علي نجاد، التي تعيش في نيويورك. ففي تموز(يوليو) 2021، وجّهت وزارة العدل الأميركية لائحة اتهام إلى أربعة مسؤولين في الاستخبارات الإيرانية، إلى جانب متآمر مشارك ومقيم في كاليفورنيا، بتهمة التآمر لاختطاف علي نجاد في نيويورك وتهريبها قسراً إلى إيران. ووفقاً للسلطات الأميركية، فإن مسؤول الاستخبارات الإيرانية الذي قاد هذه المؤامرة يدير أيضاً شبكة من العملاء الإيرانيين استهدفت ضحايا آخرين في كندا والمملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة.
ومن اللافت للنظر أن الكشف العلني عن هذه المؤامرة والاهتمام الإعلامي الكبير الذي لفتته لم يردعا إيران عن متابعة تنفيذ مؤامرة أكثر وقاحة لاستهداف علي نجاد. ففي وقت سابق من هذا الشهر، التقطت الكاميرا المثبَّتة على باب [بيت] علي نجاد مشاهد مصورة لرجل يقف على شرفة منزلها الأمامية ويلتقط صوراً أو فيديو بواسطة هاتفه. ورداً على سلوكه المشبوه، أوقفته الشرطة عندما اجتاز إحدى إشارات التوقف ووُجد أنه يقود سيارته بدون رخصة. وعندما فتشت الشرطة سيارته، عثرت على حقيبة محملة ببندقية هجومية من طراز “أيه كيه-47” أُزيل عنها الرقم التسلسلي، ومبلغ نقدي قيمته 1,100 دولار.
وتُحدد دراستي المتعلقة بالتخطيط للعمليات الخارجية الإيرانية عدة اتجاهات رئيسية حول طبيعة هذه الأنشطة. كما تكشف عن عن أن مثل هذه الأنشطة آخذة في الازدياد – خاصة تلك التي تستهدف المصالح الغربية و/أو تنفذ في الدول الغربية.
أولاً، ترى إيران أن العمليات الخارجية التي تستهدف أعداءها المفترَضين – سواء كانوا منشقين سياسيين؛ أو نقاد النظام؛ أو يهود؛ أو مسؤولون أميركيون أو إسرائيليون أو أوروبيون أو خليجيون يشاركون في أنشطة مكافحة السلوكيات الخبيثة لإيران، من بين آخرين – تشكل وسيلة فعالة من حيث التكلفة لحماية النظام الثوري في طهران. ففي الوقت الذي يشعر فيه النظام بأنه يتعرض لضغوط متزايدة في الداخل، سيدافع الحرس الثوري الإيراني على الأرجح بقوة عن الثورة. وفي نظر القادة الإيرانيين، تشكل هذه المؤامرات رداً متناسباً ومعقولاً على دعم الجماعات الإيرانية المنشقة أو أفعالها، مثل القتل المستهدف في كانون الثاني(يناير) 2020 للواء في فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. وفي الواقع، يبدو أن المؤامرات ضد بولتون وبومبيو كانت تهدف إلى الانتقام من مقتل سليماني.
ثانياً، تستمر مخططات الاغتيال والمراقبة والاختطاف الإيرانية بلا هوادة على الرغم من الدعاية السلبية التي ترافق اعتقال العملاء الإيرانيين. وكان هذا صحيحاً في حالة مسيح علي نجاد في الولايات المتحدة، ولكن في أماكن أخرى أيضاً. فبعد إلقاء القبض على دبلوماسي إيراني وعدة عملاء آخرين في أنحاء أوروبا بتهمة التخطيط لتفجير تجمع خاص بـ “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية” في تموز(يوليو) 2018 في باريس، ربط المدّعون البلجيكيون المؤامرة صراحةً بوزارة الاستخبارات والأمن الإيرانية، التي “تشمل مهامها بشكل أساسي المراقبة المكثفة لجماعات المعارضة داخل إيران وخارجها ومحاربة هذه الجماعات”. وقد أُدين الدبلوماسي الإيراني وحُكم عليه بالسجن لمدة 20 عاماً لدوره في المؤامرة، لكن على مدار السنوات الثلاث التالية، تابع الوكلاء الإيرانيون السعي لتنفيذ حوالي 26 مؤامرة عبر قارات متعددة.
والأهم من ذلك، تشير البيانات إلى أن إيران تسعى بقوة إلى تنفيذ مؤامرات الاغتيال والاختطاف والإرهاب والمراقبة الدولية، حتى في الأوقات والأماكن الحساسة بشكل خاص. فباستثناء الفترة التي امتدت 23 شهراً بعد هجمات الحادي عشر من أيلول(سبتمبر)، حين سعت إيران بنشاط إلى تجنب الوقوع في “الحرب على الإرهاب”، نفّذ العملاء والوكلاء الإيرانيون العمليات حتى خلال فترات المفاوضات الرئيسية. وكما يتضح من هذه المؤامرات الأخيرة، يشمل ذلك متابعة العمليات – من بينها تلك التي يتم القيام بها في الولايات المتحدة – حتى في خضم المفاوضات حول إمكانية العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة. وكان هذا هو الحال أيضاً أثناء المفاوضات الأصلية حول خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية في ظل إدارة أوباما ومباشرة بعدها.
وقد سبق التصعيد في العمليات الخارجية الإيرانية عملية القتل التي استهدفت سليماني، لكن يبدو أن هذا الحدث زاد بشكل كبير من خطر الانتقام الإيراني. وتوقعت السلطات الأمريكية ذلك، كما يتضح من “نشرة الاستخبارات المشتركة” التي صدرت بعد أيام قليلة من الضربة التي استهدفت سليماني، محذرةً من أن “التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران تشكل تهديدات محتملة للوطن [الأميركي]”. وشددت النشرة على ضرورة “الحفاظ على اليقظة في حالة وجود تهديد محتمل موجه من حكومة إيران أو يتم طرحه من قبل أحد داعميها المتطرفين والعنيفين على الأفراد والمرافق وشبكات [الحاسوب] الموجودة في الولايات المتحدة”.
ووفقاً لقاعدة البيانات التي طورها كاتب هذه السطور (والتي، على الرغم من أنها غير شاملة، إلّا أنها تمثل عدد العمليات الخارجية الإيرانية على مدى العقود العديدة الماضية)، فإن 23 من إجمالي 105 مؤامرة إيرانية خارجية تتَبَعها الكاتب منذ عام 1980 قد حدثت منذ مقتل سليماني في كانون الثاني (يناير) 2020 – مما يمثل زيادة غير عادية في عدد الحوادث. علاوةً على ذلك، وقعت ستة من هذه الحوادث البالغ عددها 23 (26.1 في المائة) في الولايات المتحدة، مقارنةً بوقوع 12 من أصل 82 (14.6 في المائة) من الحوادث قبل مقتل سليماني.
وفي وقتٍ سابقٍ من هذا العام، أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها تدفع أكثر من مليوني دولار شهرياً لتوفير الأمن للمسؤولَيْن السابقَيْن مايك بومبيو وبرايان هووك بسبب التهديدات “الجادة والموثوقة” التي تطرحها إيران. ويفسر ذلك سبب قيام بورصافي بإخبار مجنِّدِه – الذي كان يعمل مع “مكتب التحقيقات الفيدرالي” – أن استهداف بومبيو كان خطيراً نظراً إلى الفريق الأمني المحيط به، لكن “وقته سيحين”. وفي الواقع، طلب بورصافي من المصدر التركيز على هذه المهمة الأولى (قتل بولتون) لكنه قال إنه “ستكون هناك مهام أخرى” وإن أمامهما “سنوات من العمل الذي يجب أن يقوما به معاً”.
وعادةً ما تسعى إيران إلى تنفيذ عملياتها مع ضمان إمكانية اللجوء إلى قدرٍ من الإنكار. وتحقيقاً لهذه الغاية، غالباً ما توظف أشخاصاً مزدوجي الجنسية ووكلاء ومجرمين لتنفيذ المهام الرئيسية. لكن الأحداث الأخيرة تؤكد كيف أن إيران ما تزال أيضاً تنشر رعاياها لتنفيذ العمليات أو الإشراف عليها. ففي مؤامرة قتل بولتون، أخبر بورصافي عميله أنه لا يريد أن يتم تتبع أي أموال ونسبها إلى أي منهما، واتبع الاثنان أنواعاً مختلفة من إجراءات الأمن التشغيلي عند تواصلهما. لكن عندما سأل المصدر بورصافي عما سيحدث إذا نُسبت جريمة القتل إلى إيران، لم يبدُ بورصافي منزعجاً وقال إنه لا داعي للقلق لأن وحدته [العسكرية] (أي الحرس الثوري الإيراني) ستتولى الأمر. ورداً على اتهام بورصافي، وجّه متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بالفعل تحذيراً من تنفيذ “أي عمل ضد المواطنين الإيرانيين بحجة هذه الاتهامات السخيفة التي لا أساس لها”.
ويطرح كل ذلك السؤال عن سبب انخراط إيران في مثل هذه الأنشطة العدوانية، حتى في أوقات المفاوضات الحساسة، وحتى لو كانت ستتعرض لفضيحةٍ تكشف ذنبها. والإجابة هي أن المسؤولين الإيرانيين يعتقدون أن بإمكانهم القيام بذلك من دون تكبُّد أي تكلفة تُذكر أو من دون دفع الثمن على الإطلاق.
وترى إيران أن الفوائد المحتملة لمثل هذه العمليات كبيرة، في حين أن تكاليف اكتشاف اضطلاعها بها منخفضة وعادةً ما تكون مؤقتة. فبينما تُفرض العقوبات غالباً، إلّا أنها غالباً ما تُرفع أيضاً لاحقاً. ويتم إطلاق سراح الجناة المسجونين بشكل منتظم إلى حدٍ ما ضمن عمليات تبادل الأسرى. وكان من المستحيل تقريباً تحقيق الأمر الوحيد الذي قد يؤثّر حقاً في حسابات صنع القرار في إيران – أي العزلة الدبلوماسية – نظراً للجهود الموازية الرامية إلى التفاوض على اتفاق نووي، والمخاوف النابعة من إمكانية انتقام إيران عبر تنفيذها المزيد من الأنشطة القتالية العدوانية في المنطقة وخارجها.
وكانت المرة الوحيدة التي وحّد فيها المجتمع الدولي صفوفه وفرضَ تكاليف دبلوماسية منسقة على إيران هي بعد أن وجدت محكمة ألمانية أن إيران مسؤولة عن الهجوم الذي وقع في مطعم ميكونوس في برلين عام 1992 – والذي قُتل فيه صادق شرفكندي، رئيس جماعة معارضة كردية إيرانية. وبعد هذا الحادث، قامت عدة دول أوروبية بسحب سفرائها لفترة وجيزة من طهران، لكنهم سرعان ما عادوا. وبينما تم إلقاء القبض على عدد قليل من المهاجمين وإدانتهم، إلّا أنه لم تتم أبداً محاسبة القادة الإيرانيين المتورطين في الهجوم. حتى أن بعضهم، مثل علي أكبر ولايتي، استمر في شغل مناصب أعلى ولعب أدواراً في مؤامرات إرهابية إضافية.
وهناك أهمية لتدابير إنفاذ القانون التي تشبه هذا الإجراء الأخير، حتى عندما تتضاءل فرصة القبض على المتهم، الذي لا يزال في هذه الحالة في إيران. لكن لوائح الاتهام والتصنيفات المالية ليست ردوداً كافية على مثل هذه الأنشطة – خاصة عندما يتم التخطيط لها على الأراضي الأمريكية. وعلى الأقل، يجب أن يشمل رد الولايات المتحدة وحلفائها العزلة الدبلوماسية، وحظر السفر الذي يمنع أفراد عائلات القادة الإيرانيين من الدراسة في الخارج أو الذهاب في رحلات تسوق إلى الغرب، وغيرها من الإجراءات التي تجعل صنّاع القرار الإيرانيين يتكبدون تكاليف ملموسة.

الغد